في الحق لا نرغب للمثقف في أن يظل حبيس فضائه الصغير الحميم وسواء كان هذا الفضاء في شكل بيت أو زاوية أو هامش، وخصوصا في المدار الذي يجعل هذا المثقف في شكل محار منغلق على ذاته وعديم الصلة ــ بالتالي ــ بما يحدث في الخارج من وقائع ومستجدات. وخصوصا ـكذلك ـ إذا كان هذا المثقف من الصنف الذي يضاعف من عزلته مما يجعل منه متصوفا وزاهدا يذيب المسافة بين ذاته والكلمة بل ويرقى بهذه الأخيرة إلى أن تكون «مسكنا» له داخل فضائه الصغير الذي يرقى به، ومن ناحية موازية، إلى مصاف «الجغرافيا الروحية» التي تحدَّث عنها كبار المتصوفة. وكما أننا لا نرغب في أن يظل المثقف حبيس الفضاء نفسه، لكن، وهذه المرة، لاعتبار آخر غير الاعتبار أو الحافز الصوفي الذي يحفِّز على التطلع إلى تلك «النقطة العليا» التي كان قد تحدث عنها كبار المتصوفة. وحتى إن كان الاعتبار الأخير يفارق المنحى الصوفي فإنه بدوره لا يخلو من «جنون» هو قرين «مرض» بطل قصة باربوس «الجحيم» الذي كان يلجأ إلى غرفته في الفندق ليغلق بابها ويعيش ليرقب الآخرين من ثقب الحائط بدليل أنه، وحسب باربوس نفسه، «يرى أكثر وأعمق مما يجب» حتى وإن كان «لا يرى إلا الفوضى». هذا بالإضافة إلى أن غرفة هذا الأخير هي حدود إدراكه كما يعلق كلون ولسون في كتابه «اللامنتمي» الذي كان قد خصَّه، وفي خمسينيات القرن العشرين، لأمراض البشر النفسية في القرن نفسه، وبما في ذلك أمراض الكتاب والمثقفين.
فالمثقف، وبالنظر إلى مجمل المتغيرات، مطالب بالتأكيد على فهم آخر لعلاقته بالفضاء العام. أجل إنه لا يمكننا أن نطالبه بالنزول إلى الشوارع الخلفية والأمامية وإلى الأزقة المهجورة والهوامش الصعبة والمنعرجات الخطرة... حتى يقوم بأداء أدواره التقليدية المتمثلة بالتبسيط والشرح والنقد والتعليق... بل والحشد والتشييج. فالمثقف لم يخلق لهذا النوع من الأداء، إضافة إلى أنه لا يمكننا أن نتصور أنه خُـلق لكي يحل المشاكل ذات البعد الاجتماعي والنفسي والأنثروبولوجي...إلخ. ولا ينبغي أن نقذف به إلى مثل هذه الدوائر التي تتعذر على الفهم بسبب من تعقيداتها الميدانية وبسبب من طبقات سوء الفهم التي تلازمها. غير أن ما سلف لا يحول دون أن ينزل هذا المثقف إلى الفضاء العام لتأكيد حضوره العقلي والبدني، ذلك أن هذا الفضاء من بين العوامل التي تبرهن على «تمثـّلات المثقف» تبعا لعنوان أحد كتب الأكاديمي الأمريكي والمفكر الفلسطيني الأشهر إدوارد سعيد. ولا يمكن لهذا المثقف أن ينجز حريته أو سلوكه الإنساني، كما نعته البعض، إلا من خلال الفضاء العام بمفاهيمه المتمثلة بـ"حرية الرأي" و»مقولات الفكر» و»قيم الأخلاق». بل إن المثقف يكون، هنا، مطالبا، بالدفاع عن الشروط التي تضمن للفضاء العام «صعوده» وبالتالي الحفاظ على «استمراريته». تلك الشروط التي يمكن حصرها، وتبعا لبعض دارسي الفضاء، في «الديمقراطية» و»الفصل بين السلط» و»المجتمع المدني» و»حرية الصحافة» و"حرية التعبير" و"حرية التفكير" و"حرية الاجتماع"... إلخ
