(1)
جلسنا حوله: أنا، والمدرب، وعازف الفلوت. كنا أصدقاء من شباب جيلنا في مدينتنا الصغيرة. وكان هو على رأس حلقتنا يواصل إصلاح مدفع رشاش صغير في يده. يجلوه بمبرد، وخرقة، وزيت، ويتحكم في تثبيت إبرة الطلقات بآلات دقيقة لم أر مثلها من قبل، إلا عند من يصلحون الساعات. وجه أشقر، عالى الجبين، عريضه، وذقن متوسط به طابع الحسن ، لعله من أمه المصرية، وأذنان كبيرتان بدتا لى كميكروفونين، يتسمع بهما إلى أصوات الدنيا كلها، فى بيته، وخارج بيته، وعينان واسعتان زرقاوان، كمياه البحر فى سواحل عميقة. أثارت نظرات عينيه فى نفسى، كلما نظر إلينا، وهو يعمل، شعورا بالحيرة والغموض. بدت لى عيناه وكأنهما تتحدثان إلينا، بلغة لا أعرفها. حين انتهى من عمله، ربت على السلاح بحنو. كان اسمه: أنور. قال لنا :
طراز هذا المدفع السريع الطلقات هو: تومى جن . وهو أهم سلاح رشاش حتى الآن، فى أيدى المقاتلين، فى الدفاع والهجوم، وإبادة العدو، وهو السلاح الذى سنستخدمه نحن الأربعة، فى عمليتنا الكبرى .
نظرت إلى عازف الفلوت الذى جاء بى إلى هنا، فى هذا البيت، مستفهما، فابتسم لى أنور، وقال لعازف الفلوت:
ألم تحدثه فى الأمر العظيم الذى سنقبل عليه ؟ فقال له عازف الفلوت: لا. ليس تماما. قلت له فقط إن لديك مغامرة كبرى لنا، وإنك تركت لى مهمة اختيار أفرادها.
ابتسم أنور عندئذ، وأسند ظهره إلى الحائط، وثنى ركبتيه قرب صدره قليلا، وقال لنا :
إذن فلنتعارف أولا، وسأبدأ بنفسى .
وشرد لحظة، وقال وهو لا ينظر إلينا، وكأنه يحدث نفسه فى حوار مسموع :
اسمى أنور التفاكشى . والتفاكشى يعنى أننى أصلح السلاح. ليس مهما اسم أبى . يكفى أن تعرفوا فقط أنه كان يونانيا، ورحل إلى اليونان قبل الحرب العالمية الثانية، ولكنه لم يعد إلينا قط. عاشت أمى بعد رحيله عامين، واشتعلت الحرب، ويئست من عودته، فماتت المجنونة حزنا على غيابه. نعم . هى مجنونة. ليس لأنها ماتت، ولكن لأنها لم تفهم أن الحياة فى ذاتها تستحق أن تعاش، وأنها لا تتوقف على حياة أحد آخر أو موته. أغلقت أمى المطعم قبل وفاتها بأسابيع، واعتكفت حزينة إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة. كان مطعم أبى يبيع ساندويتشات الفول والطعمية للموظفين والعساكر وضباط المركز القريب من هذا البيت. وكان أشهر وأنظف مطعم فى السنبلة الخضراء كلها. وكنت ولدا آبقا، وصديقا للعساكر. هويت ما يحملونه من أسلحة، وعلمت نفسى بنفسى كيف أصلح أسلحتهم العاطلة، من بنادق ومسدسات. ولم يهدأ غضب أبى على، أو تسترح أمى من عبء الدفاع عنى، إلا حين نثرت بين أيديهما ذات ليلة ما كسبته من إصلاح السلاح للعساكر. وكان صيتى فى إصلاح السلاح قد ذاع لدى كل من يحمل سلاحا، من الفلاحين، وأبناء الليل، وقطاع الطرق، والعصابات المنتشرة فى مديريتنا والمديريات من حولنا. صاروا يأتون إلى سرا وعلانية، فى النهار والليل .
خرجت من صمتى ، وقلت للتفاكشى :
-حمل السلاح محرم على غير رجال الشرطة والجيش. كيف، وبيتك قريب من مركز
الشرطة ؟
فقال ضاحكا دون صوت ، فرنات ضحكه تشيع فقط فى نبرات صوته:
وما الفرق بين العساكر واللصوص، كلاهما يحمل سلاحا، والسلاح يخشى السلاح، إلا حين يفرض على الطرفين أن يلتقى السلاح بالسلاح.
