بعد قراءتي لرواية "أصوات" للأديب الكبير سليمان فياض في طبعتها الأولى عام 1972، أسمع صوتًا داخلي يطلب مني قراءتها من جديد، فقرأتها أكثرمن مرة، فهي تطرح الاشكالية الأبدية التي شغلت عقل الفلاسفة منذ آلاف السنين عن اختلاف الثقافات بين الشعوب، وهل يمكن أنْ يسود الحب والاحترام بين شعوب تختلف أنساق قيمها وموروثها وتقاليدها؟ بلغة أدبية جمعت بين بساطة السرد وعمق الأفكار أدار المبدع الأحداث وأظهر أعماق الشخصيات.
يعود حامد البحيري إلى قريته المصرية بعد غياب 30 سنة في باريس مع زوجته الفرنسية سيمون. وبينما سيمون تمارس حياتها الطبيعية وفق تقاليد شعبها، نجد الفلاحات المصريات من أسرة حامد يحاولن تقليدها حتى في طريقة تناول الطعام والمحاولات البائسة للأكل بالشوكة والسكين.
وهو الأمر الذي تكرر مع أعيان القرية رغم عدم وجود شوكة واحدة في القرية فلجأوا إلى محل (الفراشة) ليحل لهم هذه المشكلة. وهنا يضع المبدع يده على أحد عيوب الشخصية القومية، عندما تتنازل عن خصائصها من أجل إرضاء الضيف الأجنبي.
واذا كان الحدث الرئيسي (وليس الرئيس كما يزعم البعض) هو اغتصاب واغتيال سيمون بعد عملية ختانها بواسطة بعض فلاحات القرية، فإن المبدع كان موفقًا عندما مهّد لهذا الاغتيال من خلال النظرة الأحادية التي سيطرت على الفلاحات، حيث حاكمن سيمون بتقاليد القرية المصرية، فهن يندهشن (بغضب واستنكار) لأنّ سيمون تخرج من الدار كلما أرادت، وتجلس على المقهى مثل الرجال وتشرب الخمرة (كانت تشرب البيرة) وترتدي الملابس التي تكشف ذراعيها وساقيها. كان الانتقام مغلفًا بمظهر أداء الواجب. اقتحمن غرفتها (أي اقتحمن خصوصيتها) لازالة شعر العانة والتأكد من أنها مختنة من عدمه. انتهى المشهد المأساوي بموت سيمون. والمأمور الذي طلب من طبيب الوحدة الصحية أنْ يذكر في تقريره سببًا للوفاة على غير الحقيقة، سأل نفسه «ما الذي يجعلنا نحقد على كل ماهو جميل؟» فالمبدع هنا -من خلال شخصية المأمور- يصيغ التناقض الحضاري في ذروة المأساة: إذْ أنّ المأمور -رمزالسلطة- الذي يُصر على دفن الحقيقة مع جثة سيمون، في محاولة بائسة لتجميل الواقع، هو ذاته الذي يُدرك أنّ رفض الاختلاف يُؤدي إلى الحقد على كل ماهو جميل. وتكون قمة الإبداع عندما سأل المأمور الطبيب عن سبب الموت الحقيقي، فكانت إجابة الطبيب بسؤال «موتنا أم موتها؟» بهذا التساؤل في آخر سطر من الرواية، صاغ المبدع -بلغة الفن- فلسفته في الحياة: إنّ الشعوب الرافضة للاختلاف الثقافي شعوب مدفونة في قبر الأحادية التي تنتج كل أشكال التعصب، الذي ينتج المبرر للإعتداء على الآخر المختلف. ومن هنا كانت دلالة عنوان الرواية (أصوات) فهي ليست أصوات الشخصيات التي جعلها المبدع تحكي الأحداث، بقدرما هي تعدد الرؤى في إطار الحدث الواحد.
