منذ أيام قليلة، غادر الروائي الكبير محمد ناجي مصر عائدا إلى باريس لاستكمال رحلة علاج شاقة وطويلة، بعد إجازة قصيرة قضاها في القاهرة، التقى خلالها صحبة العمر والأصدقاء المقربين والمحبين العارفين بقدر وقيمة الروائي الذي كتب 7 روايات حتى الآن تعد من عيون الرواية العربية، وأحد محطاتها الرئيسية في مسيرتها الممتدة، والتي مثلت منجزا شامخا وشاهقا في المشهد الروائي العربي لا يمكن التغافل عنه أو عدم الالتفات إليه والبحث عن عناصره التكوينية والجمالية والإنسانية.
محمد ناجي، الذي احترف الصحافة، واستهل مسيرته الإبداعية بالشعر أواخر الستينات من القرن الماضي، يعد دون شك أحد الآباء المؤسسين للرواية العربية فيما بعد نجيب محفوظ، وأحد الروائيين الكبار الذين اختطوا مسارا جماليا مغايرا على مستوى الشكل والبناء، متكئا على ثقافة رفيعة وعميقة مثلت مظلة واسعة ينهل منها ويوظف عناصرها في إنجاز مشروعه الروائي الراسخ. تكتظ عوالم محمد ناجي بأنماط من البشر ونماذج إنسانية تضم بشرا عاديين ومهمشين وفقراء ومنسحقين وقتلة وفاسدين ومغنين ورواة وحكائين.. عالم زاخر يموج بالأساطير المؤسسة لواقع مؤلم وحزين. عالم يرصد دراما التحولات العاصفة التي ضربت مصر في الربع الأخير من القرن المنصرم.
عُني ناجي بهذه التحولات العاصفة، لأنها هي التي تحدد احتمالات المستقبل، ولأنها تحولات تتم في الواقع بسرعة رهيبة، وهناك تغيرات كبيرة طرأت على سلوك وأوضاع الأفراد في المجتمع، ونمط تفكيرهم، من هنا اشتغل محمد ناجي من خلال مشروعه الروائي الكبير على رصد التحولات المعرفية، والاجتماعية، والسياسية، لكن من خلال الذائقة الجمالية والبنى الاجتماعية. وبديهي أن يكون محمد ناجي ابن فترة «القلق العظيم» شاهدا ومؤرخا ومسجلا جماليا لهذه التحولات التي تفتحت عيناه عليها منذ رفع شعارات الموت في 1952، والتي شارك في تمثيلها وإنشادها على خشبة مسرح المدرسة، ثم مشاركته بقوة وفاعلية في الحركة الطلابية في الجامعة، مرورا بفترة تجنيده، ومشاركته في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة، ثم الانفتاح وعواصفه حيث سافر مع من سافروا لشراء شقة لأسرته وللتطلع لحياة كريمة، وشاهد التصورات الفردية والأنانية، وانسحاق القيم الجماعية أمام البنكنوت. إذا لم يكتب محمد ناجي عن كل ذلك. فعن ماذا يكتب؟
7 روايات و3 في الطريق
استهل محمد ناجي رحلته مع الكتابة، وهو ما زال طالبا، كتب الشعر وتفوق فيه، وحاز المركز الأول في ملتقى الجامعة الشعري الأول، مع رفقة من أصدقائه منهم الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد، وأسامة الغزولي. محمد ناجي الشاعر، لم يكن شاعرا تقليديا ولا «اعتياديا»، فذائقته الشعرية تكونت مبكرا ووصلت لدرجة من النضج والرهافة والحساسية دفعت به إلى آفاق لا تحد. طموح ناجي الشعري لم يكن مقصورا على حد كتابة «قصيدة جميلة» فقط، بل كان يحمل بين جنباته مشروعا طموحا لتجديد القصيدة العربية وشكلها، لإيجاد صورة شعرية مبتكرة وجديدة تتآلف عناصرها من المخزون الثقافي الشعبي الوارف مع حس إيقاعي متجذر، وصولا لقصيدة عصرية، مصرية خاصة، تحمل طابعها لحظتها الراهنة وسؤالها الإشكالي. لم يمد محمد ناجي حبل الشعر على امتداده، بل جذبه وطواه وأغلق عليه الصندوق ووضعه في أحد الأدراج المخفية.. لا أحد يعلم أين؟ ولا متى يمكن أن يفرج عن كنوزه ودرره؟
ومنذ نهاية الستينيات، وحتى النصف الأول من التسعينات، انخرط ناجي في ممارسة العمل الصحفي والإعلامي، متنقلا بين كبرى المؤسسات الصحفية والإعلامية في مصر وخارجها. قرابة العقدين من الزمان ساهم فيهما ناجي بإنشاء وتأسيس العديد من الصحف والجرائد العربية، وترك بصمة لا تمحى في ممارسة العمل الصحفي، الذي شهد أعلامه وأساتذته بالتمكن والاحترافية لناجي الذي بلغ ذرى وافرة من المهنية والتفوق والإبداع في عالم الصحافة والمطبوعات.
