يضرب سليمان فياض بسهم وافر في حقول معرفية وإبداعية مختلفة، فالكاتب المصري الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، بدا مثقفاً استثنائيًا بامتياز، يعرّي قبح الحياة الثقافية بيدٍ، فيكشف خزيها وممارساتها اللاإنسانية أحياناً، ويكتب القصة والرواية ويصنع المعاجم باليد الأخرى. وبين مجموعته القصصية الأولى «عطشان يا صبايا»، وسيرته الذاتية اللافتة «أيام مجاور»، تتكشف ملامح مشروعه السردي، مروراً بعشرات الدراسات اللغوية والكتب المسكونة برائحة التعليم والتثقيف لأجيال من الناشئة، بما يحيلنا إلى حال ثقافية تعيد الاعتبار إلى جدوى الكتابة والموهبة الأصيلة والحضور المتكئ على المشروع الفكري/ الثقافي؛ لا ألق الوجود الخادع. ومن ثم بدا سليمان فياض حاضرًا في الوجدان الجمعي للجماعة الثقافية المصرية، وأحد حراس ضميرها الذي لم تطاوله رياح التجريف والتدجين.
ثمة وجوه تتجادل في متن المشروع الإبداعي/ الثقافي لسليمان فياض، فالنصوص السردية التي حفلت بسلامة لغوية مدهشة، واستعمال حصيف للغة وإنزال للفصحى في منازلها، واستخدامها في الحوارات السردية على نحو لا تعقيد فيه، وبصيغة تقربها للمتلقي على نحو ما كان يصنع نجيب محفوظ، تشي بوعي حاد باللغة مردُّه معرفة عميقة بأسرارها وطرائقها، كشفت عنه في ما بعد الجهود الدؤوبة لسليمان فياض في العمل اللغوي والمعجمي. هذا يجعلنا أمام عالَم لغوي مختلف، نتاج دال لجملة من ظروف النشأة والتكوين. فالطالب الأزهري القديم الذي بدا حاضراً في «أيام مجاور»، خبِر الحياةَ جيداً، وعركته تصاريفها، وبات أفقه طليعياً بامتياز، ونهمه للعالم بمسراته القليلة، بدا معينًا على احتمال المزيد من الإقصاء والقسوة.
يبدو سليمان فياض مولعًا بالقصة القصيرة، حتى نصوصه الروائية القليلة تبدو مفعمة بروح القصة والتقاطاتها الذكية وروحها الوثابة، وتبدو روايته القصيرة» أصوات» (1972)، مشغولة بثنائية شهيرة أضحت أساسًا لجدل خلاق ما بين الأنا الشرقي والآخر الغربي، في تلاحم مع مشهد السردية العربية المسكون بتلك الثنائية عبر نصوصه المتنوعة، من قبيل: «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و»قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و»الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، و»موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. غير أن سليمان فياض يمد الخيط على استقامته ويبدو أكثر قسوة على الأنا الموتور بثاراته التاريخية، وتراكماته النفسية المحبطة بفعل الإخفاق الذاتي والشامل معاً. فالمرأة الفرنسية؛ «سيمون» تتكالب عليها النسوة القرويات لختانها قمعًا وبطشًا وتنفيسًا عن لاوعي محبط ومأزوم، في غيبة من زوجها؛ «حامد البحيري»، صاحب البرقية التي تصل إلى المأمور طالباً فيها أن يساعده للبحث عن أهله في قريته ذات الاسم الدال «الدراويش»، والتي جرفه الحنين صوبها. في القسم الأول من الرواية «عودة الغائب»، والمتبوع بقسم ثان يحوي عنواناً ذا بنية تؤدي دوراً وظيفياً «دوامات الدراويش»، نرى فيه أثرًا لبرقية أخرى تحدث دوامات أعتى داخل القرية، ترِدُ إلى شقيق الغائب؛ «أحمد مصطفى البحيري»، مشفوعة بمبلغ ألفي جنيه لبناء دار جديدة تصلح لسكن الفرنسية الوافدة «سيمون»، ثم نرى قسماً ثالثًا يحوي تنويعاً في وجهات النظر داخل الرواية، عبر «مذكرات محمود بن المنسي»، يتلوه قسم أخير» الحصار» يبدو نتاجًا لجملة التفاعلات البنائية داخل الرواية، وتعبيرًا عن أنساق اجتماعية مهزومة، ترى في الحصار خلاصًا وواقعًا تسعى إلى فرضه على أي مختلف، حتى لو كانت امرأة أجنبية في ضيافة قرية رطانها عن القيم أكثر من أي شيء آخر.