عندما يتحاور الإنسان مع نفسه
بعد عشر سنوات من صدور"أصوات" كتب سليمان فياض روايته القصيرة "القرين" التي يعالج فيها (قيمة) التعدد من منظور مختلف، منظور تحاور الذات الإنسانية مع نفسها، ويكون المدخل لهذا الحوار فكرة وجود (قرين) لكل إنسان، وهي الفكرة التي تناولها الأدب والأساطير في الحضارة المصرية. وكتب المؤلف على لسان الراوي أنّ قرينه «كان أغرب شخص التقيتُ به في حياتي. واكتشفتُ وجوده هذا الصباح فقط. على الأقل بهذه الصورة. أكثر من عرفتُ خفاءً وتخفيًا. وجودًا وعدمًا. ولأنّ أجدادي القدماء الذين حدّثتني عنهم أحجارهم عرفوه وخافوه وتودّدوا إليه بالصورة والرموز، والنقوش والتماثيل، والأدعية والمواكب والأحجبة والتعاويذ، والأطعمة في المقابر في انتظار عودته وحلوله بعد الموت» وفي موضع آخر يتكلم عن الـ(كا) أو القرين في الميثولوجيا التي أبدعها أجدادنا المصريون القدماء (ص48-66 من طبعة هيئة الكتاب المصرية عام 82).
تطرح الرواية (من خلال فكرة القرين) الأسئلة التي شغلت عقول المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس حول (ماهية) الإنسان: هل الإنسان ذات واحدة أم أكثر من ذات؟ هل الـ(أنا) في اليقظة هي ذاتها أثناء النوم؟ هل (غرائبية) الأحلام هي التعبير الصحي عن (غرائبية) الواقع المقموع بفضل الـ(أنا) في يقظتها؟ هل يصح القول -علميًا- أنّ هذا الإنسان نموذج للخير المطلق، وذاك الإنسان نموذج للشر المطلق؟ أم أنّ الخير والشر متداخلان ومتصارعان داخل كل إنسان؟
بلغة الفن ترجم الأديب الكبير سليمان فياض هذه الأسئلة ونقلها إلى عالم الأدب الرفيع. ولأنّ الإنسان المدرك أنه (متعدد) وأنه أكثر من (ذات) هو الإنسان الواعي بأهمية المقولة الفلسفية (اعرف نفسك) لذلك كان المؤلف موفقًا عندما أشار في الفصل الثاني إلى أنّ بطله عندما نظر في المرآة تذكر معبد (دلفي) في اليونان القديمة المنقوش على جدرانه العبارة التي قالها الفيلسوف سقراط (اعرف نفسك) وهي الحكمة التي نقشها أجدادنا المصريون القدماء على جـدران معابدهم. وفي شرحه لهذا المبدأ كتب عالم المصريات جورج جيمس ((أنّ معرفة النفس أساس المعرفة الحقة. وقد اشترطت نظم الأسرار المصرية كخطوة أولى التحكم في الانفعالات، لأنّ هذا يتيح مجالا لهيمنة القوى غير المحدودة، ومن ثم فإنّ الخطوة التالية مطالبة المريد المبتدىء بالبحث داخل ذاته عن القوى التي كانت مستحوذة عليه. وقد اعتاد المصريون القدماء أنْ يكتبوا على جدران معابدهم عبارة أيها الإنسان إعرف نفسك)) ويؤكد ذلك أنّ اليونانيين القدماء ((كانوا ينظرون إلى معبد (دلفي) باعتباره مؤسسة أجنبية وعمدوا للسبب نفسه إلى تدميره حرقًا. كما أنّ معبد دلفي كان شعبة تتبع نظام الأسرار المصري وأقيمت في اليونان)) (أنظر كتاب التراث المسروق، الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة، ترجمة شوقي جلال، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، عام 96. ط2 الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2008، ص 126-202).
