في نهاية سنواته السبع التي قضاها في مدينة التيه كما يسميها ويكتبها الآن، ويسترجع ـــ عبر الحكاية وتأويلها ـــ أيامه فيها: مجاوراً في معهدها الديني ساكنا غرفها الفقيرة مخالطا طلابها الريفيين وباعة كتبها وعجائزها. في لحظات النهاية تلك، يعتلي الراوي سطح القطار عائداً إلي قريته وقد استشعر أنه لم يعد الصبي الذي اصطحبه أبوه منذ زمن امتد بعد ذلك علي مدار سبعة أعوام، وألقاه علي عتبات المكان وأدخله التجربة آخذا منه العهد علي أن يحقق الوعد المتوارث ويعود شيخا يحمل ختم الأزهر وسطوته الرمزية، هب الراوي واقفا فوق السطح المتحرك للقطار الريفي فارداً ذراعيه علي اتساعهما، وهبات الهواء تخفف وقدة الحر قليلا وتنشر غبارها القادم من أفق جيري.
انتابته رعدة انفعال عابر مستشعرا وجوده في لحظة حرية مفاجئة راقصا فوق السطح الخطر ودائرا في انتشاءات حسية غامضة، بغتة يلطشه سلك ممتد بين عمودين علي جانبي الطريق، سقط متدحرجا فوق سطح العربة يكاد أن يهوي من عليها، عاودته طاقته الجسدية وحسه العميق بالخطر، تلك التي تجاوزت به حواف الموت قبل ذلك في حالات مشابهة، يوم كاد يغرق في الترعة وهو في رحلة عودته ماشيا لنهارات متتابعة في وقدة الشمس إلي قريته وقد تفشي في مصر وباء الكوليرا، ويوم أحاطه لصوص المدينة الصغار في "تل بسطة" الأثرية، وهو فوق مقعد حجري يقرأ "آلام فارتر" وجردوه من ملابسه وأشيائه كلها، وحين هم بخلع قطعته الأخيرة منحنيا كانت هي اللحظة التي فر فيها جاريا وعاريا حتي مسكنه الفقير. عاودته طاقته الجسدية والذهنية تلك وهو علي شفا السقوط يكاد يهوي من علي سطح القطار، أمسك بدائرة التهوية البارزة متشبثا بها متدليا بين عربتين منحدرا إلي مقعده المتهالك، وحين تساءل جاره الريفي عن أثر الضربة المباغتة وعلاماتها في عنقه، طوي الراوي أيامه الممتدة عبر سنوات سبع تمثلها مثل سنوات يوسف عجافا وممتلئة بالتجربة والصور الحلمية ودفق الحياة الحي. يسترجع "سليمان فياض" في روايته أو سيرته الذاتية "أيام مجاور" حكايات الصبي الذي ألبسه أبوه ذات صباح صيفي سحيق العمة والكاكولة ورافقه بزاده القليل من الطعام والمعرفة وصدي غناء الصبية الساخر يتردد متجاوبا مع صفير القطار الذاهب إلي الزقازيق ومعهدها الديني، علي عتبات المدينة والتجربة توقف الأب عائدا إلي القرية تاركا الفتي في غرفة واطئة مزودا بوصاياه والمصروف الشهري، وحين استيقظ الفتي قرب الغروب في يومه الأول وأشعل فتيلة مصباحه الزجاجي واستغرق في استبدال الزجاجات التي انكسرت حلقاتها تباعا، كان عالم آخر يولد مكثفا، مليئا بالرغبات والمخاوف والتحولات ، شبيها بطقوس العبور بطابعها التلقيني في العشائر القديمة.
بشكل عام ، احتفي السرد الروائي ببناء الحكاية بحيث يمكن اعتبار النص حلقات متصلة من الحكايات قائمة ظاهريا علي التذكر واستدعاء الأسماء والأشخاص والأماكن والشواهد عبر مركزية الراوي ومنظوره التأويلي. بهذا المعني، فإن النص كما الحياة التي يستدعيها بنية مفتوحة لا انغلاق فيها أو ستر أو سر، الحكاية في الحياة يكتشفها عادة فضولي أو متلصص، ويتداولها في غرف الطلبة والمقاهي صانع النمائم وراويها، والحكاية في النص يسردها راو يستعيــــر - وظيفيا ـــ دور الفضولي والمتلصص وينسجها في مشاهد متصلة مبنية مثل المسرح علي التعاقب الزمني والاتصال البصري وتوليد الدلالة والأثر المرتبطين هنا بمنظور السارد الكلي لا بتعدد الرؤي واختلاف الشخصيات وتعددها.
