دراسة نقدية في مسامرات الشاعر محمد عفيفي مطر
عندما يحكي الشاعر
تتجلى الحكاية ملهمًا أول للشاعر، وكونًا يسبح فيه الخيال، وهو الأمر الذي تأثر به عفيفي مطر أولاً، غير إنه تبقى له خصوصية الفلاح المصري الذي يرى مهمة "الشاعر" الأولى هي الحكي، تتبعها مهمة قول الشعر، فالشاعر هو القائم ـ في الريف المصري ـ بنقل وحكاية السير الشعبية مدعومة بأبيات وقصائد تدعم حكمة الموقف، وتستخلص رؤية المنشئ، وتلخص وجهات النظر، فتأتي أقرب إلى بيت القصيد في الشعر العربي القديم. غير إن عفيفي مطر في مسامرات الأولاد لم يتخل عن موقف الشاعر المتأمل، والفرق الوحيد أنه قد قرنه بموقف المعاصر، الأب الذي يسامر أولاده متخذًا من الحكاية مادة أولى للرؤية، واستبطان الحكمة، وهو الأمر الذي يظهر بوضوح في "مسامرات للأولاد كي لا يناموا"، مجموعة النصوص التي تأخذ في مجملها شكل الحكاية الشعبية أو النص السردي القصير، وتستغل في الوقت الذي تستخدم فيه هذا الشكل، لغةً من الشعر تتأبى على المنطق السردي، لكنها تنطلق من رؤية شعرية، ربما تستخدم المجاز، وربما تنحو إلى تكوين مفارق للجملة أو الصورة، لكنها في النهاية تخدم المنطق والمنطلق الحكائي الذي اختاره شاعرنا لصياغة عالمه. تبدو مسامرات الأولاد منذ البداية نصًا بسيطًا في ظاهره، وهو ما يجعنا نتلقاه بحرية تأويلية أكبر، تجعل المتلقي قادرًا على صياغة رؤيته الخاصة، لكن هذه البساطة الخادعة تخفي وراءها عمقًا بديعًا، واستخدامًا واعيًا لأساليب السرد، يضاهي الاستخدام السردي في السرديات الكبرى "القصة والرواية"، وهو الأمر الذي سيجعلنا ننظر إلى المسامرات من خلال بعض التقنيات السردية التي ربما يكون أهما الصورة التي يظهر بها السارد داخل العمل السردي. وفي البداية يمكن لنا ملاحظة أن الخطاب الحكائي في مسامرات عفيفي مطر يظهر على قسمين، الأول قسم يحاول استخلاص حكمة البشرية في إبيجراما سردية يمكن رؤية خصائصها على النحو التالي: أولاً: نمط السارد العليم: يستغل الكاتب إمكانات السارد العليم الذي يظهر في النص في صورة التعبير بضمير الغائب "هو"، الذي يمكنه الولوج إلى داخل الشخصيات والتعبير عما يدور في داخلها والتنقل بينها في يسر، وهي الإمكانات التي تسهم في إيضاح مكونات الشخصيات والوقوف على خطاب سردي أكثر تركيبًا، لكن عفيفي مطر لا يقف عند هذا الحد بل تتداخل لديه رؤية الشعر المنتمي لتراثه مع رؤية السارد والأب/ المربي، الأمر الذي يسهم في اتخاذ النصوص المسرودة عن طريق هذا النمط شكلاً أقرب إلى الحكاية التراثية، بمعرفتها الكلية الشاملة، القادرة على تفسير ظواهر الأشياء تفسيرًا عميقًا يؤدي في نهاية النص إلى تغيير حقيقي في وجهة نظر المتلقي للعالم من حوله، وهو الأمر الذي يميز الحكاية الشعبية التراثية، التي ينسج عفيفي مطر على غرارها، في شكل يقترب من الحكمة المصفاة التي تبدو هي العنصر الأهم في النص التراثي، مع إضافة العامل التربوي في نصه الجديد، وهو عامل يأخذ في اعتباره طبيعة العصر الذي يعيشه ويعبر عنه، مع الأخذ في الاعتبار أن القصة القصيرة تعبر عن أزمة البورجوازية المأزومة، كما يشير شكري عياد، وأن الأزمة الاجتماعية قد تدفع المبدع إلى التخلي ولو مرحليًا عن إبداعه الأصلي في سبيله إلى مواجهة أزمة مجتمعه، وهي أمور تقترب من حيز تجربة مطر التي يدل عليها العنوان المتكرر في قصصه "مسامرة الأولاد كي لا يناموا" حيث يبدو التعبير "كي لا يناموا" مشيراً إلى تلك الأزمة التي تجب الاستفاقة في مواجهتها. ونظرة إلى القصص التي تضمنتها المسامرات، واتخذت هذا الشكل ربما تؤكد وجهة النظر هذه، فقصة مثل "نساج لكل العصور"، و "طائر السعد"، و "فكرة هو الخوف" وغيرها من النماذج التي تتكرر لديه، هذه النصوص تعتمد في الأصل على شكل الحكاية الرمزية التي تختزل حكمة الشعوب في نص قصصي، ففي نساج لكل العصور يتحدث السارد العليم المنزوي داخل نصه ووراء شخصياته عن نساج مبدع، كان من أهم أعماله أعلام بلاده في عصور متعددة حيث كانت هذه الأعلام ومكوناتها هي "مادة حياته ومعنى وجوده وبهجة مشاركته في أفراح المدينة وزينات أعيادها وأمجاد انتصاراتها" (مشاهد وحكايات ـ نساج لكل العصور ـ 34) غير إن الحديث لا يتوقف عند هذا الحد من افتخاره بنفسه أو عند تلك النقطة الصاعدة لكنه يختار أن يتحدث ـ مثلما هي عادة كتاب السرد ـ عن نقطة فارقة، لحظة تحول، ولحظة التحول الفارقة هنا ليست محددة بدقة السرد العادي، لكنها لحظة إشارية، هي تلك التي يهرب فيها كل أهل بلاده من خطر داهم لا يعرف النساج ـ أو السارد أو المتلقي ـ مصدره، وليس من المهم معرفته، فالمهم هو أثره الذي جعل أهل البلد يركضون فزعًا من دون أن يتوقف أحدهم ليشرح له، فهي لحظة اختياره الخالصة، وهو الذي يرى أن الهرب لن يكون حلاً فيختار الاختباء، والبقاء ـ، فيرى السبب الحقيقي في خيول تطارد الفارين، وفي الوقت الذي يبدأ فيه في الغياب عن الوعي من أثر جراحه يسمع صوتًا يشبه صوت نول النسيج من وراء وعيه، ليقف الوعي/ التاريخ حائطًا أخيرًا لمقاومة الغزو