الراوي في الفصل الثاني بعد أنّ تذكر الحكمة الفلسفية (اعرف نفسك) قال لنفسه «رحتُ أتعرف على ذلك الآخر. الواقف بمقابلي في المرآة. صورة مبهمة تحمل أنفًا وفمًا. وعينين وشفتين. وتتدلى من كتفيها ذراعان. ومن حوضها ساقان. يملكها أيضًا القرد في الغابة، والنسناس في القفص، والغوريلا في جبلاية القرود. قلتُ لنفسي: ذلك هو الآخر: حيوان. لسبب ما ارتدى بيجامة وغادر لتوه سريرًا ينام عليه. وسوف يذهب ليتبول كمخلوق مهذب، في مكان خاص لا تراه فيه أية عين» (ص13) ولأنّ الراوي يُدرك أهمية التعدد، فهو ينصت إلى قرينه –أو هو يُنطق قرينه- بما يحاول كثيرون تجاهله حيث قال له «إنني أعرف ما تفكر فيه. وأوحى إليك بما تفكر فيه. استخدمك لأحيا فيك» (ص16) والرواي نتيجة الصراع الذي يمور داخله بين نوازع الخير والشر، يحاول التنصل من قرينه فقال أكدتُ لنفسي أنّ ذلك الشعر له هو وليس لي، «لذلك الحيوان القرد الذي لم يخرج من غابته بعد. والذي حملناه معنا من الغابة إلى المزرعة. وروّضناه ليكف عن الصيد. وارتداء جلود الحيوانات وانتعال جلود الأفاعي» وأكثرمن ذلك فإنه يتهم (القرين) بارتكاب كل الجرائم الوحشية فيقول عنه «أعددنا له آلاف الأقنعة ليظل صامتًا، متمدنًا ومؤدبًا، لكنه مازال يذبح الحيوان، ويُشعل الحرائق، ويسيل الدم أنهارًا في الحروب» (ص20-21) وهكذا، في لحظة مكاشفة مع الذات، فإنّ المبدع يدخل في أعماق الإنسان الذي يُبرر لنفسه مآسي البشرية، وأنّ سبب هذه المآسي ذلك القرين الشرير، وأنّ الـ(أنا) التي ترتكب هذه الجرائم بريئة من هذه الأفعال. ولكن القرين يفحمه بالقول إنه لايقل وحشية عنه وأنّ العضو الذي يتبول به هونفسه العضو الذي يضاجع به زوجته. يندهش الراوي من هذه الحقيقة فيقول له القرين «إنكم تعيشون شيئًا وتمارسونه ولكنكم اذا ما جلستم إلى بعضكم تتنكرون له» ثم يبدأ السباب المتبادل بين الراوي وقرينه الذي ابتسم وقال «إننا نقترب من بعضنا الآن. لم؟ إنك بدأت تستخدم لغتي.. إنني أنت. ألم تفكر في ذلك حقًا. إسمع إنك غبي أيضًا» (ص24).
وفي الفصل السادس صورة حية وبديعة، لا أغالي اذا قلتُ إنها ترجمة- بلغة الفن- لسؤال قلّما ينشغل به البشر: هل يكون عمل الخير من أجل الخير(تطبيقًا للمثل المصري "اعمل الخير وارميه في البحر")؟ أم أنه أحيانًا يكون مجرد أداء واجب وفي أكثر الأحيان مقابل منفعة في الدنيا أو ثواب في الآخرة؟ فالراوي في هذا الفصل ساعد رجلا كفيفًا في صعود الأتوبيس في مدينة لا مكان فيها للشفقة. ولكن قرينه يُؤنبه ويُعاتبه لأنه ساعد الرجل الكفيف لمجرد أداء الواجب وبغير حب. ولكن الراوي يُبرر موقفه بأنّ ((الحر شديد. والشمس محرقة. وموعد الأتوبيس التالي بعد نصف ساعة. وكان الأتوبيس قد مشى بالفعل. ووقفتُ من جديد تحت الشمس)) لذلك شعر الراوي أنّ قرينه ((راح من مكانه الظلي تحت قدمي، يُعزيني بفعل الخير، بكوني صرتُ إنسانًا للحظة. لكنه لم يلبث أنْ تململ وبدّل ساقي ظله الملقى على الأرض)) (ص36-39).
