رأيتـه لأول مرة في حياتي في بيت الصديق محيي الدين محمد الناقد الذي كان واعدا. كان محيي قد قال لي وللصديق وحيد النقاش أنه سيعرفنا بصديق سيكون يوما من كتاب القصة المرموقين اسمه: إبراهيم أصلان، ولم يكن إبراهيم قد كتب قصة مقروءة لنا بعد. حين رأيته، وكان يبتسم لي، توقفت عند شاربه الكث، وحاجبيه الكثين، وتكوين وجهه كما لو كان من أمريكا اللاتينية.

لوحة قلميـة

أبو خليل.. قاص المنمنمات

سليمان فيّاض

رأيتـه لأول مرة في حياتي في بيت الصديق محيي الدين محمد الناقد الذي كان واعدا. كان محيي قد قال لي وللصديق وحيد النقاش أنه سيعرفنا بصديق سيكون يوما من كتاب القصة المرموقين اسمه: إبراهيم أصلان، ولم يكن إبراهيم قد كتب قصة مقروءة لنا بعد. حين رأيته، وكان يبتسم لي، توقفت عند شاربه الكث، وحاجبيه الكثين، وتكوين وجهه كما لو كان من أمريكا اللاتينية. كان وجهه مصريا يوحي بأنه ابن بلد. وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث، ونتأمل رسوم محي البروفيه السوداء المحبر بالفحم، المصمتة بلا ملامح داخل الغرفة المتواضعة المطلية بجير أصفر: رسم منها كان فوق رأس السرير على الجدار. ورسم بقابله بجانب النافذة. والرسمان لوجه زنجي بشفتين مفترتين، غليظتين، كأنهما تشيران إلى أصول محيى الإفريقية. ورسم أخر على زجاج ضلفتي النافذة لأغصان أشجار بها أوراق خضراء وزهور ملونة, وبدت لي الشجرة وكأنها ممتدة إلى الأسفل، وصاعدة لتؤنس محي في غرفته البائسة. ووقعت عيناي على خلفية شباك السرير فوق رأس من ينام كانت رسوما كارتونية ملونة من رسوم الأطفال في أوضاع شتى. وقتها كان إبراهيم يشرب البايب وينفث دخانه. قال لمحيي ضاحكا:

- أحسن حاجة تشتغل رسام أطفال يا محيي. لديك موهبة مدهشة في رسوم الأطفال.

فنظر إليه محي معاتبا، ولم يقل شيئا. كان ير يد أن يكون ناقدا. كانا يعملان معا في مكتب للبريد على ما أذكر، وكانا يسعيان أحدهما إلى الآخر. أبو خليل من حي الكيت كات حيث كان يسكن، ومحيي من حي عابدين حيث كان يعيش.

وأذكر أني ارتحت إلى إبراهيم أصلان وأنست إلى ملامحه الودودة، وعينيه الواسعتين المظللة بحاجبيه، اللتين تنظران إلى كل ما حوله بدهشة، وكأنه يراها لأول مرة. وحين صافحته مودعا فاجأني أنني قلت له:

-                               سنلتقي دائما يا أبو خليل.

كنت أعرف "براهمة" عديدين، ولكنني لم ألقب أحدهم بهذا اللقب الأنيس إلى نفسي: أبو خليل.