سبعة أعوام قضاها الراوي في المعهد الديني لمدينة الزقازيق في أربعينيات القرن الماضي، وبعد ما يزيد قليلا عن ستة عقود يستحضرها ويكتبها في سبعة أجزاء أو فصول، الترقيم هنا وهمي أو ظاهري يشير فقط إلي تعاقب السنوات في دورات سبع، وربما يحيل إلي الدلالة السحرية التي يحملها الرقم سبعة (خلق العالم، أيام الأسبوع) وذلك لأن الحكايات متصلة لا يقطعها انتهاء عام أو انقضاء فصل دراسي، ومع اتصال الحكايات وتداخلها الحياتي وتعاقبها الزمني، يتكون السرد الروائي عبر وحدات متعاقبة ، كل وحدة تحتوي حكاياتها مفضية إلي وحدات زمنية أخري تشمل سنة دراسية وغرفة مختلفة ومشهدا مغايرا، ورغم التعدد الظاهري في الحكايات، ينتظم سياق كلي جامع لها، فالحكاية متعددة والتجربة متصلة والتأويل جملة أخيرة أو مغزي نهائي أو إشارة كلية يختتم بها الراوي سياق الحكايات ويربط اتصال الوقائع والأزمنة، والسرد ذ رغم اختلاف وظائفه وتعدد أشكاله ـــ دفقه لغوية وشعورية وزمنية لا فواصل فيها أو انقطاع.
أتوقف هنا أمام صورة الأب كما تكونها الحكاية وتصوغها ذاكرة مثقلة بالأسماء والوقائع والشواهد ، التجلي الأولي للأب كان هو استهلال الرواية وجملتها الافتتاحية الموحية "حين ساقني أبي إلي السفر إلي الزقازيق لأول مرة" ويباغتنا قليلا الفعل المستخدم "ساقني" الذي يشير إلي أب مهيمن كلي القدرة والإرادة يسوق صبيا مستلبا لا حرية له أو اختيار، وتتأكد صورة الأب المهيمن الذي يحدد مصير الابن بمشيئة منفردة ويصوغه في إطار الجماعة وإجماعها المتوارث وتراتبها الهرمي، وذلك عبر الأفعال الآمرة المتواترة (البس ـــ ضع) التي تحدد الزي والملبس (العمة والكاكولة) وكيفية صياغة اليوم وتفاصيله الجزئية (بكره الصبح تروح المعهد ـــ استلم الكتب ـــ وصلي) ومع المصروف الشهري التعليمات المتتابعة" أول كل شهر تدي صاحبة البيت ربع جنيه، مصروفك اليومي أربعة قروش، وخمسة قروش فنطزية، وعين فلوسك دايما في جيب الجلابية، واعرف طريق بيتك كويس..". وهكذا ذ ابتداء من تلك الصياغات الجزئية للملبس واليوم وحتي صياغة المصير الذي يجب أن يكون عليه الابن (الشيخ الأزهري) والشكل الذي يجب أن يتبدي عليه والقائم علي الامتثال والاندراج في إرث الجماعة وقانونها الناظم (الحقيقة في الإجماع والسعادة في الطاعة).
لا يقتصر السياق الأبوي علي تحديد المظهر الخارجي وصياغة اليوم وترتيب الأوقات والخطوات عبر أفعال لغوية آمرة متصلة بسلطة الأب الرمزية، وإنما يتعدي ذلك إلي أشكال أخري، خاصة في لحظات التمرد والاكتشافات والاستهواءات الشخصية، هنا يتراجع الفعل اللغوي الآمر وتتبدي الحكمة الأبوية التي تستهدف إبقاء الصبي في امتثالاته داخل الإرث الجماعي واشتراطاته، فحين اشتغل الراوي ذ في واحدة من تمرداته أو استهواءاته الصغيرة ذ صبيا ينقر الخشب في دكان نجار، هبط الأب وأشار إليه ، وثانية هي الطاعة والامتثال: الصبي الآن يتبع الأب مرتجفا ومتوقعا العقاب والألم، ولكنها الحكمة المتوارثة أو التي تبدو كذلك، يكسر الأب توقع ابنه وتصوره لعقاب حتمي نتيجة انصرافه عن مهمته الأصلية (الانتظام في الدرس والفرائض).