المريع. إن مثل هذه الحكاية تجعل من شخصياتها رموزًا كنائية ـ ربما هي عادة شعرية ـ مثلما تجعل من مجالها الحكائي ـ كذلك ـ مجالاً أقرب إلى المعالجة الرمزية التي تلقي في الذهن إحدى صور الحكمة النهائية التي يمكن استخلاصها من القصة. وتقترب من هذه الصورة تلك المعالجات الأليجورية/ الرمزية التي تستلهم الشكل التراثي المتمثل في قصص الحيوانات، ولا تتخلى في الوقت ذاته عن فكرة الحكي الشائق، كما تحاول استبطان حكمة التاريخ، اعتمادًا على/ استلهامًا من/ تناصًا مع حكايات التراث العربي/ الشرقي التي تتخذ من الحيوان ستارًا للنيل من أصحاب السلطة ومنظوماتهم الفكرية التي لا تلقي بالاً لمن يحكمونهم، ولعل في قصة "حتى النملة؟" ما يؤكد ذلك، مضافًا إليه ذلك الخطاب السردي المبني على المفارقة، فالمواجهة بين الملك والنملة، تلك التي توضح الفرق بين رؤية كل منهما للحياة، عندما يسأل الملك النملة عما يكفيها من الغذاء فأجابت بتلك العبارة التي بدأت بها القصة: "أربع حبات من القمح لا أكثر في كل عام" (مشاهد وحكايات ـ 37) لتكون تلك بداية لمساجلة بين الملك والنملة دارت حول قيمة العمل في الحياة، حين يعرض عليها توفير ما تحتاجه بشرط أن تبقى في حجرة في قصره ليتأكد من أنها لن تحتاج لأكثر من ذلك (لاحظ إن أصل تعامل الملك مع الآخرين هو شكه في أنهم يكذبون عليه) فتحاول النملة الرفض معللة ذلك بأن خلفها من تسعى عليهم من صغار النمل وعجائزهم، ولأنه طاغية مستبد فهو لا يستمع إلى الآخرين، حسب توصيف النص له، فحين يصر على رأيه تتحدث عن العمل نفسه: "الرزق بلا سعي ولا كد يعني اختلال موازين الكون وانطفاء جمرة الحياة وخراب الدنيا والقمح بلا سعي ولا عمل سيكون بلا طعم أو مسمومًا بالخمول والكسل" (السابق ـ 38) وهو المدخل لكي تعمل النملة في محبسها على حبات القمح الأربعة، ولا تأكل منها سوى اثنين تحسبًا لنسيان الملك لها وهو ما حدث نتيجة لانشغاله بالقضاء على من تمرد عليه، كما يظهر من الحوار الختامي الذي اتهم فيه الملك النملة بأنها خدعته لأنها لم تأكل سوى حبتين. إن مثل هذه المسامرة مفعمة بالحكمة التي تسير على لسان نملة استنطقها الكاتب لتعبر عن خلاصة حكمة الإنسان فيما يتعلق بالعمل، والسلطة وتقلبات الزمن التي تنال من الحكام ولا تنال من رعيتهم، وعلاقة الحاكم بشعبه. ومن ناحية أخرى يمكن لنا أن نلاحظ عددًا من السمات في مثل هذه القصة، فهي تتناص مع كليلة ودمنة من ناحية، عبر فكرة تشخيص الحيوانات، بالإضافة إلى استغلال تيمة العلاقة بين النملة والملك الواردة في النص القرآني، وإن بصورة مختلفة، غير إن الخطاب التربوي قد ظهر واضحًا على مدار القصة بما يوحي بمركزيته داخل الرؤية السردية في النص وغيره من النصوص التي سارت على الوتيرة ذاتها مثل "المحاكمة" و "ذاكرة المرآة"، وهو الأمر الذي يتسق مع العنوان الأساسي للمجموعة "مسامرة الأولاد كي لا يناموا". إن السارد العليم الذي يتواتر استخدامه في هذا النوع من النصوص يسمح ـ عبر سماته ـ بأن تخرج على هذا النحو حيث إمكاناته التي تسمح له بالتنقل عبر دواخل نفوس شخصياته، وعلمه الكامل بما يدور داخلها من انفعالات وأفكار، وتحكمه الكامل في أقدار هذه الشخصيات، بما يساير فكرة التحكم الكامل في القصة، وتعالي السارد على عالمها بما يؤهله لأن يستخلص منها حكمته/ خطابه الأخلاقي والتربوي والاجتماعي، ولعل هذا هو ما سوغ له أن يستخدم هذا النمط في الحكايات التي كتبها عن الشعر والشعراء. تبدو الحكايات في "من حكايات الشعر والشاعر" مجموعة من القصص التي تتحدث منذ بدايتها عن شخصية واحدة هي شخصية الشاعر لتفسر لنا كيف أصبح الشاعر شاعرًا، هذا على المستوى الأول للنص، لكنها على مستوى آخر تفسر رؤية الشعر للعالم من حوله، وكيفية تلقيه لهذا العالم. تبدو الحكاية هنا، لدى عفيفي مطر، مقتربة من التعبير الغنائي بصورة واضحة، وهي لذا أكثر استخدامًا للمجاز الذي ينطلق أساسًا من التمثل الفردي، أعني من وجود الكاتب داخل النص بوصفه إحدى شخصياته، بل الشخصية الأهم فيه، وهو المجاز الذي يمثل ـ على مستوى السرد إثقالاً لحركته الزمنية، حيث لا يبدو الإيقاع السريع مهمًا بالقدر الذي تنحو فيه النصوص نحو مشهدية وصفية قائمة على التأمل الناتج عن الوجود الذاتي للشاعر داخل النص السردي. يقول ـ على سبيل المثال ـ : "أخرج الشاعر جواهر كنزه الثماني والعشرين ونثرها بين يديه باعتزاز وقال لنفسه: هذا كنز الكنوز ومفتاح العالم، بغيره يتخبط البشر في الظلام ويضيع جهاد العقول عبر العصور فلا يعرف أحد عن أحد شيئًا" (من حكايات الشعر والشاعر ـ مفاتيح الكنوز ـ 8). ويمكن لنا أن نلاحظ كيف أن هذا النمط السردي العليم ببواطن الأمور (أو كما أسماه تودوروف الرؤية من الداخل) قد سمح للسارد أن يتنقل بحرية بين خارج الشخصية حيث ظواهر الأحداث، وداخلها حيث إمكانية متابعة ما تقوله الشخصية لنفسها على سبيل المونولوج الداخلي، وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى بناء النص في صورة مفارقة لطبيعة كل من القصة