في صيف 1994 فاجأ ناجي الجميع، وخرج عليهم بروايته الأولى «خافية قمر»، التي صدرت طبعتها الأولى عن روايات الهلال، وكأن ناجي ألقى قنبلة في الوسط الثقافي العربي.. رواية مذهلة، ناضجة، وكبيرة، لا تشي أبدا بأنها «رواية أولى»، صيحة روائية أطلقها ناجي وما لبثت قليلا إلا وجذبت إليه الأنظار ولفتت انتباه كبار النقاد وعلى رأسهم الناقد الراحل الكبير علي الراعي الذي كتب «مِدحة نقدية» غير مسبوقة في هذه الرواية التبشيرية. أما «خافية قمر»، فاسم قرية، مكان موحش، خلقه الفنان خارج المكان والزمان، وأقام من أشخاصه وأساطيره وأماكنه رواية شعرية جديدة، تقدمت عن واقعنا الروائي المعاصر في قفزة بارعة تميزت بالبراعة والإحكام.
الروائي والناقد الكبير علاء الديب قال عن «خافية قمر»: «على العكس من الروايات الأولى للكتاب خرجت «خافية قمر» ناضجة، لا استرسال فيها ولا استسهال، كل شيء موضوع في مكانه، وذات الكاتب لا تعرف البوح المباشر الصارخ، ولكنها ذات مدركة لتلك العملية المعقدة التي تجمع بين الموهبة والإبداع والصياغة والصناعة .. يعمل الكاتب على مستويات ثلاثة: المعاصر، والواقعي، والأسطوري، ويتحرك ليس بين النقيضين فقط، ولكن بين كل الألوان. حملته موهبته الشعرية ـ التي سكنت في الجملة، وتبدت في الترنيمات والأغاني ـ إلى أفق بعيد، لكنه حكم التيار الشعري ببناء روائي مبتكر وغير مسبوق. جمع فيه بين رائحة البداوة والعربان، وطين القرى ورهافة الحقول، فجاء عملا يستحق الإعجاب.
وقال الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي عنها «قطعة فنية شديدة الحيوية في إطار محكم التركيب، ومعايشة حميمة لأسرار الحياة والعلاقات في العالم التحتي، الأمواج والتيارات الراحلة والوافدة التي شكلت الطينة الاجتماعية والفكرية المصرية .. وتغلف الأماكن بنعومة الأسرار وخطورتها لتثبت أننا أقوام خلقت للأسطورة، يفزعنا الوعي المجرد فنغلفه بالخرافة ونحمله جيلا بعد جيل. تزودنا الخرافة بالمنهج والرؤية وتمنحنا زادا للتفسير والقدرة على المواصلة».
بدا بعد النجاح الساحق الذي حققته «خافية قمر»، أن ناجي ينهل حكاياته من ذلك النبع العميق الدافق «الموروث الشعبي»؛ الأغاني والمواويل والأمثال والحواديت والحكايات الخرافية، وينقش فوق سطحه (تجلياته) و(لمساته)، فإذا بالقص الشعبي التقليدي المعروف، الذي تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل، يصير عملا روائيا جديدا، شكله ناجي بأدواته ورؤاه ولغته الشعرية الخاصة.. هكذا أسس ناجي لتيار جديد في عمله الروائي الأول «خافية قمر»، ثم استكمله بعد ذلك في رواياته الباهرة «العايقة بنت الزين»، و«مقامات عربية»، ومن قبلهما في روايته القصيرة اللافتة «لحن الصباح».
في روايته «لحن الصباح» يفاجأ القارئ بتلك العلاقة المتوترة، دون سبب، بين خطاط يمارس فناً جميلاً لكنه دون موقف، وانتهى به الأمر، أن ارتعشت يداه، فبحث عن صنعة أخرى، وما بين مقاتل ممتلئ بالحيوية، خرج من الجيش بعد أن شارك في انتصار، وينتظر تقدير الناس له على ذلك، فإذا به يفاجأ بأن عليه أن يتجرع كأس المرارة لآخره. هناك عداء بين الاثنين رغم وقوعهما معا تحت وطأة الظلم الاجتماعي، فكان لا بد أن تنتهي الرواية في لحظة الصدام، فقتل أحدهما الآخر دون قصد. أما «فانوس» في نفس الرواية فهو صاحب أفق غنائي يصاحب غناؤه المؤلف والقارئ على السواء وهما يجولان في شوارع القاهرة، و«فانوس» هذا محمل بأشياء كثيرة، مثل الإحباط، والغربة والرغبة في التجاوز والإحساس بالمستقبل، والتعثر في الماضي.