وفي مثل هذا الفضاء يمكن للمثقف أن يبرهن على «ضرورة المثقف» وحاجتنا الماسة إليه، ولاسيما في مثل سياقنا الذي لا يولي للمثقف أهمية تذكر بل ويعمل على تحقيره بطرائق جلية. وفي مثل هذا الفضاء كذلك لا يبرهن المثقف على ضرورته فقط، بل ويبرهن على أنه من بين الساهرين على تشكيل هذا الفضاء. ذلك أن ما يتميز به المثقف، ومن ناحية الأداء والحضور معا، هو ما لا يتميَّز به آخرون ممن يتربَّصون بالفضاء العام من أجل تحقيق مآربهم، ولا سيما في ظل العديد من المتغيرات التي أخذت تحفز على استسهال العمل الثقافي والسياسي. وليس من شك في أن الفضاء العام «مفهوم فلسفي مركَّب»، ومفهوم متداول في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولذلك ليس غريبا أن تكون قد اعتنت به، درسا وتنظيرا، فلسفات مختلفة ونظريات كثيرة. وقد صار المفهوم نفسه أكثر استعمالا منذ أن خصّه يورغين هابرماس (أحد المدافعين عن ميراث التنوير) بأطروحته المعنونة بـ»الفضاء العام» (1963). غير أنه تجدر الملاحظة إلى أن المفهوم استعمل أول مرة من قبل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 ــ 1804). وبعد ذلك استعمتله، وبشكل مدقَّق، حنا أرندت في كتابيها «شرط الإنسان الحديث» (1958) و»أزمة الثقافة» {1961}.
ولا يهمنا أن نفصِّل في العناصر التكوينية للمفهوم والمتمثلة بـ»الرأي العام» (Opinion publique) و"المجال العام" (Domaine public)... وغير ذلك من المفاهيم الفرعية. ولا يهمنا أن نشير إلى «الجاذبية» التي يتسم بها استعمال المفهوم في العلوم المشار إليها من قبل. يهمنا، تعيينا، أن نتوقف عند ما يمكن تسميته بـ»استعمال الفضاء» من قبل مثقفنا «الحداثي». وهو الاستعمال الذي لا يخلو، وبالنظر إلى أشكال التغريض التي تطاله، من «لوثة» أو «مس عصابي» هو قرين مرض آخر ينضاف إلى لائحة الأمراض التي تطال المثقف. وعلى هذا المستوى فإن المثقف، وبدلا من أن يعكس «حضوره السوي» في هذا الفضاء، فإنه يكشف عن رغبة في التأكيد على «نجوميته». غير أن الاضطلاع بدور «المثقف النجم» لا ينحصر في المثقفين المكرَّسين، وإنما يمتد إلى أنصاف المثقفين وأشباه الكتاب ممن يبرزون أكثر في الندوات والمهرجانات والمعارض. فالكثير من هؤلاء يحلم بأن يكون موضع نظرات وكاميرات... وليس من باب التأكيد على «فضيلة الانتماء للكتابة» وإنما من باب التأكيد على نوع من التوطن في «المرض» أو «الهوس الداخلي». هذا وإن كان هذا الهوس يقدِّم «خطابه» المرئي وغير المرئي بطرائق ملتوية في أحيان وغير ملتوية في أحيان كثيرة. وكل ذلك بدافع من الرغبة التراتبية القائلة بتمايز البشر وتفاوت الوضع... وكـأن المثقف خلق لكي «يتعالى» وإن على نحو غير سوي.
ومثقف من هذا النوع لا يفكر في أن يكون «النقاش» و"الحوار" مدخله إلى الفضاء العام، وكل ذلك بدافع من الرغبة في الإسهام في «الرأي العام» وبدافع من الرغبة في تعضيد ما يسميه السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو بـ"القوة المحايثة" لـ"الحقل الثقافي" الذي يلتبس بهذا الفضاء. تلك القوة التي تجعل المثقف يؤكد دوره العام داخل الفضاء العام وبما يسعى إلى إشاعة قيم الفكر والأدب والجمال والأخلاق. ذلك أن الفضاء يفترض أو بالأحرى يرتكز على تصور مغاير لـ»التواصل» بحكم صلة هذا الفضاء بجمهور يغاير جمهور الكِتاب أو الصحيفة، وهو جمهور محدود مقارنة مع الجمهور الذي يتوافد على فضاءات تبدو الأكثر تعبيرا عن رحابة الفضاء العام.