القصيرة أو الرواية، لكن بناء يحاول الاستفادة قدر الإمكان من آليات سردهما، مقرونة برؤية تراثية، تحاول سحب هذا النمط الغربي إلى أرضيتنا العربية. ومن هنا يبدو استخدام كاتبنا لهذا النمط متسقًا ـ على نحو واضح ـ مع فكرته عن المسامرة/ القصة القصيرة، ليس فقط بوصفها نصًا سرديًا، ولكن بوصفها النص الذي يمكنه حمل ذاكرة الإنسان، تاريخه وحاضره جنبًا إلى جنب، على اعتبار تجاورهما في بنية متكاملة، وهو الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى الشكل الثاني من أشكال السارد لدى عفيفي مطر وهو "السارد الأنا". السارد الأنا: يبدو حضور السارد في النص السردي واحدًا من مظاهر السرد الغربي، حيث القصة القصيرة والرواية، وحيث التركيز على الوجود الفردي بوصفه الهدف الأسمى للوجود الإنساني في الثقافة الغربية، وهي الأمور التي سوغت للسارد الغربي استخدام هذا النمط من التبئير في قصصه ومسروداته، على العكس من السارد الشعبي العربي المنضوي تحت لواء الجماعة والمعبر عن رؤاها، وهو ما جعل من النص السردي العربي نصًا موجهًا للمجتمع، بما لا يساير الأشكال الغربية إلا بعد استيرادها مع رؤاها. إن قصص عفيفي مطر التي تستغل هذا الشكل السردي لا تقف عند حد استيراد النمط السردي بعماء كما يفعل آخرون، بل هي نصوص تحاول الولوج إلى العالم من منطلق الشعر، وهو الأمر الذي يسوغ له في كثير من الأحايين أن يبني النص بكامله على تقنية المونولوج الداخلي أو التأمل، مما يتكرر في العديد من قصصه التي تعطي حكمتها منذ البداية، بلا مواربة، وحتى بلا اعتماد كبير على السرد وتعويض النص عنه بالوصف أو التعليق بما يوحي بحضور طاغ للسارد داخل نصه وظهوره بوضوح داخل هذا النص، في محاولة لإسباغ نظرته الخاصة على خطابه السردي، وهو الأمر الذي يساير كون ساردنا هنا شاعرًا يتعامل ـ في الأصل ـ مع عالم شعري، في صورة سردية، وهو ما يجعل من المقاطع الوصفية عصبًا أساسيًا في القصص التي تقوم على هذا الشكل، حيث يبدو الوصف رؤية سكونية للعالم تراه كما هو، ولا تحاول أن تجعله أكثر حركة مما هو عليه بالفعل. إن مركزية الأنا تجعل النص السردي محكومًا برؤية ذاتية تنتج نصًا أقرب إلى حكايات الشخصيات التي ينحو بها عفيفي مطر نحو الرمز، مثلما في "سنبلة عم مغرب"، التي يذهب الحديث فيها نحو الرمز الكوني، لكنه رمز معالج بوجهة نظره الخاصة المستبطنة لحكمة تكوين العالم، حين يقول "ظل عم مغرب يزورنا في موعده أعوامًا متتالية، وكبرت ألفتي به، وتعمقت صداقتنا بالمشاكسات المرحة المتبادلة" (مشاهد وحكايات ـ 10) ليكون ذلك تمهيدًا لرؤية هذا العم مغرب في صورته الحقيقية، سنبلة كبيرة في حجم إنسان، لاحظ مركزية الصورة بإيحاءاتها التي تمتد عبر النص بما في ذلك من نزوع شعري، حيث تشفير الخير بالعم مغرب المتحول إلى سنبلة، أو بالأحرى المتشكل في صورة سنبلة. ومن ناحية أخرى قد يبدو حضور الأنا مدخلاً للولوج إلى عوالم أشد خيالاً مما قد يؤكده الاستعمال التقليدي لهذا النمط، وذلك حين نجده يؤكد في بداية إحدى قصصه أن هذه الحكاية "استقرت في قلبي منذ قرأتها في صباي البعيد، ولم تبرحه أبدًا، قد أغفل عنها وقد أنشغل كأنني نسيتها، ولكنها تفاجئني وتخرج من ظلمات ذاكرتي متوهجةً وندية طازجة كأنني أعرفها لأول مرة، وبالأخص عندما أنتبه وألتفت إلى وردة حمراء هنا أو هناك" (مشاهد وحكايات ـ وردة الأوائل ـ 21). إن تأكيد السارد على حضوره بذاته داخل النص بوصفه منشئًا له، وناقلاً لحكاية الأوائل يؤكد إن هذه الحكاية ستروى من وجهة نظره، خاصة إذا لاحظنا تلك السمات التي يسبغها على الحكاية قبل بدايتها، في نوع من التشويق الذي لا يخلو من حكم قيمي، خاصة إذا لاحظنا اتساق الخطاب في الحكاية مع الخطاب الإبداعي الأهم لدى عفيفي مطر، وهو ما يتعلق بالأرض والزرع والنبات بوصفها مكونات ذات طبيعة خاصة في شعره، ويمكن إذن الحكم بأن هذا النمط قد اتسق مع مقولات الشاعر. يبدو السارد الأنا إذن أشد تماسًا مع القصيدة، بما تحتويه من عناصر أكثر لصوقًا بالذات، ولن نقول غنائية، لكنها العناصر التي تظهر فيها وبها الرؤى الخاصة للكاتب، وهي سمات تجعل من استخدام هذا الشكل الأقرب إلى تجربة الشاعر، كما أنها قد تسبغ على النص السردي سمات هي في الأصل شعرية، من حيث الاعتماد على نمط لغوي مفارق، على عكس الاستخدام السردي المقترب في عمومه من الاستخدام الواقعي للغة، وهو ما ينقلنا إلى النقطة التالية. دور اللغة في المسامرات: إذا كان من الضروري النظر إلى النص القصصي من ناحية لغته على أساس من اعتماده أولاً على لغة سردية شافة، تشف عما وراءها، وتهدف إلى نقل المعلومة السردية بأقل قدر ممكن من الغموض، وهو ما دعوناه في دراسة سابق بـ "صفاء النسق السردي" خاصة في القصة القصير، التي تقترب حجمًا من النصوص التي بين أيدينا، وثانيًا فإن النص السردي يغلب اعتماده على الأفعال والجمل الفعلية من حيث متابعته لأحداث، ورصده لها. من هنا يمكن لنا ملاحظة كم من التجوزات اللغوية في هذه النصوص، تلقي باللغة ناحية الشعر وتتعارض