***

بين حين وآخر كنت أرى أبو خليل جالسا مع أعضاء شلة بمقهى ريش من المثقفين يستمع أكثر الوقت، ولا يتكلم إلا قليلا وباهتمام عندما يتحدث أحد عن كتاب جيد قرأه؟، خاصة إذا كان هذا الكتاب مجموعة قصصية، أو رواية مؤلفة كانت أو مترجمة، وبذهب لشرائها إذا سمحت قروشه. كانت أجود الكتب لا تزال آنئذ بقروش. أو يستعيرها ممن قرأها ويعيدها إليه بعد أن يكون قد قرأها بل شربها في روحه قطرة قطرة./ هكذا كان يقول لي أبو خليل: العمل الجيد فتنة وسحر ومعرفة بالعام وبالنفس. ولم يحدث قط أن رأيت معه صديقه على كافتيريا ريش أو غير ريش. وكلما سألته عن محيي وأحواله يقول لي أنه كان معه البارحة، وأنهما قضيا معا وقتا طيبا. وكان محيي يحب أن يلتقي بالناس فرادى بعيد عن الأماكن العامة، ويواصل تثقيف نفسه بنفسه، وشهرا بعد شهر صار أبو خليل ركنا أساسيا من أركان شلتنا في ريش، نفتقده إذا غاب ونزيط ونهيص حين نراه. كان خفيف الظل والضحكة والبسمة قفاشا للنكت والتعليقات الفورية, وكانتا ملاحظاته الأدبية خاطفة ونفاذة، حتى وهو يجذب نفسا من البايب ويخرجه من بين شعرات شاربه. وكان قد بد\ يتجاوز معنا حدود من يجلس على هامش الجالسين من محبي الثقافة والمثقفين، حين راح ينشر قصصه القصيرة جدا، المفعمة بالشاعرية، ودقة الاختيار للألفظ، وصفائها وتعانقتها مع رفيقاتها أينما وضعت. مؤثرا الجمل الاسمية القصيرة، ربما هربا من الوقوع في أخطاء الحمل الفعلية، والأخطاء الإعرابية في الإعراب بالحروف. كانت قصصه بديعة فائقة النمنمة، تتواصل فيها ألوان الكلمات بالتجاور كما يمكن أن تتواصل الأكتاف والمصافحات باللمسات، ونظرات العيون بالنظرات، والكلمات المسموعة بالنبرات. بدا لنا نحن فتية ريش كاتبا خاصا ذا مذاق خاص مثلما كانت ليحي حقي خاصة بين كتاب جيله وبعدهم خصوصيته الإبداعية المرهفة، التي لا يمكن أن يقاربه أحد فيها سوى نفسه. وكثيرا ما كان أبو خليل يضحكنا بحكايات بطل شخصية قصته "وردية ليل" قبل أن يكتب منها سطرا واحدا. وكانت أقص لحظات السعادة عند بطل وردية ليل التي يرويها لرفاقه في قلب الليل، هي حين يعود إلى البيت:

- أحلى شيء في الدنيا حين تعود إلى بيتك، وتفتح لك مراتك بابك، وتجلس لتأكل محشيك، وتجلس في بلكونتك، شامم هواك، وممدد رجليك، وقبالك مراتك بتشرب في شايك.

يحكي ذلك أبو خليل وهو يضحك مفتونا من قلبه، ونحن نضحك لما يحكيه من جمل؟، متعجبين من ضمير الكاف في كل العبارات. في هذه الفترة كانت قصص أبوخليل قليلة، وظلت قليلة ونادرة. لم نر له قصة واحدة تضعف في نفوسنا. كـأنه كلتب قصة حولي، سألته مرة عن سبب ندرة قصصه، فقال لي: العدد في الليمون يا بو داود. وكله ليمون في النهاية ليمون، الحلوة على الوحشة، والصغير على الكبيرة. والطيبة المذاق على المرة المذاق.

***

شرقت وبحرت في أسفاري المضطرة للعمل وعدت. وجدت أبو خليل وقد صار نجما بقصصه القليلة في سنوات الستينيات المنشورة في مجلة صديقه الأثير وأستاذه يحي حقي رئيس تحرير مجلة المجلة، وفي الصفحة الأدبية الأخيرة التي يشرف على تحريرها صديقه الأخر، نظيره المقابل له في الصحافة: عبد الفتاح الحمل.