تدخل المدرّب، وقال لى:
اسكت. لا تسأل، ودعنا نسمع.
تنهد التفاكشى، وقال وقد سكتنا ثلاثتنا:
أنا لحاجة الفريقين إلى آمن. ولا يعنينى أمر مَن يحارب مَن.
وعاد إلينا التفاكشى ناظرا بعينيه إلىّ وإلى المدرّب، وقال:
هذا أنا. فمَن أنتما ؟
ورحنا نقدم أنفسنا إلى التفاكشي. بدأ المدرّب يعرف التفاكشى، ويعرفنى بنفسه، كان يدرب طلاب الكلية الحربية على استخدام السلاح. جُند قبل أعوام بالجيش، فراق له الجيش والسلاح، والضبط والربط، والأمر والنهى، وكره العودة إلى العمل مع أبيه فى السمكرة، وإصلاح بوابير الجاز. وأظهر إخلاصا وطاعة فمُنح شريطا، ثم شريطين، ثم ثلاثة، ثم أربعة أشرطة. وصار أمهر مَن يستخدم السلاح بين جنود دفعته. فراح يدرب رفاقه، وجنودا جددا على استخدام السلاح، وصيانة السلاح، وإصابة الأهداف العالية، والمنخفضة، والثابتة والمتحركة. وقدم له الضابط كتبا وأغراه بمذاكرتها، ليتقدم إلى مسابقة تدريب الضباط فى الكلية الحربية على السلاح. ونجح فى المسابقة بتفوق، فتطوع بقية عمره كله فى الجيش.
وبدورى رحت أحدث التفاكشى والمدرّب عن نفسى، أنا طالب الأزهر الذى لا يحب علوم الأزهر، ويعشق روايات الجيب، وقراءة مجلدات طرزان، وروكامبول، وباردليان وفوستا، فى مكتبة بحر مويس بالزقازيق.
ضحك التفاكشى مما قلته، وقال:
وأنت تحب المغامرة. لكننى أخشى من عبدة القول، على عبدة الفعل، ومن الخياليين على الواقعيين. ولذلك سوف تخضع، إذا قبلت، عندما تحين اللحظة لتدريب قاسٍ منى، ومن صديقنا المدرّب. وقبل ذلك على صديقنا عازف الفلوت أن يقوم لك بعملية غسل مخ.
شعرت بالحزن والغضب معا، لكن أحدا لم يتوقف عندما بدا على وجهى من انفعال. وران علينا الصمت، إلى أن حدثنا التفاكشى عن الأمر العظيم، فقال:
الهدف هو إبادة ألفى جندى إنجليزى فى دقيقتين فقط، بأربع رشاشات فقط، فى معسكر التل الكبير.
هالنى ما أسمع، وأعجبنى، وروعني. فصحت:
عظيم سنضرب الإنجليز إذن فى مقتل.
ولم يعلق أحد منا بكلمة على ما قلته. فقط ساد بيننا الصمت، إلى أن خرج المدرّب عن دائرة الصمت بقوله:
ستكون إذن مذبحة كبرى، لم يحدث مثلها، حتى فى صراع الدبابات مع الدبابات.
فقال عازف الفلوت للتفاكشى:
كيف ؟ نسمع الخطة.
عندئذ قال التفاكشى، وقد اقتربت رءوسنا:
سنكمن ليلا فى مدرعة، بساحة المعسكر، وننتظر فيها صامتين إلى شروق الشمس، سنرى ألفى جندى بالمعسكر، وقد ارتدوا الشورتات والفانلات، وبدأوا فى ممارسة تمارين الرياضة السويدية. يستمرون فيها عادة ساعة. حين تسمعوننى أقول: الآن. سنفتح نحن الأربعة النار من مزاغل المدرعة على الجنود الألفين، وطلقاتنا ستوجه إلى الرءوس والصدور. سيكون معنا سائق وطنى، أثق به، يعمل بالمعسكر معى، جالسا إلى عجلة القيادة، يتحرك بالمدرعة حول الجنود الألفين، ونفتك بهم فتكا سريعا. سيصاب كل مَن فى المعسكر بالذهول، وقبل أن يفيقوا، سيقتحم بنا السائق بوابة المعسكر مفتوحة كانت أو مغلقة. وحين نبتعد ستكون سيارة ملاكى بانتظارنا، نركبها، ونغيرها فى الطريق، عند مكان معين، بسيارة أخرى.
عندئذ قال عازف الفلوت بإعجاب مسحور:
ذلك سيقرب موعد الجلاء عن مصر.