وهكذا بديلا عن العقاب ونقيضا للألم يكسر الأب التوقع ويدعو ابنه إلي وجبة طعام شهي ويسدد دينه الصغير ويحادثه بهدوء مخيف ويباركه ويعطيه مصروفه الشهري، وفقط في اللحظة الأخيرة للقائهما معا، وحين يهم القطار العائد بالتحرك، تعود اللغة الآمرة (افتح كتبك) ومعها تأنيب الحكمة (إذا عايز تشتغل نجار، أسيبك عنده ، أنت حر نفسك). اللقطة الثانية كانت حين تجاوز الصبي الحدود الفاصلة بين المباحات الصغيرة وبين ما يكاد أن يكون محرما، فقد أرسلت إدارة المعهد الديني في نهاية السنة الأولي خطابا للأب تخطره بحرمان المجاور الصغير من دخول الامتحان لتغيبه عن دروس المعهد وعدم انتظامه في حضورها. هنا تنجلي الوصاية والحماية، فلم تعد المسألة بالنسبة للأب تمردا متعابثا أو لهوا أو نزقا صبيانيا، وإنما أضحت خطرا وخروجا علي نسق انتظام المجاور في الإطار المتوارث. ولهذا اشترك الأب والجد معا في ضبط حركة الصبي وإعادتها إلي الصف والشارع العام والخطوات المنتظمة، سارع الأب مسافرا إلي الأصدقاء القدامي في المعهد الديني وأعد شهادة طبية مزيفة بتواطؤ ضمني معهم تفيد أن الطالب كان مريضا بحمي متقطعة، وهكذا وجد الغياب عن الدرس مبرره الموثق بالخاتم الرسمي، بينما أخذ الجد الصبي وتركه في محل حلاق ريفي باتفاق خفي مع صاحبه لا لكي يتعلم المهنة وإنما لكي
يعرف المصير المضاد ويدرك الهاوية متأرجحا علي حافتها، فبديل الدراسة والانتظام والحفظ هو الاشتغال صبيا مهانا، ونقيض الشيخ الأزهري هو التبدد في الدكاكين الريفية حلاقا أو نجارا.
لا يهم هنا لدي الأب والجد أن يحدث ذلك بشهادة مزورة أو كذبة مصطنعة، فالأساس هو تدريب الصبي علي الامتثال وتعويده علي الطاعة والانتظام، وطبيعي بالتالي ـــ بعد لحظة انخطاف عقلي وهياج حسي أفضت إلي تكسير أشياء الحلاق ـــ أن يعي الراوي الدرس ويقبل علي كتبه حافظا وشارحا ومستوعبا. وهكذا ما بين الوعد والوعيد يتجلي الأب عبر تتابع الحكايات والصور والسرد ناظما بيد مدربة تطوحات الوجود الانتقالي المتمرد ، ناقلا مواريث الجماعة وحافظا لغتها وعلاماتها، محددا الهيئة الخارجية والملبس واليوم والمصير، أو هكذا يريد.
انتقل الآن في سياق رصدي لتجليات صورة الأب إلي علامة نصية كبري صاغتها حكايات المجاور مكونة عالمها الريفي الضيق المحكوم بجبرية اعتقادات متوارثة، والمتعدد مع ذلك في دوائره المغلقة تلك والمنفتح علي احتمالات مصائر أخري وتمردات خطرة واحتدام أجسام تتلاقي علي حواف رغبات وتحولات.
العلامة النصية التي أشير إليها هي البيت الكبير الذي يمتلكه الجد في القرية الأم، تحت ضغط احتياجات دائمة وتطلعات جديدة باع الأب البيت المهجور بإرثه الرمزي لدي العائلة المنتقلة إلي مدينة ريفية أخري (السنبلاوين) ، وافق الجد وكان شرطه اللازم والدال أن تنتقل ملكية البيت إلي صاحبه الجديد فقط بعد أن يموت هو فيه ويخرج منه إلي قبره، صفقة واحدة تشمل البيع والموت، وهذا ما كان، تم البيع وتأجل تنفيذه، ومع انسحابه من اليقظة والتذكر إلي النسيان، سافر الجد مع ابنه وزوجته إلي البيت الكبير وقضي ساعاته المتبقية ، وكأن البيت هو المكان الأخير قبل القبر، أو كأن الموت يمكن أن يكون عاديا ومقبولا وخفيفا في بيته الشخصي ومكانه الخاص، وهكذا جاءت اللحظات الأخيرة وتكون مشهد ارتحال ختامي يجسد، ملخصا ومكثفا، الارتباط بالمكان والاتصال بالموت.
