تجربة فلسفية فى الشعر العربى
تؤسس تجربة محمد عفيفي مطر الشعرية رؤية متميزة في الكتابة، فهو ينظر إلي الكتابة بوصفها فعلا وجوديا بالمعني الأنطولوجي، حيث تترابط تجربة الجسد بالوعي الخلاق، والذاكرة الحية بالفعل الحسي لأن الكتابة لديه هي فعل جسدي حي من أفعال التخلق الذاتي، فقد قرأ تجربته من خلال الجسد التقط الوحدة العضوية البديهية بين اللغة والجسد وتناول التراث اللغوي بوصفه فعلا يجسد ذاكرة الجسد، وهو بهذا يؤسس ميتافيزيقا الكتابة بمعني تأسيس شروط أولية لأي كتابة تطمح أن تكون فعلا من أفعال الوجود فالكلمات/ الجسد التي تستعملها اللغة البشرية ليست علامات ودلائل فحسب وإنما حقائق تتعلق بالأشياء التي تشير إليها، والميتافيزيقا قبل أن تقحم المعاني داخل عملية القراءة/ الكتابة التي عملت على إنتاجها فإنها تنظر لهذه العملية كممارسة دالة تدخل ضمن مجرى التفاعل الاجتماعي. بهذه الكيفية لن يعود النص حاملا للحقيقة، ولكنه لن يكف عن الصراع حولها، والميتافيزيقا في فهمها للكتابة لا تسعي إلي فك رموز المعاني ومفاهيم النص المكتوب، وإنما ترمي للطريقة والكيفية التي تنتج بها ويعاد إنتاجها، ولذلك فإن الفلسفة تركز علي معرفة الطريقة التي نسمي بها الأشياء وليس معرفة ماهيتها لأن الماهية تتبدل بأحوال الوجود. وتجربة عفيفي مطر لا تجعل الكتابة عنه متعلقا بفك رموز المعاني في النص، وإنما بقراءة فعالة تنتج النص اللا مكتوب، والمضمر والخفي الذي يشير إليه بشكل غير مباشر، لأن نصه لا تهيمن عليه منطق الهوية الذي يري أن هناك تطابقًا بين النص والواقع ، وإنما النص لديه توليد للمفارقات والتناقضات بين النص الشعري والواقع، ولذلك فإن مفتاح قراءته هو إدراك هذا الاختلاف الجوهري بين الواقع والنص، وعبر هذا الاختلاف تتولد دراما شعرية وسردية، ولذلك تظهر الثقافات المتصارعة في نصه في التعبير عن الحدث الواحد الذي يشير إليه، وهوية الشاعر عفيفي مطر في كتابة النص هي أداة لاختلافه مع الواقع والتحرر منه، وفي قصائد عفيفي مطر لا يجعل للوعي بصورته الساذجة المجردة أسبقية مطلقة، فليس هناك إطار مرجعي واحد، وإنما ثقافات متداخلة في وعي الأمة التي ينتمي إليها، وهو يقدم في قصائده تجربته الحية مع النصوص المدونة والنصوص الحية التي تتمثل في أفعال البشر والثقافة الشعبية. في الوقت الذي كانت تتشكل فيه قصيدة الشعر الحديث، ولها في مصر صوتان (عبد الصبور، وحجازي) ظهر صوت عفيفي مطر بنسيج متفرد وخاص قدر الإمكان. وبدءا من ديوانه (رسوم على قشرة الليل) والاختلاف واضح بينه وبين الثنائي ـ عبد الصبور ـ حجازي، ثم غرد بعد ذلك في (الجوع والقمر) لكتابة الخرافة الشعبية. أما الخطوة التي ساهمت في ابتعاد مطر عن الطرق المألوفة التي يفضلها النقاد، وبالتالي ساهمت في حجم التغييب الذي أوقعه النقاد على عفيفي مطر وإسهامه الشعري فتتمثل في ديوانه (النهر