مع النسق السردي كما هو معروف عنه، لكنه من ناحية أخرى يثقل النص السردي بالصور (التي ربما كانت اتجاهًا سائدًا أو شبه سائد في القصة القصيرة العربية في الثمانينيات)، وهذا التصور لا ينتج صورًا يمكن الادعاء بسرديتها، حيث تتخذ سماتها من التراث الشعري وتعتمد ـ في كثير من الأحيان ـ على البلاغة التقليدية، وهو الأمر الذي يتسق مع مقولات وخطاب النصوص، الذي لا تهدف إلى إحداث تكوين جمالي يمكن أن تستغني في سبيله عن الإفهام، لكنها تهدف في المقابل إلى إحداث استثارة لغوية لدى المتلقي ليبقى هناك يسمع، ولتبقى الصورة عاملاً لتلقي النص وليس لبنائه بما يتسق مع الطبيعة الشفاهية للحكاية، على العكس من الطبيعة الكتابية للقصة والرواية. وتجرنا هذه الملاحظة إلى تتبع مركزية الاسم داخل هذه النصوص، وبالتالي أهمية الجملة الاسمية في إحداث بنية ذات طبيعة خاصة، سكونية في أغلب أحوالها، ووصفية لا تقوم بالانتقال عبر الأحداث أكثر مما تصف هذه الأحداث، بما يركز على رؤية الكاتب الخاصة كما سلف. ونظرة إلى فقرة من فقرات إحدى هذه النصوص ربما توضح المقصود، حين نجده يقول في إحدى القصص "والقراء العارفون يسمعون في وقدة الشمس على الرمل وزمزمة الريح وزفيفها بين شقوق الجبال والتلال، وجيشان الهوام والحشرات السارحة في مساقط المياه القديمة والوديان العميقة أصواتًا تذكرهم بما كان ثم اندثر، وبما هو كائن من تقلبات الأزمنة، وهكذا" (من حكايات الشعر والشاعر ـ ظمأ يرتوي بالنشيد ـ 39، 40). وحيث نلاحظ مدى الاعتماد على الاسم ـ بديلاً عن الفعل ـ وكيف أن هذا قد أدى إلى استحداث نمط من اللغة خاصة بهذا النوع السردي غير المتواتر على المستوى التقليدي والمنتشر، غير إن ما يمكن رؤيته بعين الاهتمام كذا هو ما فعله كاتبنا حين بدأ المسامرة معتمدًا ـ هكذا منذ البداية ـ على الاسم، خروجًا على الأعراف القصصية، خاصة التراثي منها الذي كان يستحسن الابتداء بـ "كان ياما كان"، وذلك حين نجده يقول في بداية إحدى قصصه: "فلاحان أميان كانا يتسامران بحكايات وأمثال وأخبار، وأنا صبي أجلس بالقرب منهما أسمع، قال أحدهما متحدثًا عن عجائب الكتب ومباهج القراءة التي حرما منها". (حكايات الشعر والشعراء ـ حريق القلب ـ 11) حيث تبدو الجملة الاسمية أشد حضورًا وتأثيرًا فيما سوف تنبني عليه القصة/ الحكاية فيما سوف يلي من أحداث سيكون الفعل فيها ذا دور أساسي، لكن سيبقى الوجود الاسمي طارحًا لتصور مبدئي سكوني له علاقة بما ذكرناه سلفًا من حضور الرؤية الخاصة، وسكونية النص. على سبيل الختام: تبدو حاجة الشعر إلى الحكاية واضحة عندما يصبح الهم الاجتماعي لديه واضحًا بالصورة التي تجعله يتخذ مركز الصدارة لديه، ربما يظهر هذا الهم في صورة عائلية كما يتضح من الإهداء في أولى صفحات الكتاب الأول "مشاهد وحكايات"، حين يتجه الإهداء إلى الأحفاد بوصفهم الأمل الحقيقي في الفعل، شريطة إجادة القراءة، أتكون هذه إشارة إلى الصورة التدوينية الشفاهية المعتمدة في القصص، في مقابل كتابية القصيدة الحديثة التي هي فن كاتبنا الأول؟ أم إن هذه الإشارة تتويج لوجود الشكل الإرشادي الذي يهتم بالنوازع القيمية الإرشادية التي اعتمدها كتاب السرد العربي الأوائل، على سبيل الالتزام بقضايا المجتمع، ومحاولة تغيير الواقع عن طريق فن يتدخل العقل الواعي فيه على مستوى عالٍ. ومن الضروري الإشارة إلى أن شاعرنا قد تعامل بفطرته الشعرية المبدعة، وتراثه الممتد الأصيل مع الفن الجديد ـ عليه بالطبع على مستوى الإبداع ـ لينشئ لنا نصوصًا هي الأقرب إلى الحواديت الشعبية العربية، تستلهم روحها، ولا تتجاهل المتغيرات العصرية الحادثة حولها. إن عفيفي مطر وهو يتعامل ـ بحب واضح ـ مع هذه النصوص قد استطاع الولوج بالسرد إلى مناطق شعرية على درجة عالية من الرهافة، مع عدم إغفال الدور الاجتماعي لها. كلية الآداب ـ جامعة حلوان
تتجلى الحكاية ملهمًا أول للشاعر، وكونًا يسبح فيه الخيال، وهو الأمر الذي تأثر به عفيفي مطر أولاً، غير إنه تبقى له خصوصية الفلاح المصري الذي يرى مهمة "الشاعر" الأولى هي الحكي، تتبعها مهمة قول الشعر، فالشاعر هو القائم ـ في الريف المصري ـ بنقل وحكاية السير الشعبية مدعومة بأبيات وقصائد تدعم حكمة الموقف، وتستخلص رؤية المنشئ، وتلخص وجهات النظر، فتأتي أقرب إلى بيت القصيد في الشعر العربي القديم. غير إن عفيفي مطر في مسامرات الأولاد لم يتخل عن موقف الشاعر المتأمل، والفرق الوحيد أنه قد قرنه بموقف المعاصر، الأب الذي يسامر أولاده متخذًا من الحكاية مادة أولى للرؤية، واستبطان الحكمة، وهو الأمر الذي يظهر بوضوح في "مسامرات للأولاد كي لا يناموا"، مجموعة النصوص التي تأخذ في مجملها شكل الحكاية الشعبية أو النص السردي القصير، وتستغل في الوقت الذي تستخدم فيه هذا الشكل، لغةً من الشعر تتأبى على المنطق السردي، لكنها تنطلق من رؤية شعرية، ربما تستخدم المجاز، وربما تنحو إلى تكوين مفارق للجملة أو الصورة، لكنها في النهاية تخدم المنطق والمنطلق الحكائي الذي اختاره شاعرنا لصياغة عالمه.