وفي الفصل السابع يتعاظم الجدل بين الراوي وقرينه حول من منهما الممثل للخير ومن الممثل للشر. يحسم القرين الأمر قائلا «أنا أعبر عما أنت فيه وعما تخفيه أنت وأظهره لك في نومك. إنك تنسي أنني أنقذتك من مآزق. جعلتك في الحلم شجاعًا. وهدمتُ لك الواقع بالحلم، ثم هدمتُ لك الحلم بالواقع» ولكن الراوي لا يقتنع بحجج قرينه ويتهمه بأنه هوالذي دفعه لارتكاب بعض الآثام، فالقرين هو الذي حرّضه على خنق القطط عندما كان طفلا. وكسر بيض الدجاج قبل الفقس فتموت الأجنة الخ الخ (ص40-43) وفي الفصل التاسع يقول القرين لصاحبه أنه يأتي له بأصدقائه الحقيقيين وهو نائم، ولكن الراوي يتشكك في من هم الأصدقاء ومن هم الأعداء، فتكون إجابة القرين صادمة إذْ قال «هل أقول لك من أصدقاؤك الذين هم أعداؤك أو العكس؟» وعندما طلب منه الرواي أنْ يسكت قال القرين «تحبهم وتكرههم. ترغبهم وتخافهم» (ص51-54) وفي الفصل العاشر تكون قمة البلاغة الأدبية عندما يستيقظ الإنسان من النوم ليجد نفسه مشطورًا نصفين. وأنّ قمة معاناة الروح عندما يشعر الإنسان بعدم الرضا عن أفعاله، وكأن شخصًا آخر يدفعه إلى مثل هذه الأفعال. لدرجة أنّ الراوي يعتقد أنّ قرينه هو الذي يُملي عليه ما يكتب، وأنه سيصير معه مثل الكفيف الذي يقوده كما يحب (ص55-57) وهذا الفصل القصير الممتع ذكّرني برواية (الفسكونت المشطور) للروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، مع مراعاة الإيجاز في فصل قصير والتفاصيل التي تشمل كل فصول الرواية. وفي الفصل رقم (13) يعالج سليمان فياض موضوع الانشطار من خلال تذكر الراوي لما حدث له أثناء طفولته مع الخادمة التي أجلسته على فخذيها العاريتين وعرّت له كل ثيابه. وعندما كبر كان السؤال الذي يشغله: هل وعي ما حدث يومها؟ وما دور القرين في ذلك؟ هل دخل حياته في ذلك اليوم؟ «كشف النقاب عن وجهه، وشطرني شطرين، فيهما الظاهر وفيهما الخفي» (ص73-75).
ورغم أنّ الراوي في معظم فصول الرواية يتهم قرينه بأنه السبب في ارتكاب بعض الآثام، فإنه يعترف في الفصل رقم (16) بفضل القرين في حب الموسيقا الكلاسيكية، لدرجة أنه عندما استيقظ من النوم تذكر النغم كله «ومن عجب أنني حين صحوتُ من نومي في تلك الليلة وجدتني أحب بحنان جارف وحزن شديد فتاة اسمها (بولا) وخيل إلىّ أنها كانت بطلة القصة.
ولأنّ الراوي عند سليمان فياض إنسان مهموم بكشف التناقض داخل ذاته، بل إنّ هذا الراوي هو سليمان فياض في الفصل رقم (21) الذي يتذكر شقاوته عندما كان طفلا وينتحل شخصية (العفريت) ليخيف أهل القرية، لذلك فإنّ الراوي في لحظة مكاشفة مع الذات يقول لنفسه «ذلك القرين الذي هو غريب عني أكثرما تكون الغربة. قريب مني أكثرما يكون القرب. والذي يتضح لي وأنا أكتب الآن، إنه شيطان الجزيرة الذي يركب فوق كتفي» (ص89) وفي موضع آخر قال ((ماذا يكون الجنون سوى أنْ نظن الحلم حقيقة، والحقيقة حلمًا، ويختلط علينا الأمر)) (ص97) وتكون خاتمة هذه الدراما الإنسانية في الفصل الأخير حيث يقول «إنّ قريني سيصيبني بالجنون، إنْ لم أكن قد جننتُ فعلا. أرى أصدقائي وحيدين ومغتربين مثلي. تزحف عليهم الأشياء. تحاصرهم بأكف غير منظورة. مليئة بالمغريات والمحاذير. وهم يتكلمون بلا صوت.. فكرتُ أنه حين يرقص زوربا على جثمان ولده الميت. وحين يكون الأصدقاء على حافة الجنون. يتحد القرين بقرينه. ولهذا السبب لم أر قريني في المرآة. وربما رأيته الآن لما وجدته آخر غريبًا. يحمل ألف اسم من الأسماء الحسنى. وامتلأ فمي بمرارة لم تفارقني. ها هو يوم آخر علىّ أنْ أحمله كالصليب والحجر ثم أدعه يسقط وراء الأفق. وأشهد قريني يرقص عند الحافة فاتحًا ذراعيه، يدبدب بساقيه عاديًا عاويًا كالذئب الجائع» وتكون قمة البلاغة إذْ يراه ((كأنه يولد.. كأنه يحتضر)) (ص112-114).