وأحسب أن الخوض في هذا الدرب (الموروث الشعبي) بكل ما يحمل في طياته من عوالم سحرية وأسطورية وحسية وخيالية بعيدة عن أرض الواقع وبعيدة عن عالمنا يتطلب من المبدع قلما قديرا يخوض في (أمواج) التراث والموروث القديم (برشاقة) ليقدم لنا في النهاية عملا إبداعيا جديدا وغير تقليدي، وقد نجح ناجي في ذلك، وجعلنا نقع في (هوى) حكاياته العذبة، ونفتن بلوحاته القصصية التأملية الوجودية.
في مسار مواز لاستلهام «الموروث الشعبي»، والنهل منه والاتكاء عليه، هناك كذلك في سطور رواياته الأخرى «الأفندي» و«ليلة سفر» و«قيس ونيللي» الجانب الواقعي المعاصر الذي يعكس معه (خارطة) المجتمع المصري بتغير ملامحها وطبائعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على السواء، حيث يقدم ناجي في هذه الروايات وجوها وشخصيات استهلاكية وشرهة أفرزتها سياسة الانفتاح الاقتصادي التي طبقها السادات بعد حرب أكتوبر 1973.
في روايته «الأفندي»، ثمة علاقة واضحة بين اختفاء الطبقة المتوسطة وصعود أشخاص من القاع إلى عالم رجال الأعمال، حيث رصد ناجي الطريق المفتوح للصعود في حقب السبعينات والثمانينات، حين يفرغ الفرد من الإحساس بالانتماء للوطن وبالآخرين، ويصبح البنكنوت أغلى من البشر، بطل الرواية هو «حبيب الله الأفندي» لسان حال عصره، وهو رجل قاس وأناني لا يرى إلا نفسه، ومفسد في معظم الأحيان، دفعه فقره إلى العمل مرشداً سياحياً بالرغم من دراسته الفيزياء، ليقدم الخدمات التافهة والمنحطة للسياح مقابل الكثير من المال الذي لا توفره الأعمال الأخرى المحترمة، ويلتقي «الأفندي» في حياته أنماطاً متباينة من البشر، كتّاباً وصحفيين وسينمائيين ومذيعين، ويكتشف أن كل هؤلاء لا يختلفون عنه، فهم يتصرفون مثله رغم مكانتهم الاجتماعية المرموقة.
خلال الفترة من 1994 وحتى 2014 أخرج محمد ناجي 7 روايات كاملة، هي: «خافية قمر»، «لحن الصباح»، «العايقة بنت الزين»، «رجل أبله.. امرأة تافهة»، «مقامات عربية»، «الأفندي»، «ليلة سفر»، وأخيرا روايته «قيس ونيللي» التي نشرت مسلسلة على صفحات جريدة التحرير، في شهر رمضان الماضي، وستصدر خلال فترة قريبة عن مركز الأهرام للدراسات والنشر، في باكورة إصداراتها الجديدة لنشر الأدب المصري المعاصر. كما أخرج ناجي كتابا نثريا بديعا نشرت طبعته الأولى عن دار العين للنشر بعنوان «تسابيح النسيان»، وانتهى من كتابه الجزء الثاني منه بعنوان «ذاكرة النسيان» نشر مقاطع منه على صفحات جريدة الأخبار، ومن المقرر أن يصدر الجزءان معا في كتاب واحد خلال الفترة القليلة القادمة.
صدرت الطبعات الأولى من روايات ناجي، كلها، عن سلسلة روايات الهلال العريقة (عدا قيس ونيللي)، وأصدرت الهيئة العامة للكتاب العام الماضي أعماله الكاملة في 3 مجلدات، في طبعة أنيقة مدققة ومنقحة، ولدى ناجي ما زال 3 روايات كاملة قيد الطبع، هي: «سيدة الماسنجر»، «سيد الوداع»، و«البوليتيكي» وهي رواية رأيت مخطوطتها الكاملة بخط يده، وأزعم أنها رواية «خطيرة» و«عظيمة» باستهلالها اللافت ومدخلها الزاخر الذي أراه أحد أعظم وأهم استهلالات الرواية العربية.
هذا بالإضافة إلى سيرة ذاتية ضخمة تجاوزت الـ600 صفحة، يروي فيها سيرته الذاتية التي رافقت سنوات التحول في تاريخ الوطن.