تبدو مسامرات الأولاد منذ البداية نصًا بسيطًا في ظاهره، وهو ما يجعنا نتلقاه بحرية تأويلية أكبر، تجعل المتلقي قادرًا على صياغة رؤيته الخاصة، لكن هذه البساطة الخادعة تخفي وراءها عمقًا بديعًا، واستخدامًا واعيًا لأساليب السرد، يضاهي الاستخدام السردي في السرديات الكبرى "القصة والرواية"، وهو الأمر الذي سيجعلنا ننظر إلى المسامرات من خلال بعض التقنيات السردية التي ربما يكون أهما الصورة التي يظهر بها السارد داخل العمل السردي.
وفي البداية يمكن لنا ملاحظة أن الخطاب الحكائي في مسامرات عفيفي مطر يظهر على قسمين، الأول قسم يحاول استخلاص حكمة البشرية في إبيجراما سردية يمكن رؤية خصائصها على النحو التالي:
أولاً: نمط السارد العليم: يستغل الكاتب إمكانات السارد العليم الذي يظهر في النص في صورة التعبير بضمير الغائب "هو"، الذي يمكنه الولوج إلى داخل الشخصيات والتعبير عما يدور في داخلها والتنقل بينها في يسر، وهي الإمكانات التي تسهم في إيضاح مكونات الشخصيات والوقوف على خطاب سردي أكثر تركيبًا، لكن عفيفي مطر لا يقف عند هذا الحد بل تتداخل لديه رؤية الشعر المنتمي لتراثه مع رؤية السارد والأب/ المربي، الأمر الذي يسهم في اتخاذ النصوص المسرودة عن طريق هذا النمط شكلاً أقرب إلى الحكاية التراثية، بمعرفتها الكلية الشاملة، القادرة على تفسير ظواهر الأشياء تفسيرًا عميقًا يؤدي في نهاية النص إلى تغيير حقيقي في وجهة نظر المتلقي للعالم من حوله، وهو الأمر الذي يميز الحكاية الشعبية التراثية، التي ينسج عفيفي مطر على غرارها، في شكل يقترب من الحكمة المصفاة التي تبدو هي العنصر الأهم في النص التراثي، مع إضافة العامل التربوي في نصه الجديد، وهو عامل يأخذ في اعتباره طبيعة العصر الذي يعيشه ويعبر عنه، مع الأخذ في الاعتبار أن القصة القصيرة تعبر عن أزمة البورجوازية المأزومة، كما يشير شكري عياد، وأن الأزمة الاجتماعية قد تدفع المبدع إلى التخلي ولو مرحليًا عن إبداعه الأصلي في سبيله إلى مواجهة أزمة مجتمعه، وهي أمور تقترب من حيز تجربة مطر التي يدل عليها العنوان المتكرر في قصصه "مسامرة الأولاد كي لا يناموا" حيث يبدو التعبير "كي لا يناموا" مشيراً إلى تلك الأزمة التي تجب الاستفاقة في مواجهتها.
ونظرة إلى القصص التي تضمنتها المسامرات، واتخذت هذا الشكل ربما تؤكد وجهة النظر هذه، فقصة مثل "نساج لكل العصور"، و "طائر السعد"، و "فكرة هو الخوف" وغيرها من النماذج التي تتكرر لديه، هذه النصوص تعتمد في الأصل على شكل الحكاية الرمزية التي تختزل حكمة الشعوب في نص قصصي، ففي نساج لكل العصور يتحدث السارد العليم المنزوي داخل نصه ووراء شخصياته عن نساج مبدع، كان من أهم أعماله أعلام بلاده في عصور متعددة حيث كانت هذه الأعلام ومكوناتها هي "مادة حياته ومعنى وجوده وبهجة مشاركته في أفراح المدينة وزينات أعيادها وأمجاد انتصاراتها" (مشاهد وحكايات ـ نساج لكل العصور ـ 34) غير إن الحديث لا يتوقف عند هذا الحد من افتخاره بنفسه أو عند تلك النقطة الصاعدة لكنه يختار أن يتحدث ـ مثلما هي عادة كتاب السرد ـ عن نقطة فارقة، لحظة تحول، ولحظة التحول الفارقة هنا ليست محددة بدقة السرد العادي، لكنها لحظة إشارية، هي تلك التي يهرب فيها كل أهل بلاده من خطر داهم لا يعرف النساج ـ أو السارد أو المتلقي ـ مصدره، وليس من المهم معرفته، فالمهم هو أثره الذي جعل أهل البلد يركضون فزعًا من دون أن يتوقف أحدهم ليشرح له، فهي لحظة اختياره الخالصة، وهو الذي يرى أن الهرب لن يكون حلاً فيختار الاختباء، والبقاء ـ، فيرى السبب الحقيقي في خيول تطارد الفارين، وفي الوقت الذي يبدأ فيه في الغياب عن الوعي من أثر جراحه يسمع صوتًا يشبه صوت نول النسيج من وراء وعيه، ليقف الوعي/ التاريخ حائطًا أخيرًا لمقاومة الغزو المريع.