يلبس الأقنعة). حيث يمزج المرجعيتين: اليونانية والإسلامية ببعضهما، بعد استدعائه لهما كل على حدة، الإسلامية في (البكاء في زمن الضحك) واليونانية في (أنبا دوقليس) ليبدأ المزج الخاص جدا في تقنية الكتابة اللغوية، ثم نرى للمرة الأولى الكتابة التي يتوازى فيها الهامش الكتابي المفسر للمتن الشعري. وفي دواوينه الأخرى مثل الجوع تتجسد براعة عفيفي مطر في استخدام أقنعة المسرح في شعره، وخاصة في ديوانه (البكاء في زمن الضحك) وكذلك استعادته لتقنيات متعددة التشكيل في أعماله مثل أسلوب المونولوج الداخلي، وهو من أبرز تيار الوعي لأبطاله داخل القصيدة، وهو يستعين بهذه التقنية حين يقترب صوته المباشر من الظهور، حتى لا يمزق الستارة التي يتقنع بها الشاعر. وفي دواوينه الأخرى: (الجوع والقمر) الذي صدر عام 1972، (يتحدث الطمي ـ صدر عام 1977)، (رباعية الفرح ـ الذي صدر عام 1990)، (احتفالية المومياء المتوحشة)، مسامرات للأطفال كي لا يناموا. وقد كتب عفيفي مطر عن الشاعر الفارس" محمود سامي البارودي"، قصيدة الحرب في الشعر العربي وتظل صورته وشعره مرسومين في مخيلتي كثيرا. وأتذكر أن أول ديوان قرأته لعفيفي مطر كان "رسوم على قشرة الليل" الذي جذبني كثيرا بموسيقاه الدافقة التي جعلتني أتعرف علي عالمه الشعري وفلسفته في الكتابة، وقد كتبت عن الديوان الجديد الذي صدر وقتها لمحمد عفيفي مطر "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" في مجلة ألف التي تصدرها الجامعة الأمريكية بالقاهرة تحت عنوان أنطولوجيا الجسد والإبداع الثقافي في شعر مطر 1991، وهزني إهداؤه الذي يقول فيه: "إلى محمد: سيد الأوجه الطالعة، وراية الطلائع من كل جنس، منفرط على أكمامه كل دمع، ومفتوحة ممالكه للجائعين، وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم". ثم قرأت ديوانه الثاني "كتاب الأرض والدم". واتضح فيه أن عفيفي مطر قد درس الفلسفة بعمق، فأصبح فيلسوفا للشعراء، يفتح أمامهم آفاقا إبداعية جديدة، ويحلق في تخوم لم يصل إليها أحد من قبل، وأدركت أنه صاحب تجربة روحية عميقة وليس مغتربا عن تراثه اللغوي والفلسفي ونجد هذا بوضوح حين نتأمل بعض جماليات هذا الشعر الذي تكمن وراءه نظرات فلسفية عميقة، واجتراحات وجدانية كبرى، وجدت أن مطر مدرسة شعرية قائمة بذاتها، وأنه تجربة شعرية متميزة لم يصل إليها سوى القليل من الشعراء العرب المعاصرين، سواء من مجايليه أو الأجيال اللاحقة له. وهو شاعر فيلسوف، مثقف ثقافة واسعة وعريضة، وليس من السهل على نقادنا التقليديين متابعة أعماله، وتحليلها، والوقوف على أبرز سماتها الفلسفية والفنية والأسلوبية. إنه يحتاج إلى ناقد يري النقد تجربة فيها قدر كبير من المغامرة في التعامل مع النص بصدق وخلق حوار مواكب ومسئول مع النص، وليس قراءته من خلال تصنيفات جاهزة وأحكام مسبقة. وإذا تأملنا مسيرة حياته منذ ولد في