وقال المدرّب:
نعم. لكن القيامة ستقوم بعد هذه العملية الحربية الكبرى. وقد يعيد الإنجليز الانتشار فى مصر كلها، ويتعرضون عندئذ لمقاومات أعنف فى قرى مصر ومدنها.
ظللت صامتا، مروعا، ومرتاعا، وحالما بهذه المغامرة، حتى سمعت التفاكشى يقول لى:
ما رأيك أيها الشيخ الصغير ؟ فقلت: ذلك يعنى أمرين، أحدهما فى البداية، والآخر فى النهاية.
سكت لحظة، ثم قلت، والتفاكشى يحدق فى:
ذلك يعنى أن عليك يا أخ أنور أن تلحقنا بالعمل فى المعسكر أولا، وفى عمل نكون به قريبين منك دائما.
فقال لى التفاكشى مبتسما:
والأمر الآخر ؟ قلت: أين سنذهب بعد أن نغادر السيارة الأخرى. والبحث سيكون شديدا عنا، وراءنا، يطاردنا، وأسماؤنا لديهم كعاملين متغيبين عن المعسكر، وصورنا أيضا.
فقال التفاكشى:
ذلك هو الأمر العظيم الآخر. هل نتفرق فرادى، ونختفى كل بطريقته، أم نظل معا، ونختفى معا، فى نجوع الصعيد وكفوره مثلا ؟ علينا أن نقرر الآن.
فقال عازف الفلوت:
سيان الأمر عندي. أنا خريج ملجأ، يمارس عزف الفلوت للهواية، ولدى حرفة أمارسها كصانع نسيج على الأنوال الخشبية.
وقال المدرّب:
- وأنا لدى حرفة السمكرة، وفى سبيل هذه الغاية الوطنية الكبرى، لا أبالى بالهرب من
الجيش.
وقال التفاكشى، وهو يمسك بالرشاش:
وأنا لا أبالى بشىء خسرت حياتى، أم كسبتها. ومعى حرفة أمارسها لعصابات الليل فى جبال الصعيد.
والتفت التفاكشى إلى، وقال ضاحكا:
وأنت أيها الشيخ الصغير ؟ فقلت: لا أبالي. جدى كان فلاحا، وقد زرعت الأرض معه.
وقال المدرب للتفاكشى:
ومتى سنبدأ ؟ فقال التفاكشى وهو ينظر إلىّ: نحن الآن فى أواخر الصيف. وصديقنا سيذهب إلى دراسته فى معهده، وسوف نلتقى مرة أخرى، مع نهاية الربيع، فسوف تكون عمليتنا فى عز الصيف، فى العام القادم، وأكون عندئذ قد فرغت من وضع كل اللمسات اللازمة للتنفيذ، وبإحكام لا يسمح بأى خطأ.
وكان الفجر قد اقترب، فتعاهدنا على كتمان السر، وعلى عدم اللقاء إلا فى ليلة اليوم الأول من شهر يونيو، فى بيت التفاكشى، وافترقنا من بيته، واحد بعد الآخر. ربما لأننا كنا قد تآمرنا. وكان علينا أن نتصرف كمتآمرين.
(2)
اقترب موعد الليلة الأولى من اليوم الأول، من شهر يونيو، وكنت قد عدت من معهدى الدينى بالزقازيق، إلى السنبلة الخضراء . وأقمت مع أهلى لا أبالى برسوبى فى علم النحو، ولا بمذاكرتى له مرة أخرى، لأجتاز امتحانى الثانى فيه. وربما كان الرسوب لتركز روحى كلها، فى عملية التل الكبير. وعدم عنايتى بدراستى لفوازير النحو، لأعرف إعراب كالزيدان وبالألف لا بالياء.
رحت أبحث عن صديقى الحزين عازف الفلوت . لم أجده فى بيته. أخذت أبحث عنه فى الخلاء القريب من المدينة. على ترعة البوهية، حتى سمعت صوت الفلوت الأسيان كصوت ناى عميق الشجي. اتجهت صوب مصدر الصوت، إلى أن رأيت صاحبى جالسا وحيدا فى الظلام، على حجر، على رأس أرض مجاورة لشاطئ ترعة البوهية. تنحنحت وأنا أقترب منه حتى لا أفزعه. فتوقف صوت الفلوت لحظة، وسمعت صوت صديقى يقول لى:
تعال يا سليمان.
اقتربت منه، وقد عاد إلى عزفه، وجلست بجانبه فوق حجر آخر، إلى أن توقف عن عزفه لمقطوعته الأثيرة. وضع صديقى الفلوت فى حجره، وقال لى بيأس لم أعرف سببه بعد:
جئت تسألنى عن أنور، وموعد لقائنا ؟ قلت له: نعم.