تتراوح الصورة التي يشكلها السرد عن الأب والمدينة والتراتب الاجتماعي والفكري المتوارث والمعيشة اليومية للأسر الريفية وطموحاتها المتوثبة لانتقال اجتماعي ومادي صعوداً إلي شرائح أعلي، تتراوح بين ثبات الوجود اليقيني وانكساره الخفي، فهي صورة عالم مغلق ودائرة متوارثة نتناسخ فيها ونتكرر، ولكن الراوي بحكاياته المتتابعة مع تعاقب دورات الدراسة وفصول الطبيعة وتعدد الغرف والكتب والوقائع يفكك تلك الصورة ويكسرها لنشاهد السطح الظاهري المغلق للعالم المتوارث وقد تكشف عن تحولات وتمردات جارحة وخروج خطر عن الإرث الديني والتراتب الهرمي ليصبح النص وقد وحد بين السرد المتخيل والسيرة الواقعية مرآة انتقال بين عالمين في زمن متصل.
انكسار صورة العالم المتوارث تلك تتجسد عبر اللحظات الأولي للمجاور في معهده الديني، حين نشبت معركة وحشية بين الطلاب الشيوخ في اليوم الأول، أغلق المعهد وتعطلت الدراسة وتأجلت، انكسرت في لحظة واحدة ومفاجئة صورة المعهد الحافظ للمعارف والقداسة، وخشوع شيوخه والتزام طلابه وهيبة علمائه، لتحل مكانها صورة نقيضة : توحش الطلاب وسلبية الشيوخ.
منذ تلك اللحظة الأولي تتابعت تحولات العالم وتبدلات صوره المتوارثة، حيث يصف الراوي مشهدا يكشف ظلال الجانب الآخر المستتر من المدينة، فتحت الأشجار، كانت فتيات شريدات بين باعة للمناديل والجوارب والأزهار والعطور والأمشاط ، ومحترفات للبغاء، يستترن وراء الأشجار ويمارسن البغاء علانية. فجرت مشاهد الفتيات وطلاب المتع العابرة تحت الأشجار رغباته المحتجزة، بينما أثار دهشته، عصر يوم ما ، مستشفي كبير للأمراض السرية وسط المدينة ، يتوافد إليه النسوة بين جريئات سافرات الوجوه والسيقان، قارحات العيون، ومستترات بالملايات السوداء ومقنعات طلبا للستر وتخفيا من المعارف، ليس هذا فقط، ففي عصر يوم آخر، تغير جمهور المشهد من النساء إلي الرجال، وكانت المفاجأة الصادمة حين اكتشف توافد عدد من زملائه في المعهد الديني ملثمين إلي المستشفي.
أتصور أن سؤالا قلقا، جارحا، قد طاف في عقل الراوي ومس يقين العالم لديه، فمن يحدد الحقيقة في هذا التداخل والاختلاط؟ وكيف نمتحن الصواب؟ وما الفارق إذن بين بغايا الشوارع والغرف السرية وبين طلاب العقائد وحافظيها في اقتراف الرزيلة واستباحة المواضعات المكرسة وانتهاك المحرمات، الرغبات الجسدية واحدة وإشباعها الآثم مشترك في الحالتين، ومعا البغايا والشيوخ والمجاور المتلصص علي المقنعات والملثمين يشكلون صورة المدينة الأخري، الخفية ، النقيضة للمدينة الصباحية ومعهدها الديني حيث حفظ الدروس والوصايا وتثبيت الأصول.
ترتبط بتلك الرغبات المحتجزة وأمراضها السرية حكاية أخري يسردها الراوي مكونة بدورها مشاهد العالم السري المستتر، الحكاية هنا تستحضر علاقات محرمة أخري ولكنها هذه المرة مع تمثال أثري، فعلي هضبة ناتئة خارج المدينة تسمي "تل بسطة" كانت توجد آثار فرعونية من الأحجار المتعددة الألوان والأنواع منحوتة، كما يصف الراوي ، لتكون مقاعد ومصاطب وجدرانا وأعمدة وتماثيل، وكلها أضحت بقايا سوي تمثال واحد من البازلت الأسود فارع القامة، ويبدو أنه كان رمزا للخصوبة في العالم القديم، فقد كانت أعضاؤه التناسلية واضحة ومحددة وعارية، وكانت النسوة تتحدثن عنه كقوة سحرية يمنح من تعانقه من النساء العقيمات فورة الخصب وقدرة الإنجاب.