الواقعية السحرية المصرية
انبهر كثيرون بالواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية (ومعهم الحق في ذلك) ولكن أغلبهم تجاهل أنّ الموروث الشعبي المصري زاخر بكل مفردات تلك الواقعية السحرية، وأنّ بعض الكتاب المصريين عبّروا عنها في إبداعهم مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس وجميل عطية ابراهيم. وكان سليمان فياض في رواية "القرين" واعيًا بهذا الموروث الشعبي، ففي الفصل الرابع معالجة أدبية للموروث الشعبي القائل أنّ لكل إنسان قرينًا يعيش تحت الأرض، وقالت الجدة لحفيدها «أختك التي تحت الأرض» فيسألها «ولم لاتكون أخًا، ولدًا مثلي لابنتًا» وفي الفصل رقم (22) معالجة أدبية لموروث شعبي آخر وهو ظاهرة خروج الميت من قبره وعليه كفنه والتوجه إلى بيته ومضاجعة زوجته كما لم يضاجعها من قبل. وهنا اختلف أهل القرية، البعض يرى أنّ الذي خرج من القبر هو قرين الميت، والبعض قال إنه الميت نفسه ولكن القرين تلبسه. وأنه ينام النهار ثم ينطلق في جوف الليل كحيوان فقد وليفه. وقال البعض إنه عاد إلى القبر. وقال البعض الآخر إنه انطلق في البراري باحثًا عن وليفته وأنه مايزال يبحث عن كفنه وعن قبره. كما تناول نفس الموضوع في قصة (النداهة) وفي قصة (عطشان يا صبايا) في المجموعة القصصية الصادرة بالاسم الأخير(مختارات فصول، هيئة الكتاب المصرية، 1985).
ظلمات الأحادية وأنوار التعددية
في روايته القصيرة "لا أحد" فإنّ سليمان فياض يقتحم (التابو) الذي يتجاهله كثيرون: الفرق بين المحتمع النهري الزراعي والمجتمع الصحراوي البدوي. الرواي مدرس مصري يعمل في المملكة السعودية. يستيقظ من النوم في أول أيام عيد الفطر. يخرج من البيت ليشتري الطعام. لا أحد. ينتقل من شارع إلى شارع. لا أحد. يدق على أبواب بيوت الأصدقاء وزملاء العمل. لا أحد. أين ذهب الناس؟ هل هجروا القرية؟ هل انقضّ عليهم وباء سخطهم حجارة أو حوّلهم إلى رمال؟ في حيرته يلجأ الرواي إلى التأمل، يربط بين الاختفاء المفاجىء وحقيقة أنّ أهل البلد الذي يعمل فيه «امتلأت قلوبهم حقدًا مكبوتًا.. الحياة قبلية والمظهر عصري» (ص119 من طبعة هيئة الكتاب المصرية عام 82) ذكّرني هذا التشبيه «الحياة قبلية والمظهر عصري» بالتشبيه الذي قاله أحد المحللين السياسيين بعد غزو العراق للكويت حيث قال عن الدول العربية «قبائل لها أعلام» (نقلا عن د. على مبروك، الحداثة بين الباشا والجنرال، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسانـ عام 2003، ص 205) ويستمر الراوي في تأملاته وفي ذكرياته عن علاقاته وتجاربه مع السعوديين، فيراهم «الأحياء الموتى. أهل الكهف هم. يسبقهم الزمان ويبقون في أماكنهم. في جلودهم» ولكي يُسلي نفسه تذكر نكته شائعة أبدعها شعب متحضر تقول أنّ آدم اشتاق لرؤية أولاده. استجاب الرب الرحيم لطلبه. أنزله من السماء إلى الأرض. في أمريكا قالوا له: نحن أبناؤك. قال لهم لا. لستم أبنائي. في السويد. في فرنسا. في مصر. كانت الإجابة واحدة: لستم أبنائي. في الجزيرة العربية قال: هؤلاء أبنائي. أنزلوني هنا. سألوه كيف عرفتهم؟ قال: كما تركتهم وجدتهم (ص120-121) حتى المواطن الفلسطيني الذي يعمل معه في السعودية وشى به لأنه لايصوم رمضان رغم أنه مدرس دين ولغة، ولكن كراهية الراوي المصري للفلسطيني تفاقمت عندما علم أنّ هذا المواطن الفلسطيني كان يبيع البيض للإسرائيليين أثناء عدوان السويس (123) وتزداد تعاسته عندما يوقن أنّ هذا البلد لايعرف معنى (الدولة) أومعنى (الوطن) أومعنى (الشعب) إذْ عندما ألقى خطبة بمناسبة قدوم شهر رمضان بدأها قائلا ((باسم الله. باسم الشعب)) فقاطعه قاضي المنطقة ((باسم الله فقط.. هذا شرك)) وكان تعليق الراوي: إنني متواجد في مكان بلا زمان.. وأنّ أهل الشريعة يعلمون عن الآخرة أكثرمما يعلمون عن الدنيا.. وأنهم مايزالون يتساءلون عن الحكم الشرعي فيمن حمل قربة فساء على ظهره، هل تجوز صلاته؟)) (ص125-128) أما أقسى ما تعرض له من مواقف، فهو عندما اقتحم بيته- دون استئذان- رجل سعودي ظلّ يناديه بـ((يا ولد.. يا ولد)) ويجلس دون تحية. ويسأله عن راتبه. ثم يقول ((تأتون إلى هنا وتأخذون نقودنا)) فردّ عليه الراوي: إنني أعلم أبناءكم)) فتكون إجابة الرجل السعودي: تعلمونهم الكفر وعلوم الدنيا. فقال المصري: الرسول كان معلمًا. فقال السعودي: للآخرة يا ولد. ثم أضاف: لولا أنكم لا تجدون في بلدكم طعامًا لما جئتم هنا. وذهب كما جاء دون تحية. عند هذه اللحظة يتأكد المصري من أكذوبة القومية العربية والوحدة العربية فيقول ((على غربتي لا أنال سوى نصف ما يناله الموظف مثلي من مواطنيه. فأنا أجنبي. وشرعتهم أنه لاينبغي لأجنبي أنْ يأخذ أكثرمن نصف ما يأخذه الوطني)) ثم يأخذه التأمل إلى الفرق بين مجتمعه النهري الزراعي الذي عشق واحترم قيمة (العمل) وقدّسها في أمثاله الشعبية ((العمل عبادة)) وبين المجتمع السعودي، فأهل هذه البلاد يأنفون، كأجدادهم الجاهليين الأقدمين، من العمل اليدوي، ومن الحرف، مهما كان فقرهم وحاجتهم (ص128-136).
كاد أنْ يصل إلى درجة الجنون في هذا الخواء. في هذه الصحراء الخالية من البشر. في السر الغامض وراء اختفائهم. لذلك بدأ يُراجع نفسه : لماذا جاء إلى هذا البلد أحادي الفكر والوجدان؟ «أحاول أنْ أبدأ من جديد. أراجع نفسي في كل ما حدث. إنني لم أحقق شيئًا. سوى بضع عشرات نقدية، دفعتُ ثمنها جوعًا وكيلوجرامات من لحمي وشحمي. وخواء روح. إنني أزداد قهرًا وتخلفًا هنا. أنسحق كالوجوه الضامرة هنا. والعيون المنطفئة هنا» (ص140).
وإذْ يتذكرأنّ اليوم هوأول أيام عيد الفطر، وخلو الشوارع من الأولاد، يذهب عقله ووجدانه وروحه إلى قرى ومدن وطنه مصر«في بلادي، في يوم العيد، يملأ الناس الشوارع بثيابهم الجديدة. والأولاد يلعبون بالبالونات والمراجيح. وتخرج البنات الفقيرات في ثياب ملونة بحثًا عن البهجة والمسرة. أم ترى العيد هنا- في هذه القرية (السعودية) أيام حداد وبكاء» (ص142).