ويكون المدخل، للفضاء العام، وفي الحال المرضية، لا «الاتصال» ذاته، وعبر «الأفكار» التي تستلزم إدارتها وتصريفها لغة مخصوصة، وكل ذلك في إطار من التفكير في «مصلحة المجتمع». يكون المدخل، هنا، مغايرا وبما يغطي على سند الاتصال ويطمس بالتالي مرتكز الأفكار. وفي هذا السياق يمكن فهم تستر بعضهم، على «ضعفهم المخجل»، بـ»التأنق» الذي يبدأ بـ»اللباس المدروس» لكي لا ينتهي بـ»الابتسامة الوديعة» أو «الابتسامة الآسيوية الصفراء»، وكل ذلك في الإطار الذي لا يفارق مدارات التأنق الأنيقة بدورها.
وفي الحق لا يمكن الاعتراض على التأنق في حد ذاته وحتى كـ»هدف»، ولا يمكن الاعتراض على الوسامة وإلى ذلك الحد الذي جعل سارتر يغار من وسامة كامو، ذلك أنه لا أحد يرغب للمثقف في أن يتحول ــ وكما كتب البعض ــ وساخرا طبعا ــ إلى «نعجة قذرة» تنبعث منها «روائح كريهة» أو أنه لا أحد، ومن المهتمين بـ»شجون الثقافة»، هذه المرة، يرغب في التأكيد على مقولة «الفقراء الجدد» المتمثلين بفلول المثقفين وعلى نحو ما يناقش حتى في بلدان غربية متقدمة مثل فرنسا. فالاعتراض، هنا، على «التأنق الفيتيشي» أو «الصنمي» الذي هو قرين التأكيد على حالة مرضية تدّعي، ومن خلال «الزي» بمفرده، الانتساب إلى «عالم الثقافة الصعب». هذا بالإضافة إلى أن مثقفنا هذا، وبتعاليه هذا، ومن خلال لباسه وبلباسه وفي لباسه، يسقط في نوع مما يسميه التحليل النفسي بـ»الاستعراء» (Exhibitionnisme) أو «الاستعراض الاستعرائي». فالثقافة، هنا، تتحول من «مخطط إلى العيش»، كما يتصور الأنثروبولوجيون، إلى مخطط لتجذير المرض و»خواء الشهرة» كما نعتها سرماغو. و»القضاء على «ثقافة المرض» أصعب، وبكثير، من القضاء على المرض» كما قيل.
والواقع أن حال «الانقضاض» على الفضاء العام تنطبق على «الصاعدين» أكثر مما تنطبق على «المكرَّسين»، وخصوصا من الذين تشبعوا بـ»النقد الإيديولوجي» أمثال المؤرخ الألمعي عبد الله العروي الذي تحولت إحدى محاضراته بالعاصمة المغربية، ولمناسبة افتتاح أنشطة اتحاد المغرب لموسم 2005، إلى ما يشبه معرضا للأزياء من قبل البعض. وكانت المحاضرة، ولحسن الحظ أو سوئه، حول «عوائق التحديث بالمغرب» (وقد آلت إلى كتاب يحمل العنوان ذاته). وفي جميع الأحول فالعروي من النوع الذي لا يمكن أن تفوته الإشارات إلى «دلالة اللباس» في نطاق نظرته التاريخية النقدية للمغرب الحديث؛ وهو ما فعله في كتاباته. غير أنه في الحال الأخيرة يصعب رصد الظاهرة، ذلك أن «المثقف النجم» يصعب التمييز بينه وبين عارض الأزياء. ولعل هذا ما يستلزم الإفادة من قراءة أخرى تتوسل بالنقد الثقافي وبنوع من الإفادة من الذين مهدُّوا له أمثال الناقد الفرنسي رولان بارت الذي كان قد خصّ الموضوع بكتاب يدرس فيه «أنساق الموضة». غير أن اللباس في حال هؤلاء لا يتوخى «التواصل» ولا حتى «التعبير الطبقي»؛ بكلام آخر: إنه يتوخى «التسويق الذاتي» من أجل «الانتساب الثقافي».