قرية رملة الأنجب، المنوفية، مصر عام 1935، حتي حصوله علي جائزة مؤسسة سلطان العويس الثقافية في عام 1998 تقديرا لأعماله الشعرية المتميزة فنجده قد ارتحل صغيرا، مع الأسرة إلى كفر الشيخ، في وادي فرعون حيث بقايا مدينة بوتو القديمة، واستقر بها في مرحلة السبعينيات، وقام في تلك الفترة بإصدار مجلة ثقافية إبداعية هي مجلة "سنابل" واستطاعت المجلة أن تحتضن حركة شعرية متميزة وظهر من خلالها جيل شعري بأكمله في مصر ممن أطلق عليهم فيما بعد شعراء جيل السبعينيات ويروى الدكتور جابر عصفور في مقالته المهمة عن أمل دنقل " أنه نشر قصيدته للمرة الأولى في مجلة (سنابل) التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر من محافظة كفر الشيخ, أيام المحافظ إبراهيم بغدادي الذي اتصل به يوسف السباعي, وطلب منه إغلاق المجلة بعد أن نشرت قصيدة (الكعكة الحجرية). لكن القصيدة ظلّتْ تُقرأ في الجامعات التي حضرها أمل دنقل الذي أصبح أكثر الأصوات الشعرية المتمردة تجاوباً مع وجدان الطلاب الساخطين. جريدة (الحياة) لندن (15/ 5/ 2002)". ولكن تم تضييق الخناق على مطر؛ فاضطر إلى أن يرحل إلى العراق تاركاً مصر، ومكث هناك حوالي عشر سنوات مكوناً صداقات مع عدد من شعراء العراق، وعلى رأسهم الشاعر سعدي يوسف. وفي أثناء تواجده في العراق، ازداد اشتعال جمرة الرفض والتمرد في كتابات عفيفي مطر، حيث قام بكتابة ونشر أحد أبرز دواوينه وهو: "أنت واحدها، وهي أعضاؤك انتثرت وفي هذا الديوان تبلورت ملامح تجربة عفيفي مطر الحداثية، ورغبته في تجاوز ما هو مألوف، والتمرد على مختلف الثوابت الجمالية والمجتمعية والسياسية في آن واحد. ويبدو التمرد في تجربة عفيفي مطر كياناً مستقلاً بذاته، فهو تمرد من أجل صورة أفضل للحياة، أو رفض من أجل الحقيقة، بدون الانخراط الاستسهالي في سياق أي تيار سياسي حزبي مؤقت أو زائل وبعد عودة عفيفي مطر من العراق استقر في قريته بمحافظة المنوفية، كموقف مما يجري في المشهد الثقافي العربي. ويعد عفيفي مطر أبرز الشعراء المصريين حاليا، فهو لا يكتفي في شعره، كغيره، على غموض المعنى وغرابة التراكيب فقط، بل ينتزع من التراث مفردات خاصة بها مسحة الفطرة والطاقة الروحية، وإن تصالح مع جمهور الشعر مؤخرا، بشعر عذب أقل وعورة.. كما تقوم معانيه على المعرفة التي تهدف للحق في إبداء المناصرة للإنسان والقيم الجميلة، ومقاومة الظلم والطغيان. وفي مجموعته الشعرية "رباعية الفرح" يواصل الشاعر محمد عفيفي مطر الخط الشعري الذي بدأ في أعماله الأولى مثل "كتاب الأرض والدم" و "دفتر الصمت"، "يتحدث الطمي"، "الجوع والمطر"، وهو خط يولد لغة ذات جنوح صوفي للمكان الذي لا يتبدى عياناً ولا نقع على اسم له. والشاعر عفيفي مطر يحدد رؤيته للتواصل مع القارئ المعاصر من خلال مشهد الثقافة العربية وأحداثها السياسية ويحدد مسئولية الشاعر أمام كل ما يحدث (...) وفي قلب هذا الفيض المزلزل تنقبض على أصابع تجربة ثقيلة من الإحساس المتجذر بأنني أكتب على مشهد من التاريخ، وكأنني أؤدي رقصتي على مسرح يؤمه شهود من الموتى والقتلى، دمهم في عنقي وأنا المسئول عن رد مظالمهم والقصاص لهم، وأمام حشود الجائعين، تستصرخني قرابتي ويشدني مكاني من شجرة عائلتهم، تتواقد في أنفاسي وإيقاعات انفعالاتي، وأمام حشود الشعراء والفلاسفة والقوالين، ويخنقني الخوف من أن أكون قد ضيعت شيئاً من أماناتهم التي تركوها في عجينة تكويني وفي حراستي، ويوماً بعد يوم، قصيدة بعد قصيدة، يقوى ويتجذر إحساسي بأنني حارس أو «خفير» مكلف بالسهر اليقظ والضمير المستفز أن أرعى ما استصفته جماعة أهلي من حياة ومن أمتعة أساطير وأحلام وقيم. أضع يدي على قلوب الموتى التي لم تزل تنبض وتجيش بمكابدتها وأحلامها في التراب، أنبش وألتقط صرخة من هنا، آهة من هناك، يشدني حبل سري ملحمي هو مفهوم الكرامة ونداء العدل والحرية، أرهفت مسامعي وحواسي وأقدم نفسي بين حشودهم، وأرفع شارة المشاركة في وليمة التاريخ مغسولة الوجه بالدم مشروخ الحنجرة بالمواجيد، بدائياً يمارس الرقص، إذ يظن أن الأرض ومن عليها محض امتداد لجسده، أرقص متمرسا بجرأة الوقوف بين من ينتظرهم الذبح، وجرأة الانخراط في الفوضى بين الهمج، وجرأة الاكتفاء بالخبز والملح في مواجهة موائد الطغاة، وأغني لمن ألقي السمع واستطاع أن يشهد، يطربني غنائي وإن لم يسمع أحد... كأنني انتهي إلى القول: «إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع» وهذا يبين مسئوليته عن الشعر والتواصل، ولا يكتفي بالكتابة، وقد بدأ يدخل إلي عالم الكتابة النثرية فيقول الشاعر في نصه النثري: (الزيارة) "صحو هو الفجر المعلق من ثريات القصيدة إذ أحرك في ضرام الخضرة الشمس التي صدئت على أقفال بابك يا أبي ناديت في طقس الزيارة: كيف أزمنة التراب وكيف تنجبل السلالة من أبي" في هذا النص تشم رائحة الطمي تراب الأجداد، وعبق اللغة العربية التي يحبها".
تؤسس تجربة محمد عفيفي مطر الشعرية رؤية متميزة في الكتابة، فهو ينظر إلي الكتابة بوصفها فعلا وجوديا بالمعني الأنطولوجي، حيث تترابط تجربة الجسد بالوعي الخلاق، والذاكرة الحية بالفعل الحسي لأن الكتابة لديه هي فعل جسدي حي من أفعال التخلق الذاتي، فقد قرأ تجربته من خلال الجسد التقط الوحدة العضوية البديهية بين اللغة والجسد وتناول التراث اللغوي بوصفه فعلا يجسد ذاكرة الجسد، وهو بهذا يؤسس ميتافيزيقا الكتابة بمعني تأسيس شروط أولية لأي كتابة تطمح أن تكون فعلا من أفعال الوجود فالكلمات/ الجسد التي تستعملها اللغة البشرية ليست علامات ودلائل فحسب وإنما حقائق تتعلق بالأشياء التي تشير إليها، والميتافيزيقا قبل أن تقحم المعاني داخل عملية القراءة/ الكتابة التي عملت على إنتاجها فإنها تنظر لهذه العملية كممارسة دالة تدخل ضمن مجرى التفاعل الاجتماعي.