إن مثل هذه الحكاية تجعل من شخصياتها رموزًا كنائية ـ ربما هي عادة شعرية ـ مثلما تجعل من مجالها الحكائي ـ كذلك ـ مجالاً أقرب إلى المعالجة الرمزية التي تلقي في الذهن إحدى صور الحكمة النهائية التي يمكن استخلاصها من القصة. وتقترب من هذه الصورة تلك المعالجات الأليجورية/ الرمزية التي تستلهم الشكل التراثي المتمثل في قصص الحيوانات، ولا تتخلى في الوقت ذاته عن فكرة الحكي الشائق، كما تحاول استبطان حكمة التاريخ، اعتمادًا على/ استلهامًا من/ تناصًا مع حكايات التراث العربي/ الشرقي التي تتخذ من الحيوان ستارًا للنيل من أصحاب السلطة ومنظوماتهم الفكرية التي لا تلقي بالاً لمن يحكمونهم، ولعل في قصة "حتى النملة؟" ما يؤكد ذلك، مضافًا إليه ذلك الخطاب السردي المبني على المفارقة، فالمواجهة بين الملك والنملة، تلك التي توضح الفرق بين رؤية كل منهما للحياة، عندما يسأل الملك النملة عما يكفيها من الغذاء فأجابت بتلك العبارة التي بدأت بها القصة: "أربع حبات من القمح لا أكثر في كل عام" (مشاهد وحكايات ـ 37) لتكون تلك بداية لمساجلة بين الملك والنملة دارت حول قيمة العمل في الحياة، حين يعرض عليها توفير ما تحتاجه بشرط أن تبقى في حجرة في قصره ليتأكد من أنها لن تحتاج لأكثر من ذلك (لاحظ إن أصل تعامل الملك مع الآخرين هو شكه في أنهم يكذبون عليه) فتحاول النملة الرفض معللة ذلك بأن خلفها من تسعى عليهم من صغار النمل وعجائزهم، ولأنه طاغية مستبد فهو لا يستمع إلى الآخرين، حسب توصيف النص له، فحين يصر على رأيه تتحدث عن العمل نفسه: "الرزق بلا سعي ولا كد يعني اختلال موازين الكون وانطفاء جمرة الحياة وخراب الدنيا والقمح بلا سعي ولا عمل سيكون بلا طعم أو مسمومًا بالخمول والكسل" (السابق ـ 38) وهو المدخل لكي تعمل النملة في محبسها على حبات القمح الأربعة، ولا تأكل منها سوى اثنين تحسبًا لنسيان الملك لها وهو ما حدث نتيجة لانشغاله بالقضاء على من تمرد عليه، كما يظهر من الحوار الختامي الذي اتهم فيه الملك النملة بأنها خدعته لأنها لم تأكل سوى حبتين.
إن مثل هذه المسامرة مفعمة بالحكمة التي تسير على لسان نملة استنطقها الكاتب لتعبر عن خلاصة حكمة الإنسان فيما يتعلق بالعمل، والسلطة وتقلبات الزمن التي تنال من الحكام ولا تنال من رعيتهم، وعلاقة الحاكم بشعبه. ومن ناحية أخرى يمكن لنا أن نلاحظ عددًا من السمات في مثل هذه القصة، فهي تتناص مع كليلة ودمنة من ناحية، عبر فكرة تشخيص الحيوانات، بالإضافة إلى استغلال تيمة العلاقة بين النملة والملك الواردة في النص القرآني، وإن بصورة مختلفة، غير إن الخطاب التربوي قد ظهر واضحًا على مدار القصة بما يوحي بمركزيته داخل الرؤية السردية في النص وغيره من النصوص التي سارت على الوتيرة ذاتها مثل "المحاكمة" و "ذاكرة المرآة"، وهو الأمر الذي يتسق مع العنوان الأساسي للمجموعة "مسامرة الأولاد كي لا يناموا". إن السارد العليم الذي يتواتر استخدامه في هذا النوع من النصوص يسمح ـ عبر سماته ـ بأن تخرج على هذا النحو حيث إمكاناته التي تسمح له بالتنقل عبر دواخل نفوس شخصياته، وعلمه الكامل بما يدور داخلها من انفعالات وأفكار، وتحكمه الكامل في أقدار هذه الشخصيات، بما يساير فكرة التحكم الكامل في القصة، وتعالي السارد على عالمها بما يؤهله لأن يستخلص منها حكمته/ خطابه الأخلاقي والتربوي والاجتماعي، ولعل هذا هو ما سوغ له أن يستخدم هذا النمط في الحكايات التي كتبها عن الشعر والشعراء.
تبدو الحكايات في "من حكايات الشعر والشاعر" مجموعة من القصص التي تتحدث منذ بدايتها عن شخصية واحدة هي شخصية الشاعر لتفسر لنا كيف أصبح الشاعر شاعرًا، هذا على المستوى الأول للنص، لكنها على مستوى آخر تفسر رؤية الشعر للعالم من حوله، وكيفية تلقيه لهذا العالم. تبدو الحكاية هنا، لدى عفيفي مطر، مقتربة من التعبير الغنائي بصورة واضحة، وهي لذا أكثر استخدامًا للمجاز الذي ينطلق أساسًا من التمثل الفردي، أعني من وجود الكاتب داخل النص بوصفه إحدى شخصياته، بل الشخصية الأهم فيه، وهو المجاز الذي يمثل ـ على مستوى السرد إثقالاً لحركته الزمنية، حيث لا يبدو الإيقاع السريع مهمًا بالقدر الذي تنحو فيه النصوص نحو مشهدية وصفية قائمة على التأمل الناتج عن الوجود الذاتي للشاعر داخل النص السردي. يقول ـ على سبيل المثال ـ : "أخرج الشاعر جواهر كنزه الثماني والعشرين ونثرها بين يديه باعتزاز وقال لنفسه: هذا كنز الكنوز ومفتاح العالم، بغيره يتخبط البشر في الظلام ويضيع جهاد العقول عبر العصور فلا يعرف أحد عن أحد شيئًا" (من حكايات الشعر والشاعر ـ مفاتيح الكنوز ـ 8).