ظلّ ينتقل من شارع إلى شارع علّه يجد إنسانًا يأتنس إليه أوشجرة يستظل بأوراقها. لا أحد. مرّ بأرض مقبرة. تذكرأنه هنا -في هذا المكان- وسط حفرة، وجدوا زوجة طبيب من وطنه مصر، ملقاة كميتة، في إغماءة طويلة، والدم ينزف من بين فخذيها لم يزل. في الليل دعا الطبيب بعضهم لزيارة مريض. خرج من هنا واقتحم البيت آخرون وحملوها معهم إلى الصحراء. عانقوها مرات. واحدًا بعد الآخر. ترك الآخرون الطبيب حبيسًا في بيت مهجور. ينتظر مريضه. عثروا عليه يئن وسط قيوده. بحثوا عن الزوجة نهارًا بأكمله. حمل الطبيب زوجته وحقيبته وغادر القرية والبلاد كلها إلى غير عودة (ص148-149) بعد أنْ تذكر الراوي المصري ما حدث للزوجة المصرية من إغتصاب بشع مارسه أكثر من رجل سعودي في وقت واحد، كان من الطبيعي أنْ يقول المصري لنفسه «الليل يحمل معه المخاوف والبدو والعقارب».
في هذا اليوم العجيب تتراكم عليه الذكريات المرة، فيتذكر أنه كان في الفصل يشرح آيات من القرآن العظيم عن الزنا، فإذا بتلميذين سعوديين يجلسان تحت المقاعد عاريين من أسفل ويد كل منهما بين ساقي الآخر. طلب منهما الوقوف فرفضا. ضحك كل التلاميذ السعوديين. كانوا يعرفون ما يحدث. طلب خروجهما من الفصل فرفضا. كتب مذكرة إلى مدير المدرسة فقال له «لاتؤذ نفسك. يعيشون في كبت. والزوجات غاليات المهور» فكان تعقيبه بعد هذا التهديد المغلف بالمبررات «أنا الآن عار. في قلب تجربة فريدة وقذرة» خاصة بعد أنْ تذكر حادثة الشيخ الذي ضبطوه متلبسًا باللواط في ساحة المسجد، قرب المحراب وهو يعتلي أحد الأطفال، ومع ذلك ظلّ يصلي بالناس، وفي الجمعة التالية كان يخطب أيضًا (ص151-152) واذا كانت الخمور ممنوعة رسميًا فإنّ وجهاء السعوديين لا يعجزون عن تدبير الحيلة. فزجاجات الخمورفي هذه القرية النجدية تأتي في صناديق. الصناديق محكمة الاغلاق بالمسامير وشرائط الصفيح. وعلى الصناديق مكتوب في ناحية (قرآن كريم) وعلى الناحية الأخرى اسم الأمير(118) وفي أثناء تجوله مرّ بالسوق التي يباع فيها كل شىء من الملابس والأحذية إلى الغنم والجمال وفيها تتم الصفقات الخفية عن الجواري والعبيد. وفي حوار مع رجل سعودي قال له الأخير «كل شيء يأتينا في علب. حتى المدرسين نستوردهم معلبين» وسأل السعودي المصري ((هل تصدق حقًا أنّ الأرض كروية. والصواريخ تخترق الفضاء إلى القمر؟)) وعندما أجاب المصري ((أجل)) قال السعودي «خرافة. تصدقون كلام الدعاية والتهريج» (ص158-159).