بهذه الكيفية لن يعود النص حاملا للحقيقة، ولكنه لن يكف عن الصراع حولها، والميتافيزيقا في فهمها للكتابة لا تسعي إلي فك رموز المعاني ومفاهيم النص المكتوب، وإنما ترمي للطريقة والكيفية التي تنتج بها ويعاد إنتاجها، ولذلك فإن الفلسفة تركز علي معرفة الطريقة التي نسمي بها الأشياء وليس معرفة ماهيتها لأن الماهية تتبدل بأحوال الوجود. وتجربة عفيفي مطر لا تجعل الكتابة عنه متعلقا بفك رموز المعاني في النص، وإنما بقراءة فعالة تنتج النص اللا مكتوب، والمضمر والخفي الذي يشير إليه بشكل غير مباشر، لأن نصه لا تهيمن عليه منطق الهوية الذي يري أن هناك تطابقًا بين النص والواقع ، وإنما النص لديه توليد للمفارقات والتناقضات بين النص الشعري والواقع، ولذلك فإن مفتاح قراءته هو إدراك هذا الاختلاف الجوهري بين الواقع والنص، وعبر هذا الاختلاف تتولد دراما شعرية وسردية، ولذلك تظهر الثقافات المتصارعة في نصه في التعبير عن الحدث الواحد الذي يشير إليه، وهوية الشاعر عفيفي مطر في كتابة النص هي أداة لاختلافه مع الواقع والتحرر منه، وفي قصائد عفيفي مطر لا يجعل للوعي بصورته الساذجة المجردة أسبقية مطلقة، فليس هناك إطار مرجعي واحد، وإنما ثقافات متداخلة في وعي الأمة التي ينتمي إليها، وهو يقدم في قصائده تجربته الحية مع النصوص المدونة والنصوص الحية التي تتمثل في أفعال البشر والثقافة الشعبية.
في الوقت الذي كانت تتشكل فيه قصيدة الشعر الحديث، ولها في مصر صوتان (عبد الصبور، وحجازي) ظهر صوت عفيفي مطر بنسيج متفرد وخاص قدر الإمكان. وبدءا من ديوانه (رسوم على قشرة الليل) والاختلاف واضح بينه وبين الثنائي ـ عبد الصبور ـ حجازي، ثم غرد بعد ذلك في (الجوع والقمر) لكتابة الخرافة الشعبية. أما الخطوة التي ساهمت في ابتعاد مطر عن الطرق المألوفة التي يفضلها النقاد، وبالتالي ساهمت في حجم التغييب الذي أوقعه النقاد على عفيفي مطر وإسهامه الشعري فتتمثل في ديوانه (النهر يلبس الأقنعة). حيث يمزج المرجعيتين: اليونانية والإسلامية ببعضهما، بعد استدعائه لهما كل على حدة، الإسلامية في (البكاء في زمن الضحك) واليونانية في (أنبا دوقليس) ليبدأ المزج الخاص جدا في تقنية الكتابة اللغوية، ثم نرى للمرة الأولى الكتابة التي يتوازى فيها الهامش الكتابي المفسر للمتن الشعري. وفي دواوينه الأخرى مثل الجوع تتجسد براعة عفيفي مطر في استخدام أقنعة المسرح في شعره، وخاصة في ديوانه (البكاء في زمن الضحك) وكذلك استعادته لتقنيات متعددة التشكيل في أعماله مثل أسلوب المونولوج الداخلي، وهو من أبرز تيار الوعي لأبطاله داخل القصيدة، وهو يستعين بهذه التقنية حين يقترب صوته المباشر من الظهور، حتى لا يمزق الستارة التي يتقنع بها الشاعر.
وفي دواوينه الأخرى: (الجوع والقمر) الذي صدر عام 1972، (يتحدث الطمي ـ صدر عام 1977)، (رباعية الفرح ـ الذي صدر عام 1990)، (احتفالية المومياء المتوحشة)، مسامرات للأطفال كي لا يناموا. وقد كتب عفيفي مطر عن الشاعر الفارس" محمود سامي البارودي"، قصيدة الحرب في الشعر العربي وتظل صورته وشعره مرسومين في مخيلتي كثيرا. وأتذكر أن أول ديوان قرأته لعفيفي مطر كان "رسوم على قشرة الليل" الذي جذبني كثيرا بموسيقاه الدافقة التي جعلتني أتعرف علي عالمه الشعري وفلسفته في الكتابة، وقد كتبت عن الديوان الجديد الذي صدر وقتها لمحمد عفيفي مطر "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" في مجلة ألف التي تصدرها الجامعة الأمريكية بالقاهرة تحت عنوان أنطولوجيا الجسد والإبداع الثقافي في شعر مطر 1991، وهزني إهداؤه الذي يقول فيه: "إلى محمد: سيد الأوجه الطالعة، وراية الطلائع من كل جنس، منفرط على أكمامه كل دمع، ومفتوحة ممالكه للجائعين، وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم". ثم قرأت ديوانه الثاني "كتاب الأرض والدم". واتضح فيه أن عفيفي مطر قد درس الفلسفة بعمق، فأصبح فيلسوفا للشعراء، يفتح أمامهم آفاقا إبداعية جديدة، ويحلق في تخوم لم يصل إليها أحد من قبل، وأدركت أنه صاحب تجربة روحية عميقة وليس مغتربا عن تراثه اللغوي والفلسفي ونجد هذا بوضوح حين نتأمل بعض جماليات هذا الشعر الذي تكمن وراءه نظرات فلسفية عميقة، واجتراحات وجدانية كبرى، وجدت أن مطر مدرسة شعرية قائمة بذاتها، وأنه تجربة شعرية متميزة لم يصل إليها سوى القليل من الشعراء العرب المعاصرين، سواء من مجايليه أو الأجيال اللاحقة له.