ويمكن لنا أن نلاحظ كيف أن هذا النمط السردي العليم ببواطن الأمور (أو كما أسماه تودوروف الرؤية من الداخل) قد سمح للسارد أن يتنقل بحرية بين خارج الشخصية حيث ظواهر الأحداث، وداخلها حيث إمكانية متابعة ما تقوله الشخصية لنفسها على سبيل المونولوج الداخلي، وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى بناء النص في صورة مفارقة لطبيعة كل من القصة القصيرة أو الرواية، لكن بناء يحاول الاستفادة قدر الإمكان من آليات سردهما، مقرونة برؤية تراثية، تحاول سحب هذا النمط الغربي إلى أرضيتنا العربية. ومن هنا يبدو استخدام كاتبنا لهذا النمط متسقًا ـ على نحو واضح ـ مع فكرته عن المسامرة/ القصة القصيرة، ليس فقط بوصفها نصًا سرديًا، ولكن بوصفها النص الذي يمكنه حمل ذاكرة الإنسان، تاريخه وحاضره جنبًا إلى جنب، على اعتبار تجاورهما في بنية متكاملة، وهو الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى الشكل الثاني من أشكال السارد لدى عفيفي مطر وهو "السارد الأنا".
السارد الأنا: يبدو حضور السارد في النص السردي واحدًا من مظاهر السرد الغربي، حيث القصة القصيرة والرواية، وحيث التركيز على الوجود الفردي بوصفه الهدف الأسمى للوجود الإنساني في الثقافة الغربية، وهي الأمور التي سوغت للسارد الغربي استخدام هذا النمط من التبئير في قصصه ومسروداته، على العكس من السارد الشعبي العربي المنضوي تحت لواء الجماعة والمعبر عن رؤاها، وهو ما جعل من النص السردي العربي نصًا موجهًا للمجتمع، بما لا يساير الأشكال الغربية إلا بعد استيرادها مع رؤاها. إن قصص عفيفي مطر التي تستغل هذا الشكل السردي لا تقف عند حد استيراد النمط السردي بعماء كما يفعل آخرون، بل هي نصوص تحاول الولوج إلى العالم من منطلق الشعر، وهو الأمر الذي يسوغ له في كثير من الأحايين أن يبني النص بكامله على تقنية المونولوج الداخلي أو التأمل، مما يتكرر في العديد من قصصه التي تعطي حكمتها منذ البداية، بلا مواربة، وحتى بلا اعتماد كبير على السرد وتعويض النص عنه بالوصف أو التعليق بما يوحي بحضور طاغ للسارد داخل نصه وظهوره بوضوح داخل هذا النص، في محاولة لإسباغ نظرته الخاصة على خطابه السردي، وهو الأمر الذي يساير كون ساردنا هنا شاعرًا يتعامل ـ في الأصل ـ مع عالم شعري، في صورة سردية، وهو ما يجعل من المقاطع الوصفية عصبًا أساسيًا في القصص التي تقوم على هذا الشكل، حيث يبدو الوصف رؤية سكونية للعالم تراه كما هو، ولا تحاول أن تجعله أكثر حركة مما هو عليه بالفعل.
إن مركزية الأنا تجعل النص السردي محكومًا برؤية ذاتية تنتج نصًا أقرب إلى حكايات الشخصيات التي ينحو بها عفيفي مطر نحو الرمز، مثلما في "سنبلة عم مغرب"، التي يذهب الحديث فيها نحو الرمز الكوني، لكنه رمز معالج بوجهة نظره الخاصة المستبطنة لحكمة تكوين العالم، حين يقول "ظل عم مغرب يزورنا في موعده أعوامًا متتالية، وكبرت ألفتي به، وتعمقت صداقتنا بالمشاكسات المرحة المتبادلة" (مشاهد وحكايات ـ 10) ليكون ذلك تمهيدًا لرؤية هذا العم مغرب في صورته الحقيقية، سنبلة كبيرة في حجم إنسان، لاحظ مركزية الصورة بإيحاءاتها التي تمتد عبر النص بما في ذلك من نزوع شعري، حيث تشفير الخير بالعم مغرب المتحول إلى سنبلة، أو بالأحرى المتشكل في صورة سنبلة. ومن ناحية أخرى قد يبدو حضور الأنا مدخلاً للولوج إلى عوالم أشد خيالاً مما قد يؤكده الاستعمال التقليدي لهذا النمط، وذلك حين نجده يؤكد في بداية إحدى قصصه أن هذه الحكاية "استقرت في قلبي منذ قرأتها في صباي البعيد، ولم تبرحه أبدًا، قد أغفل عنها وقد أنشغل كأنني نسيتها، ولكنها تفاجئني وتخرج من ظلمات ذاكرتي متوهجةً وندية طازجة كأنني أعرفها لأول مرة، وبالأخص عندما أنتبه وألتفت إلى وردة حمراء هنا أو هناك" (مشاهد وحكايات ـ وردة الأوائل ـ 21).
إن تأكيد السارد على حضوره بذاته داخل النص بوصفه منشئًا له، وناقلاً لحكاية الأوائل يؤكد إن هذه الحكاية ستروى من وجهة نظره، خاصة إذا لاحظنا تلك السمات التي يسبغها على الحكاية قبل بدايتها، في نوع من التشويق الذي لا يخلو من حكم قيمي، خاصة إذا لاحظنا اتساق الخطاب في الحكاية مع الخطاب الإبداعي الأهم لدى عفيفي مطر، وهو ما يتعلق بالأرض والزرع والنبات بوصفها مكونات ذات طبيعة خاصة في شعره، ويمكن إذن الحكم بأن هذا النمط قد اتسق مع مقولات الشاعر.