قرّر الراوي العودة إلى وطنه مصر، وقرّر أنْ يحتفل بقراره بطريقته الخاصة. خلع ملابسه وسار في شوارع القرية عاريًا كما ولدته أمه. وفلسف موقفه قائلا لنفسه «حانت لحظة الوداع للديار. لا أحد. سأودع عقائدي وأفكاري. سأبدأ من جديد عاريًا. هكذا بدأ آدم. وهكذا بدأتْ حواء. وكل ليلية يُكرر آدم وحواء نفس البداية، لكنهما مع النهار يُخفيا عريهما» دخل بيته يجمع أشياءه استعدادًا للرحيل. سمع صوت امرأة ينادي ((أستاذ)) تكرر النداء أكثرمن مرة. فتح لها الباب. دخلت تحمل صينية طعام تفوح منه روائح فرن شهية. قالت وهي تدخل ((رأيتك وحدك. فجئت لأسليك)) وأضافت «ظللتُ أتبعك طوال النهار. ورأيتك وأنت.» أحمرّ وجهه خجلا ثم سألها: أين ذهب الناس؟ قالت: يقضون أيام العيد في جبيلة. هكذا انكشف سر غياب أهل القرية. يقضون أيام العيد في الصحراء ومتعتهم الوحيدة تناول الطعام. كان هذا هو العيد الأول للرواي في جزيرة العرب. سألها لماذا لم تذهب معهم. قالت أنا وحيدة وحكت له قصة حياتها. لم يهتم بتصديقها أو تكذيبها. قال لنفسه هي وحيدة وظامئة مثلي. اقترب منها واقتربت منه. سألها عن اسمها قالت: حواء وقبل أنْ يقول اسمه قالت ضاحكة: وأنت؟ هه.. آدم. ويختتم المبدع الرواية بهذا المشهد على لسان بطله «وسددنا ثقوب النافذة والباب، فليس هناك أحد. لا أحد» عنوان الرواية "لا أحد" دال على كل شىء. ويمكن تفكيكه إلى أكثر من مستوى. المستوى المادي من خلال الحدث (اختفاء أهل القرية) وشعور الراوي بالوحدة القاتلة والحيرة لمعرفة أسباب الاختفاء. وكذلك المستوى الأعمق، أي المستوى الحضاري. إذْ أنّ الملاحظات التي رصدها الراوي عن أهل هذه الجزيرة العربية تؤكد أنّ وجودهم مثل عدم وجودهم، ومن هنا كان العنوان الدال "لا أحد" فعندما تسود الأحادية، ويتم إشهار سيف الاقصاء لكل مختلف، وعدم الاعتراف بالتنوع الثقافي واختلاف ثقافات الشعوب، يسود التعصب وتنتصر قيم البداوة والتخلف. وبينما تتقدم الشعوب المؤمنة بالتعددية، تتراجع الشعوب المتشبثة بالثبات. وكما صدق سليمان فياض في دفاعه عن قيم التعدد ضد الأحادية، صدقت المبدعة الكبيرة إيزابيل اللندي وهي تخاطب ابنتها (باولا) التي مكثت في غيبوبة الموت أكثر من مائة يوم إذْ قالت لها «الدماء التي تجري في عروقي هي دماء قشتالية/ باسكية. وربع فرنسية، مع جرعة من الدم الأراوكاني أو المابوتشي مثل جميع أبناء بلدي. وبالرغم من مجيئي إلى الدنيا في ليما إلاّ أنني تشيلية، أنحدر من "بتلة زهرة متطاولة من بحر ونبيذ وثلج" مثلما وصف بابلو نيرودا بلادي، ومن هناك تنحدرين أنت أيضًا يا باولا».
الوجه الآخر للمبدع الكبير سليمان فياض
طغت شهرة الإبداع الروائي والقصة القصيرة على الجانب الآخر من إبداع سليمان فياض، أي إبداعه في مجال الدراسات حول التاريخ العربي والإسلامي، إذْ له كتاب غاية في الأهمية بعنوان (الوجه الآخر للخلافة الإسلامية) صادر عن دار ميريت للنشر عام 99، أثبت فيه -من خلال المصادر الأصلية في كتب المؤرخين العرب أنفسهم- بشاعة الحكم العربي وفق منظومة الخلافة الإسلامية. وله كتاب غاية في الأهمية أيضًا عن سيرة حياة المفكر الكبير الفارسي ابن المقفع والذي تم اغتياله في خلافة الخليفة العباسي المنصور، حيث تم تقطيع أعضاء جسده عضوًا عضوًا ورميها في النار وهو حي ينظر إلى أعضائه بعينيه قبل فقئهما. والكتاب صادر عن هيئة الكتاب المصرية عام 85 ضمن سلسلة تاريخية مبسطة للناشئين. ولأنّ سليمان فياض -الإنسان والمبدع- مؤمن بالتعددية الثقافية لكل الشعوب، لذلك كان إبداعه في الرواية والقصة القصيرة والبحث التاريخي انتصارًا لهذه التعددية التي هي الوجه الحقيقي لمعنى التحضر.
(عن الحوار المتمدن)