وتمضي الحكاية، تسلل الراوي إلي التل الأثري وكمن بين أحجاره وأعشابه النامية، ورأي مع الفجر بضع نسوة يتقدمن من تمثال إله الخصب، تتوسطهن شابة، وابتدأت طقوس العناق والتلامس مع الضوء الأول للنهار، شبت الشابة علي حجر بما يشبه الاتصال الجسدي مع التمثال، وحينما انتهت، ألقت ماء علي الذكر الحجري وغادرت المكان مع النسوة، فيما تبقت آثار الماء مع الدم.
هنا ـــ كما هو واضح ـــ تماثل ما بين الحكاية وجنس المعابد في رواية "الطوق والأسورة" ليحيي الطاهر عبد الله، ولكن الأساسي ليس هو التماثل الذي يشير إلي انتهاك المحرمات الجسدية في جنوب الوادي ودلتا النهر معا، ولكن الأساسي لدي "سليمان فياض" هو تكشف العالم المختبئ خلف سطح ظاهري ثابت ومراوغ من الاعتقادات والتجانس الشكلي.
ومع نسجها صورة العالم المتكسرة والمتصادمة، ترصد الرواية لحظات التحول في شخصيات الحكاية وسيرة المكان وانتقالات الواقع المتبدد، وقد تبدو لنا لحظات التحول تلك فجائية، حادة، جارحة، كأنها هبوط قدري علي الشخصيات يأخذها من وجود راهن وحضور فعلي إلي احتمالات وعد ورهانات مصير، أو انقطاعات تبدو معها الشخصيات وكأنها ارتحلت من أيامها وانتقلت من تاريخها الشخصي معلقة بمصائرها في فضاء زمني لا روابط تجمعه بوجود قبلي أو صلات تربطه بمسار حياتي سابق.
وتحفل الرواية بلحظات التحول الفجائية في بناء الشخصيات المتأرجحة علي حواف أزمنة ورغبات ومصائر، أختار ذ استدلالا علي ذلك وتمثيلا ذ حكاية شاب متحمس في مظاهرة طلابية من تلك التي كانت ذلك الزمان تطوف الشوارع صارخة وصاخبة ثم تنتهي وقد هدأت الفورة وتبددت. البداية كانت عادية، فلا غير التجمع المشتعل بالغضب التقليدي وحماس النداءات، صعد الطلاب إلي شرفة المعهد وارتفع من بينهم صوت غاضب، ويحكي الراوي مستحضرا المكان والوقت والترديد الجماعي للكلمات الهادرة: مع اندفاعات الطلاب إلي الشارع الرئيسي هبط العساكر من عرباتهم السوداء حاملين العصي الثقيلة، لحظات واختلط الطلاب والجنود في اشتباك محتدم، من بين الجمع المتفجر ظهر شاب تبدو عليه نعمة أبناء الغني الريفي يحمله متظاهرون وهو يهتف غاضبا ومحتجا، ومع طلقات رصاص العساكر تفرق الطلاب مسرعين وفزعين في الحارات والطرقات ، انعطف الراوي في شارع جانبي ، كان شرطي قد لحق بالطالب الوسيم وحاصره وحيدا في مدخل السينما المغلق الأبواب، كأنه مكلف به وحده، وكان الشاب رافعا يديه مستسلما، لكن الشرطي راح يطلق عليه النار طلقة إثر طلقة. وفي الليل علي المقهي، والراوي جالس في مقعده الأثير، فاجأه صاحبه بالخبر المأساوي عن مقتل الطالب المتظاهر، وأن الضابط الذي كان يقود العساكر ويأمرهم بإطلاق النار كان أخوه الشقيق الذي جن بعد ذلك وحمل إلي مستشفي الأمراض العقلية. لحظات تحول فارقة في حياة الأخوين ومصيرهما، أحدهما قتل في لحظة غضب فجائي في مظاهرة عابرة، والآخر قضي ما تبقي من حياته هاذيا مختلط الإدراكات والمشاعر هاربا من تذكر اللحظة التي صوب فيها طلقاته القاتلة علي أخيه المستسلم.