يبدو السارد الأنا إذن أشد تماسًا مع القصيدة، بما تحتويه من عناصر أكثر لصوقًا بالذات، ولن نقول غنائية، لكنها العناصر التي تظهر فيها وبها الرؤى الخاصة للكاتب، وهي سمات تجعل من استخدام هذا الشكل الأقرب إلى تجربة الشاعر، كما أنها قد تسبغ على النص السردي سمات هي في الأصل شعرية، من حيث الاعتماد على نمط لغوي مفارق، على عكس الاستخدام السردي المقترب في عمومه من الاستخدام الواقعي للغة، وهو ما ينقلنا إلى النقطة التالية.
دور اللغة في المسامرات: إذا كان من الضروري النظر إلى النص القصصي من ناحية لغته على أساس من اعتماده أولاً على لغة سردية شافة، تشف عما وراءها، وتهدف إلى نقل المعلومة السردية بأقل قدر ممكن من الغموض، وهو ما دعوناه في دراسة سابق بـ "صفاء النسق السردي" خاصة في القصة القصير، التي تقترب حجمًا من النصوص التي بين أيدينا، وثانيًا فإن النص السردي يغلب اعتماده على الأفعال والجمل الفعلية من حيث متابعته لأحداث، ورصده لها. من هنا يمكن لنا ملاحظة كم من التجوزات اللغوية في هذه النصوص، تلقي باللغة ناحية الشعر وتتعارض مع النسق السردي كما هو معروف عنه، لكنه من ناحية أخرى يثقل النص السردي بالصور (التي ربما كانت اتجاهًا سائدًا أو شبه سائد في القصة القصيرة العربية في الثمانينيات)، وهذا التصور لا ينتج صورًا يمكن الادعاء بسرديتها، حيث تتخذ سماتها من التراث الشعري وتعتمد ـ في كثير من الأحيان ـ على البلاغة التقليدية، وهو الأمر الذي يتسق مع مقولات وخطاب النصوص، الذي لا تهدف إلى إحداث تكوين جمالي يمكن أن تستغني في سبيله عن الإفهام، لكنها تهدف في المقابل إلى إحداث استثارة لغوية لدى المتلقي ليبقى هناك يسمع، ولتبقى الصورة عاملاً لتلقي النص وليس لبنائه بما يتسق مع الطبيعة الشفاهية للحكاية، على العكس من الطبيعة الكتابية للقصة والرواية.
وتجرنا هذه الملاحظة إلى تتبع مركزية الاسم داخل هذه النصوص، وبالتالي أهمية الجملة الاسمية في إحداث بنية ذات طبيعة خاصة، سكونية في أغلب أحوالها، ووصفية لا تقوم بالانتقال عبر الأحداث أكثر مما تصف هذه الأحداث، بما يركز على رؤية الكاتب الخاصة كما سلف. ونظرة إلى فقرة من فقرات إحدى هذه النصوص ربما توضح المقصود، حين نجده يقول في إحدى القصص "والقراء العارفون يسمعون في وقدة الشمس على الرمل وزمزمة الريح وزفيفها بين شقوق الجبال والتلال، وجيشان الهوام والحشرات السارحة في مساقط المياه القديمة والوديان العميقة أصواتًا تذكرهم بما كان ثم اندثر، وبما هو كائن من تقلبات الأزمنة، وهكذا" (من حكايات الشعر والشاعر ـ ظمأ يرتوي بالنشيد ـ 39، 40).
وحيث نلاحظ مدى الاعتماد على الاسم ـ بديلاً عن الفعل ـ وكيف أن هذا قد أدى إلى استحداث نمط من اللغة خاصة بهذا النوع السردي غير المتواتر على المستوى التقليدي والمنتشر، غير إن ما يمكن رؤيته بعين الاهتمام كذا هو ما فعله كاتبنا حين بدأ المسامرة معتمدًا ـ هكذا منذ البداية ـ على الاسم، خروجًا على الأعراف القصصية، خاصة التراثي منها الذي كان يستحسن الابتداء بـ "كان ياما كان"، وذلك حين نجده يقول في بداية إحدى قصصه: "فلاحان أميان كانا يتسامران بحكايات وأمثال وأخبار، وأنا صبي أجلس بالقرب منهما أسمع، قال أحدهما متحدثًا عن عجائب الكتب ومباهج القراءة التي حرما منها". (حكايات الشعر والشعراء ـ حريق القلب ـ 11) حيث تبدو الجملة الاسمية أشد حضورًا وتأثيرًا فيما سوف تنبني عليه القصة/ الحكاية فيما سوف يلي من أحداث سيكون الفعل فيها ذا دور أساسي، لكن سيبقى الوجود الاسمي طارحًا لتصور مبدئي سكوني له علاقة بما ذكرناه سلفًا من حضور الرؤية الخاصة، وسكونية النص.
على سبيل الختام: تبدو حاجة الشعر إلى الحكاية واضحة عندما يصبح الهم الاجتماعي لديه واضحًا بالصورة التي تجعله يتخذ مركز الصدارة لديه، ربما يظهر هذا الهم في صورة عائلية كما يتضح من الإهداء في أولى صفحات الكتاب الأول "مشاهد وحكايات"، حين يتجه الإهداء إلى الأحفاد بوصفهم الأمل الحقيقي في الفعل، شريطة إجادة القراءة، أتكون هذه إشارة إلى الصورة التدوينية الشفاهية المعتمدة في القصص، في مقابل كتابية القصيدة الحديثة التي هي فن كاتبنا الأول؟ أم إن هذه الإشارة تتويج لوجود الشكل الإرشادي الذي يهتم بالنوازع القيمية الإرشادية التي اعتمدها كتاب السرد العربي الأوائل، على سبيل الالتزام بقضايا المجتمع، ومحاولة تغيير الواقع عن طريق فن يتدخل العقل الواعي فيه على مستوى عالٍ. ومن الضروري الإشارة إلى أن شاعرنا قد تعامل بفطرته الشعرية المبدعة، وتراثه الممتد الأصيل مع الفن الجديد ـ عليه بالطبع على مستوى الإبداع ـ لينشئ لنا نصوصًا هي الأقرب إلى الحواديت الشعبية العربية، تستلهم روحها، ولا تتجاهل المتغيرات العصرية الحادثة حولها. إن عفيفي مطر وهو يتعامل ـ بحب واضح ـ مع هذه النصوص قد استطاع الولوج بالسرد إلى مناطق شعرية على درجة عالية من الرهافة، مع عدم إغفال الدور الاجتماعي لها.
كلية الآداب ـ جامعة حلوان