وهو شاعر فيلسوف، مثقف ثقافة واسعة وعريضة، وليس من السهل على نقادنا التقليديين متابعة أعماله، وتحليلها، والوقوف على أبرز سماتها الفلسفية والفنية والأسلوبية. إنه يحتاج إلى ناقد يري النقد تجربة فيها قدر كبير من المغامرة في التعامل مع النص بصدق وخلق حوار مواكب ومسئول مع النص، وليس قراءته من خلال تصنيفات جاهزة وأحكام مسبقة. وإذا تأملنا مسيرة حياته منذ ولد في قرية رملة الأنجب، المنوفية، مصر عام 1935، حتي حصوله علي جائزة مؤسسة سلطان العويس الثقافية في عام 1998 تقديرا لأعماله الشعرية المتميزة فنجده قد ارتحل صغيرا، مع الأسرة إلى كفر الشيخ، في وادي فرعون حيث بقايا مدينة بوتو القديمة، واستقر بها في مرحلة السبعينيات، وقام في تلك الفترة بإصدار مجلة ثقافية إبداعية هي مجلة "سنابل" واستطاعت المجلة أن تحتضن حركة شعرية متميزة وظهر من خلالها جيل شعري بأكمله في مصر ممن أطلق عليهم فيما بعد شعراء جيل السبعينيات ويروى الدكتور جابر عصفور في مقالته المهمة عن أمل دنقل " أنه نشر قصيدته للمرة الأولى في مجلة (سنابل) التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر من محافظة كفر الشيخ, أيام المحافظ إبراهيم بغدادي الذي اتصل به يوسف السباعي, وطلب منه إغلاق المجلة بعد أن نشرت قصيدة (الكعكة الحجرية). لكن القصيدة ظلّتْ تُقرأ في الجامعات التي حضرها أمل دنقل الذي أصبح أكثر الأصوات الشعرية المتمردة تجاوباً مع وجدان الطلاب الساخطين. جريدة (الحياة) لندن (15/ 5/ 2002)". ولكن تم تضييق الخناق على مطر؛ فاضطر إلى أن يرحل إلى العراق تاركاً مصر، ومكث هناك حوالي عشر سنوات مكوناً صداقات مع عدد من شعراء العراق، وعلى رأسهم الشاعر سعدي يوسف.
وفي أثناء تواجده في العراق، ازداد اشتعال جمرة الرفض والتمرد في كتابات عفيفي مطر، حيث قام بكتابة ونشر أحد أبرز دواوينه وهو: "أنت واحدها، وهي أعضاؤك انتثرت وفي هذا الديوان تبلورت ملامح تجربة عفيفي مطر الحداثية، ورغبته في تجاوز ما هو مألوف، والتمرد على مختلف الثوابت الجمالية والمجتمعية والسياسية في آن واحد. ويبدو التمرد في تجربة عفيفي مطر كياناً مستقلاً بذاته، فهو تمرد من أجل صورة أفضل للحياة، أو رفض من أجل الحقيقة، بدون الانخراط الاستسهالي في سياق أي تيار سياسي حزبي مؤقت أو زائل وبعد عودة عفيفي مطر من العراق استقر في قريته بمحافظة المنوفية، كموقف مما يجري في المشهد الثقافي العربي.