في عمله الفاتن «القرين»؛ نصبح أمام محاكاة تهكمية لفكرة تراثية متمترسة في الوجدان الشعبي، وحاضرة في الموروث بمستوياته المختلفة. هنا لا يلجأ سليمان فياض للعب في عباءة التراث، ولا في فضائه المحدد سلفاً، لكنه يمارس معارضة للموروث، ولعبًا بالفكرة ذاتها، وتبدو عناوينه الفرعية الدالة حاوية نزوعًا ساخراً ودالاً على جوهر نصه في آن، من قبيل ما نرى في العناوين التالية: «كيف رأيت قريني يقلدني مثل القرد... في المرآة/ كيف جرَّني القرينُ لمناقشة قذرة وعابثة في الحمام/ كيف اكتشفت أن قريني له أسماء مضحكة عدة/ كيف غاظني قريني بالمن عليّ فهجوته بخطبة عصماء في المطبخ/ كيف تعرفت إلى القرين في نهمه مع الموز والمانجو والنبيذ/...». ويبدو نص «القرين» المطبوع مع نص آخر «لا أحد» في طبعة واحدة (الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1982)، منبئاً عن إشكالية النوع الأدبي ذاته، حيث كُتب بوثوق شديد على الغلاف «قصتان» في إشارة إلى العملين، كما اعتبر بعضهم «القرين» رواية قصيرة، لكنها تبدو لي متوالية قصصية، حيث ثمة وحدة في الموضوع والفضاء السردي، فتتوالى النصوص وتتواشج لتشكل في مجموعها جدارية بديعة عن نص يخلخل المستقر من الأبنية، ويعابث المستبد من الأفكار، مقدماً لقارئه متعة جمالية وفنية خاصة.
لقد شكَّل الكاتب الراحل زخمًا خاصًا في القصة القصيرة، عبر مجموعاته المختلفة: «عطشان يا صبايا» (1961)، «وبعدنا الطوفان» (1968)، «أحزان حزيران» 1969، «ذات العيون العسلية» (1992)، وبدا قابضًا على لحظته السردية ببراعة، منطلقاً صوب إحكام بنائي، لا ينسى مساحات التجريب المفترضة في كتابة تنحو صوب قراءة العالم من زاوية مختلفة. غير أن سليمان فياض المُقصى بفعل غيتوات الحياة الثقافية، وقوانينها العبثية، بدا مقاومًا أصيلاً لمظاهر القبح وتمثلاته المختلفة، فيبدو في كتابه الشيق «كتاب النميمة»، بخاصة في القسم المركزي «نبلاء وأوباش»، مسائلاً لواقع ثقافي تعس، منتصرًا للنبلاء في مقابل من سماهم «الأوباش». هذا الكتاب أهداه سليمان فياض إلى «الأجيال الجديدة»، ليكون وفق وصفه «تذكرة بأن الإنسان تاريخ وموقف، فلا سرّ يخفى، ولا شهادة تموت».
تتعدد وجوه الإبداع عند سليمان فياض، وتمتزج لتشكل تكوينًا فريدًا ومختلفًا في آن، عينُه على ناسه، وانحيازُه إلى نصه ومشروعه الوسيع، بتعدد تعبيراته، وتمثيلاته الخلاّقة.