وقد يفاجأ الملاحظ والمحلل والمعلق، والمهتم بالشأن الثقافي العام بالمغرب، وبالاستناد إلى نظرة كمية لا غير، من انتشار البعض في الفضاء العام وبتداول أسمائهم في بورصات هذا الفضاء، بل وتحكمهم في هذا الفضاء. ويتحقق لهؤلاء ذلك مع أنهم «فارغون ثقافيا»، فارغون وبالمطلق، أو إنهم «البدون ثقافة». وكثير منهم لا يملك حتى قدرة الدفاع عن ذاته، لكي لا نشير إلى دفاعه أو كشفه عن عمق ثقافي. غير أنهم ينجحون في تسويق منتوجهم أو سلعتهم، وإن تطلب ذلك «الكتابة بأصابع الآخرين» أو «الرسم بذيل حمار». غير أن هؤلاء تجدهم في الصفوف الأمامية، وفي قلب المشهد... من الفضاء العام. ولا يستغرب أن يتربعوا في هذا الفضاء، طالما أنهم يجيدون المرور إليه لا من وسط «الجموع»، وحيث بعض «المثقفين النقديين»، ومن الذين لا يقرنون الثقافة بالتجارة، ومن الذين يصعب اختراقهم، وإنما يمرون أو بالأدق يتسللون من الجوانب... عبر المطاعم المصنفة والبيوت العتيقة في المدن العتيقة وعبر الشقق الفخمة... وكل ذلك في إطار لا يكتفي بخلط الثقافة بالتجارة وإنما يتجاوز هذا الخلط نحو خلط آخر، وأفظع، حيث يصعب التمييز بين الثقافة والسمسرة والِزبالة. وفي مثل هذه «الهوامش المريحة» ترى هذا المثقف يتحدث في جميع الأشياء بدءا من «البارصا» و»التينيس» وأنواع النبيذ وأصناف الأسماك... وتراه يتحدث عن «السرطان» دون وعي منه أنه أحد أسباب «سرطان المرحلة» ككل.
فالفضاء العام، بالنسبة لهؤلاء، لا يمكنه أن يكون وسيلة للإسهام في خدمة الرأي العام حتى يتحول إلى «قوة سياسية اقتراحية مؤسسة» أو «قوة سياسية فاعلة دالة» تعمل على ترشيد السياسة وتحقيق مصلحة المجتمع. أمثال هؤلاء لا يفكرون في الانخراط في «مسلسل بناء الفضاء العمومي» ولا في «انتقال المجتمع إلى السياسة»... إلخ. وأمثال هؤلاء لا يؤمنون، كذلك، بالفضاء العام باعتباره فضاء يتفاعل فيه، وعبره، الفرد مع غيره من أفراد المجتمع من أجل تنشيط المجتمع المدني ومن أجل التأكيد على دور الثقافة في التصدي لأشكال التسلط والتأجيل والتنميط.
وأمثال هؤلاء هم الذين يكرّسون «الخواء الثقافي»، ومن ثم يزيّنون، وبذريعة الاستشارة وبيع الخبرة، ولـ"أباطرة السياسة والمال" ولوج الفضاء العام من أجل توجيه الحياة العامة وبالتالي التحكم في شؤونها. وليس غريبا أن نكون قد أخذنا نتعايش مع «زعماء أحزاب» و»مثقفين نافذين» و»إعلاميين في الواجهة»... مع أن محاضرات هؤلاء ومداخلاتهم وكتاباتهم غير مقنعة. وفي «عهد العولمة»، وكما قيل، أصبح الفضاء العام يعاني من تغيرات تتعلق بالجوهر والشكل والفاعلين والخطاب والأهداف والمقاصد. إجمالا لم يعد هذا الفضاء مقرونا بأي نوع من «الفعل السياسي» الذي اشترطته حنا أرندت في الفضاء العام، وإنما صار مجالا لـ»الاستئثار العفن» و»الانتهازية المقيتة».
ناقد وأكاديمي من المغرب