فضحك بسخرية، وقال:
إنه الآن يبحث عن الحقيقة.
فقلت له بدهشة:
- ماذا ؟
فقال لى بأسى:
كما أقول لك. كان يحلم. وكنا نحلم نحن أيضا. كان يحلم، ولا يزال يحلم، وسيموت وهو يحلم، وسنموت كلنا ونحن نحلم، ولا شىء يُطال.
وزفر بعمق، وحمل الفلوت فى كفه، ونهض واقفا، وهو يقول:
الحقيقة الوحيدة هى الله. قلت له ذلك، ولكنه لا يريد أن يفهم. لو فهم ما فهمته لكان قادرا على تنفيذ كل حلم، فى عالم آخر.
قلت له بحيرة:
لا أفهم.
قال لى:
غدا، تعال إلى فى البيت، وسوف تفهم ما اكتشفته. فالكل باطل الأباطيل، الكل باطل عدا وجهه.
سألت نفسى عندئذ: لماذا يتغير الناس بين يوم وليلة، وأنت يا سليمان بين عام وعام لا تتغير ؟ .
وقلت لصديقى عازف الفلوت:
أريد أن أرى أنور.
فضحك ضحكته الدائمة التى يصدرها دائما، ساخرة من سقف حلقه، وقال:
ستجده جالسا فى عش، طوال الليل والنهار، فى الحديقة، أمام المركز، له على هذه الحال ستة أشهر، ولم يمس الإيمان قلبه.
(3)
الشمس كانت ضحى. والنهار كان رطبا. ومستطيلات من الحشائش المصفرة تمتد أمام المركز. وناس يدخلون وآخرون يخرجون. والجندى واقف فى وضع اعتدال أمام المركز. وقد ارتكز كعب بندقيته على الأرض بجانبه. وأمام المركز كانت حديقة المدينة الوحيدة، تتوسط الساحة بين محطة قطار الدلتا والمركز، يحوطها سور أخضر من الشجيرات، وبابها المتحرك، ذو الألواح المتباعدة، مفتوحا على مصراعيه، يعلو فضاءه العلوى قوس أخضر من الأغصان، تتناثر فيه زهور بنفسجية اللون. وعبرت باب الحديقة.
كان البستانى يروى بخرطومه مساحة حشائش بالحديقة، وقد دس إصبعه فى فوهة الخرطوم، فراح الماء يندفع فى رشَاش مخروطى من الرذاذ، يتحرك يمنة ويسرة. جلت بعينى فى أرجاء الحديقة، خمائل، وأحواض زهور شبه ذابلة من حر الضحى، والشمس لم تصر بعد فوق الرءوس. كان كل شىء بالحديقة يحجب كل شىء . سألت البستانى عن العش الذى به أنور. أشار لى بخرطومه إلى آخر الحديقة، فاتجهت نحو العش فى طرق ترابية مبتلة. رأيت العش.
عش صغير واطئ، أقيم من الأغصان الجافة. وأوراق مصفرة جافة تغطى سقفه. بداخله ظلمة واهنة الضوء، كضوء ما بعد الغروب. رأيته جالسا شاردا لا يرى أحدا. لم تقع عيناه على، فقلت منبها هامسا:
أنور.
وقع نظره علي. ابتسم ابتسامة واهنة، وراء لحية كثة تغطى صفحتى وجهه، وذقنه، وعنقه، ووجنتيه، وفوديه، حتى حواجبه صارت كثة، فوق أهداب تساقطت، وجفون مصفرة محمرة، وتحت عينيه نفاختان مسودتان. صدره عار كث الشعر وراء ثوبه فى فتحة صدره. ثوبه تهرأ، واسود بياضه، لا يرى تحته أى نسج آخر. بدا لى مرعب النظر. وبان ترددى فى وقفتي. سمعت صوته يقول لى:
لا تخف.
أحنيت رأسى، ودخلت. وقال لى:
اجلس.
جلست. ونظرت حولي. بجانبه كسرتان من خبز جاف تحجر، فوق حجر قذر. قلة ماء مخضرة أسفل الحجر. نظر إلى مبتهجا. قال لى:
دلك على عازف الفلوت ؟
أومأت برأسي. سألته:
ماذا حدث ؟ لِم أنت هنا ؟ وأنت 00 أشار إلى لأسكت. ساد الصمت بيننا، وعاد إلى شروده برهة، ثم قال لى: أنا هنا أمارس النَّرْفانا، واليوجا، إلى أن أصل.