لحظة تحول جنوني أخري مست مجاورا في ذلك المناخ الضاغط المتوتر لامتحانات المعهد الديني، وكما يتذكر الراوي ويسرد حاكيا: علي غير توقع، في ساعة هاج شاب أعجف العود جاف العظام والجلد، جلب نبوتا وراح يضرب به كل ما تطوله يداه، كتابا أو جدارا أو طالبا، تكاتف السعاة والفراشون وشدوا وثاقه بحبل، وجاءت عربة المستشفي وابتعدت به خارجة من المعهد. ويصف الراوي نهار الجنون ذلك ، "حين صحا الشاب من نومه بالعنبر هادئا، وجلس علي درج الامتحان هادئا، وأخذ ورقة الأسئلة هادئا، وأخرج قلمه هادئا وقرأ ورقة الأسئلة، أو هكذا بدا ، هادئا، وفي ظني أنه في تلك اللحظة ، لم يفهم شيئا مما يقرؤه ، وراح يجيب علي الأسئلة كلها بكلمة واحدة: تعبان. تعبان. تعبان، ويظل يكررها إلي آخر الصفحة، فيقلبها إلي الصفحة التالية، ويعود يكتب: تعبان. تعبان إلي آخر الصفحة، وحين انتهي من ملء الورقة كلها بهذه الكلمة نهض هادئا ، ونزل الدرج وسار في الباحة إلي العنبر هادئا ، وطوي ساعده فوق رأسه ، ونام في موضعه بالركن المظلم من العنبر هادئا ، وعند العصر صحا هائجا وكان ما كان، واختفي". ولا تقتصر الحكايات ولحظات تحولاتها علي هذيانات الحواس والانتقالات الخطرة إلي الجنون اللحظي وغياب العقل، بل ترصد كذلك الانجذابات الجسدية وإثم الحواس الراغبة، فتنقل أخبار أكثر المجاورين شقاوة وضخامة، يكسب لقمته البسيطة من المغامرات والرهانات البائسة، يأتي بحجر من الطوب ويتحدي الطلاب أن يضربوه به، فإذا توجع خسر الرهان، وإذا تحمل ضربة الطوب كسب من ضاربه قروشا ومضي ، ومع رهاناته المغامرة تلك يحيا ويكسب خبزه وقروشه، ثم قادته تجوالاته في المدينة نحو بشر متجمعين حول قرداتي وقرد وحاو وصعلوك ضامر الجسد، ومعهم راقصة تضرب الدف وتجمع في النهاية ما يدفعه الناس نظير الفرجة، تقدم الشاب القوي من الصعلوك الضامر وتحداه أن يقيده بسلسلة الحديد، هاب الصعلوك ضخامته فأخرج سلسلة أخري متينة الحلقات محكمة اللجام وراح يقيده بها أمام الناس وأغلق الحلقتين بقفل حديدي ضخم واعدا بجنيه كامل إذا نجح في فك السلسلة، نفخ الشاب القوي صدره وشد عضلاته ضاحكا ، ومع دهشة القرداتي والحاوي والراقصة انفكت السلسلة وانفسخ قفلها وتدفقت الهبات في دف الراقصة، وحين طالب المجاور القوي بنصيبه من هبات الناس فضلا عن جنيه الرهان، انحنت عليه الراقصة وقالت له كلمات لم يسمعها أحد سواه، وغادرت الحلقة فتبعها واختفيا، من ذلك الحين لم يعد المجاور إلي المعهد ولم يرجع إلي القرية، وترددت أخباره عند الرواة أنه أقام مع الراقصة حارسا ومصاحبا لها في الليالي والحلقات.
انقطاع فجائي آخر وتحول جذري في المصائر، حيث تأتي لحظة قدرية مكثفة وتمس الحياة القلقة علي حواف غير مرئية وتحولها وتعطيها مسارا نقيضا: عقل يتفكك من التعب السحيق المتوارث، رصاصة في مظاهرة تنهي حياة متحمسة ومستسلمة معا بيد أخ يستفيق ليري أخاه نازفا علي سلم مدخل مغلق، فيفقد طاقة العقل وبصيرته واتزانه، ويجتمع الأخوان في لحظة التحول الحادة ويتكون المصير المتبدد في الموت والجنون، ويتجول المجاور القوي في الساحات المتربة ليجد راقصة وحاويا وصعلوكا، فيتابع عاداته في الرهان علي القوة الجسدية متحديا، وفي اللحظة التي انتصر فيها كان تحوله النهائي المفاجئ ، فيتبع خطوات المرأة المغوية، وبدلا من أن يكون شيخا أزهريا، صار حاميا لراقصة وساكنا مقيما في غرفة الغوايات.