***

أحيانا حول إبراهيم، كان يجلس محبوه والمعجبون بطريقته في القص من شباب جيل جديد. كان يراهم قادمين فيذهب إليهم، وينفرد بهم في ركن من ريش، أو كان يأتي ويراهم جالسين متوحدين في انتظاره، فيشير إلى شلتنا محييا من قرب، ويجلس معهم منفردا بهم، ويسحب بايبه، ويعده للتدخين، وأذناه مفتوحتان تصغيان. ومع ذلك لم يكن أبو خليل قد نشر مجموعته الأولي بعد، فلم ينشرها إلا في مطلع السبعينيات، هو المحسوب على أنه من كتاب القصة في جيل الستينيات، فلم يكن متعجلا أن ينشر له كتاب، تحتفي به الحياة القصصية في مصر .

***

تقريبا كان هذا الموقف المحزن قبل عام النكسة بعام واحد. لقيت أبو خليل مصادفة سائرا كالتائه على رصيف بشارع سليمان باشا بوسط القاهرة. لم ينتبه إلي في شروده. استوقفته فنظر إلي كمن وجد النجدة. بدا لي في غاية الضعف، وأنه بحاجة إلى أحد يحدثه. صحبته ربما إلى مقهى جزبرة الشاي الدافئ الوسنان. قلت له وأنا أجلس:

-                               هنا أحيانا أجلس لأكتب.

وكأنما فتحت له بابا لما في نفسه، فقال بيأس:

-                               باب إيه، وكتابة إيه.

وأخرج من جيب قميصه رسالة بلا مظروف وقال لي:

-                               خذ وأقرأ . لا أمل لأحد منا.

فردت طية الرسالة ورحت أقرأ. كانت رسالة من صديقه محيي، واردة إليه من قطر، وكان محي قد نزوج وذهب مع زوجته مرافقا لها، ومن عامها كف محيي عن كتابة النقد. وتشجع فترجم رواية للكاتب لأمريكي "هرمان ملفل"، مؤلف ف الرواية الرائعة "موبي ديك":. كانت الرواية التي ترجمه محيي بعنوان "الجزر الوحشية" ولكنها لم تكفه نفسيا ولم تحقق له غايته من الكتابة في أن يكون ناقدا مبدعا. ودب في نفسه اليأس فيما أعتقد، فتوقف كلية عن كتابة أي شيء، أو الاتصال بأي مجلة، أو مراسلة أي أحد. وثقل يأسه عليه رسالته وبدا كمن يغرق فحبر رسالة صديقه الصدوق وتلميذه أبو خليل.

طويت الرسالة وفهمت ما جرى في نفس أبوخليل. قال لي أبو خليل، وكأن يحيى حقي والوسط الثقافي كله في مصر، والعالم العربي، لم يحتف بإبراهيم أصلان، حتى في زمن الصمت عن القول والنقد في ذلك الحين، ككاتب كبير، ذو مزاج خاص، وطريقة خاصة متفردة في التعبير القصصي، من العسير بل من المستحيل أن يحاكيه فيها أحد من كتاب جيله، أو من تلاميذه المقلدين له ولكنه تقليد كنسخ الكربون. وحدثت نفسي" لم يترك أبو خليل هذا كله ولا يسنمع إلا لصوت متوحد وحيد يأتيه عبر الصحراء بالبريد. قلت لإبراهيم، كلمات أذكر معانيها قلت له دون أن أحدثه عما أعرف مما جرى لمحيي، بعد حبه، وفنائه في حبه، ودماره الداخلي:

-أبو خليل:لا أخاف على كاتب قصة مجيد من نفسه، ولا من تقطع نشره، ولا من قلة ما ينشره فالعدد في الليمون كم كما قلت لي يوما، ولا من عدم توفيقه في قصة، أو قصص كتبها. أخاف عليه فقط من التوقف عن الكتابة كلية، والانشغال عن القص كلية. هذا إذا كان القص حرمه المقدس الخاص به، كلما خلا إلى نفسه قارئا للقص، وكاتبا للقص. كيف تنصت لوحيد متوحد وتستمع فقط لصوت واحد، أو حتى لأصوات العالم كله، ولا تستمع لصوت نفسك؟

نظر إلي أبو خليل وابتسم، وقال لي سعيدا:

-                               الله يعمر بيتك يابو داود.