ويعد عفيفي مطر أبرز الشعراء المصريين حاليا، فهو لا يكتفي في شعره، كغيره، على غموض المعنى وغرابة التراكيب فقط، بل ينتزع من التراث مفردات خاصة بها مسحة الفطرة والطاقة الروحية، وإن تصالح مع جمهور الشعر مؤخرا، بشعر عذب أقل وعورة.. كما تقوم معانيه على المعرفة التي تهدف للحق في إبداء المناصرة للإنسان والقيم الجميلة، ومقاومة الظلم والطغيان. وفي مجموعته الشعرية "رباعية الفرح" يواصل الشاعر محمد عفيفي مطر الخط الشعري الذي بدأ في أعماله الأولى مثل "كتاب الأرض والدم" و "دفتر الصمت"، "يتحدث الطمي"، "الجوع والمطر"، وهو خط يولد لغة ذات جنوح صوفي للمكان الذي لا يتبدى عياناً ولا نقع على اسم له.
والشاعر عفيفي مطر يحدد رؤيته للتواصل مع القارئ المعاصر من خلال مشهد الثقافة العربية وأحداثها السياسية ويحدد مسئولية الشاعر أمام كل ما يحدث (...) وفي قلب هذا الفيض المزلزل تنقبض على أصابع تجربة ثقيلة من الإحساس المتجذر بأنني أكتب على مشهد من التاريخ، وكأنني أؤدي رقصتي على مسرح يؤمه شهود من الموتى والقتلى، دمهم في عنقي وأنا المسئول عن رد مظالمهم والقصاص لهم، وأمام حشود الجائعين، تستصرخني قرابتي ويشدني مكاني من شجرة عائلتهم، تتواقد في أنفاسي وإيقاعات انفعالاتي، وأمام حشود الشعراء والفلاسفة والقوالين، ويخنقني الخوف من أن أكون قد ضيعت شيئاً من أماناتهم التي تركوها في عجينة تكويني وفي حراستي، ويوماً بعد يوم، قصيدة بعد قصيدة، يقوى ويتجذر إحساسي بأنني حارس أو «خفير» مكلف بالسهر اليقظ والضمير المستفز أن أرعى ما استصفته جماعة أهلي من حياة ومن أمتعة أساطير وأحلام وقيم.
أضع يدي على قلوب الموتى التي لم تزل تنبض وتجيش بمكابدتها وأحلامها في التراب، أنبش وألتقط صرخة من هنا، آهة من هناك، يشدني حبل سري ملحمي هو مفهوم الكرامة ونداء العدل والحرية، أرهفت مسامعي وحواسي وأقدم نفسي بين حشودهم، وأرفع شارة المشاركة في وليمة التاريخ مغسولة الوجه بالدم مشروخ الحنجرة بالمواجيد، بدائياً يمارس الرقص، إذ يظن أن الأرض ومن عليها محض امتداد لجسده، أرقص متمرسا بجرأة الوقوف بين من ينتظرهم الذبح، وجرأة الانخراط في الفوضى بين الهمج، وجرأة الاكتفاء بالخبز والملح في مواجهة موائد الطغاة، وأغني لمن ألقي السمع واستطاع أن يشهد، يطربني غنائي وإن لم يسمع أحد... كأنني انتهي إلى القول:
«إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع»
وهذا يبين مسئوليته عن الشعر والتواصل، ولا يكتفي بالكتابة، وقد بدأ يدخل إلي عالم الكتابة النثرية فيقول الشاعر في نصه النثري: (الزيارة) "صحو هو الفجر المعلق من ثريات القصيدة إذ أحرك في ضرام الخضرة الشمس التي صدئت على أقفال بابك يا أبي ناديت في طقس الزيارة: كيف أزمنة التراب وكيف تنجبل السلالة من أبي" في هذا النص تشم رائحة الطمي تراب الأجداد، وعبق اللغة العربية التي يحبها".