كدت أن أساله عن هذه النّرفانا، وتلك اليوجا، لكننى قلت له:
إلى ماذا تريد أن تصل ؟ فقال لى: إلى صفاء الروح، وتجرد النفس، لأصل.
عدت أقول له ملحا:
إلى ماذا تصل يا أنور ؟ فقال لى: إلى أسرار هذا الوجود، ووحدة الكون.
قلت له:
وماذا بعد ؟ فقال لى: سأقول لكل شىء كن فيكون.
استغفرت فى نفسي. حدثت نفسى أنه قد جن، وأنه يريد أن يكون إلها، أن يكون هو الله نفسه. قلت له:
تعيد الخلق مرة أخرى ؟ فقال لى حالما:
بالأسرار الإلهية وحدها، سأجعل الأرض حدائق، وأملأ الدنيا عمائر، وأكسو الوجوه بالسعادة فلا يشقى أحد.
لم أستوعب ما هو فيه. قلت له بغباء:
وعملك ؟ فقال لى: كل عمل فى الدنيا يعمله البشر باطل، إلى جانب ما أسعى إليه.
فقلت له:
وإلى ذلك الحين. كيف ستعيش ؟ وماذا ستأكل ؟ فقال لى شاردا: قطعة فى اليوم من كسرة خبز، هى حسبى، وجرعة ماء تكفي.
والتفت إلى كسرتى خبزه، وقُلته، وقال لى، وهو ينظر فى عينى:
إلى أن أصل.
ثم قال فجأة، وقد تجهم وجهه:
انس كل ما كان. واذهب.
قلت له باحثا عن سر تحوله المجنون:
والأمر العظيم الذى اتفقنا عليه ؟ فقال لى: الأمر العظيم ما أنا فيه.
وأضاف آمرا:
انس كل ما كان. واذهب. انهض وعش حياة السوائم شأنك شأن غيرك، إلىأن أغير الدنيا.
خفت من العاقبة لو ظللت جالسا. وقفت، وغادرت باب العش. استدرت قائلا له بحنو:
ألا تريد شيئا آتى به إليك ؟ فقال لى: كل ما أريد عندي. اذهب.
لم أذهب بعد. قلت له:
أتسمح لى بزيارتك، بالتردد عليك ؟ فقال لى: لا. اذهب. أنا فى حالى ألف شخص وشخص. اذهب.
انصرفت أسْيان وآسفا. قلت للبستانى حين مررت به:
خد بالك منه.
فقال لى:
مسكين. الله وحده يرعاه، ويتغمره برحمته.
لم يطب لى أن أغادر الحديقة. جلست على مقعد خشبى، ناظرا إلى عش أنور من بعيد، حتى توقفت الشمس بوهجها فوق رأسى، وتلاشت الظلال من حولي. شعرت بتوقف الزمن داخلي. نهضت، وغادرت الحديقة. ودرت حولها، حتى بلغت محطة السكة الحديد الحكومية الكبرى، وراء الحديقة، ومحطة الدلتا. جلست تحت شجرة على رصيف المحطة المعبّد. شجرة دقيقة الأغصان، صغيرة الأوراق، منمنمة الزهور. تبدو السماء وراءها، عبر الأوراق، مثل لوحة رمادية، طباشيرية، والوهج من حولى ساطع.
(4)
عدت إلى الحديقة بعد شهر مضى. لم أرَ العش، ولم أجد أنور. خيل إلى أنه قد رجع إلى رشده البشرى، وعاد إلى بيته. رأيت البستانى جالسا يأكل خبزا، وجبنا وأعواد جرجير أخضر، وبصلة حطمتها قبضته. قلت له:
أين العش ؟ وأين أنور ؟
فرفع عينيه إلى، وقال لى:
أنور. تغمده الله برحمته.
جلست بجانبه مفاجئا، فقال لى:
مُد يدك. وكل معي.
لم أمدد يدى، وقلت له غير مصدق:
مات ؟ فقال لى: نعم.
قلت له:
هنا، فى العش ؟ فقال لى: ذهب كعادته كل صباح، قبل شروق الشمس، ومشى كعادته شاردا، بين قضبان القطار، وكفاه متعانقتان وراء ظهره. كان يسير مطرقا. فى هذه المرة لم يسمع صوت القطار القادم. فى هذه المرة أكله القطار. وجمعنا أشلاءه فى قفّة. انهرت جالسا بجانب البستاني. أفكر فى أمر صديق ضاع.