«زوروني!» ... كتب سليمان فياض علي البروفايل الخاص به. علي الهاتف رتبنا الموعد، شرح الطريق بدقة، زرته، وجلسنا لأكثر من ثلاث ساعات. كان لدي أسئلتي الخاصة حول رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» .. وهو كان طرفا في القضية. لم تكن أسئلتي أو اهتمامي بالموضوع نابعة من اهتمام بالماضي، ولكن محاولة لمعرفة الحاضر. العم سليمان كان يتوكأ علي عصاه، وعلي الحائط أحيانا، مساحة حركته في الشقة بسيطة، يجلس دائما علي كرسي أمام شاشة الكومبيوتر حيث يعمل في أضخم موسوعة عن اللغة العربية، ومفرداتها، والتطورات التي حدثت للألفاظ، كان حلمه أن ينشر الموسوعة في طبعة شعبية بحيث تكون في متناول الجميع، لا يفضل دور النشر الفخيمة، أو تلك التي لا تمتلك شبكة توزيع منتشرة، تحدثنا عن حلمه الذي يعمل عليه منذ سنين، وعن جهاز الكومبيوتر الذي أتاح للحلم أن يكتمل بما وفره من امكانيات..ووقت تحدث يومها العم سليمان عن علاقته بمحمد الغزالي الشيخ، الذي يمت له بصله قرابه، هما من نفس البلده. عندما كان فياض طالبا بالأزهر وعده الغزالي بالتعيين فور تخرجه إماما لمسجد السيدة زينب، ولكن فياض رفض رغم محاولات الشيخ اقناعه بالدخل الذي سيدخل جيبه من صندوق النذور(23 ألف جنيه وقتها)، فالمكان لا يمكن رفضه بل حلم كل الشيوخ القدامي قبل المتخرجين حديثا أو كما قال الغزالي:" جامع تتقطع دونه الرقاب"!. أصر سليمان علي الرفض :"عباية الوعظ واسعة عليّ، كنت أريد الحرية..لا شيء آخر، وكنت أريد أن أصبح كاتب قصة ". عمل فياض فور تخرجه صحفيا، مع سعد الدين وهبة، في مجلة الشهر، يحرر باباً ثابتا بعنوان »شهريات «..كتب فيه أول مقال نقدي عن أولاد حارتنا، دفاعا عنها. كما كان وسيطا لنشر أولاد حارتنا في دار الآداب البيروتية.
والمفارقة أنه فصل فيما بعد، وكان مفلسا، وضاقت به الدنيا، فتذكر عرض الشيخ الغزالي وذهب لزيارته..فاقترح عليه أن يعمل سكرتيرا في مكتب في وزير الأوقاف، في تلك الفترة حضر فياض اجتماع لما سمي لجنة الدفاع عن الإسلام، ضمت 12 رجل دين من بينهم محمد الغزالي، سيد سابق، محمد يوسف موسي، محمد البهي، وكان محور الاجتماع مناقشة أولاد حارتنا...يقول فياض:" كنت كاتب الجلسة، عندما بدأ الكلام عن الرواية ارتعش القلم في يدي، فنظر إليّ الغزالي وقال إنه سيكتب بدلا مني".. لم تنتهي الحكاية هنا، فقد حصل فياض علي نسخة من قرار إدانة محفوظ، وذهب إليه به، وعندما قرأ الورقة تغير لونه ..أصبح أصفر مثل الليمونة"..بعدها علي الفور تركت وزارة الأوقاف. أسال فياض هل كانت اللجنة تعمل بأوامر حكومية؟ يجيب فياض: لا أظن، هؤلاء عملوا من وراء عبدالناصر لنشر الأخونه بين الأئمة وفي المساجد، هؤلاء هم الخلايا النائمة داخل الإخوان، ولم يتم القبض عليهم ..". ويضيف: " نجيب محفوظ لم يكن ينتقد الدين أو السلطة فقط في أولاد حارتنا..وإنما المنظومة الثقافية العربية ، كلها، وهو أمر لم يكن مقبولا من الجميع..". تحدث فياض عن لقائه بسيد قطب .. الذي كان يسكن وقتها في حلوان، في بيت مساحته نصف فدان، أكثر من نصفه حديقة بلا أزهار، وكان البيت ملكا لمأذون حلوان، اشتراه قطب بـ 2000 جنيه. في اللقاء بينهما، دارت مناقشات كثيرة ومتعددة، لا ينسي فياض ما قاله قطب له يومها:" يا سليمان يا حبيبي، بين الناس وحوش وذئاب ..ولا يجرئ الناس علي الذئاب إلا الدين" هكذا كان الدين وتصوراته في نظر قطب ..محاولة للوصول وممارسة السلطة من خلاله.. كان فياض يمتلك حكايات لا تنتهي عن رموز تيارات الإسلام السياسي الذين عرفهم أو عمل معهم ..كان سجلا لتلك الفترة ..ومن هنا كان موقفه واضحا وحاسما في العام الذي وصل الإخوان إلي السلطة في مصر ...كان ضد ذلك تماما، ومع الاطاحة بهم بأي ثمن!
وربما لهذا أستند المشروع الإبداعي لسليمان الذي اشتهر بين أصدقائه بالحكيم إلي تفكيك الأساطير، فقد ألف عددا من الكتب المهمة التي حاول فيها تعرية تيارات الإسلام السياسي الجامدة، وبخاصة أنه يمتلك معرفة حميمة بها بعد أن التحق لفترة بجماعة الإخوان المسلمين في الثلاثينيات، وكتابه»الوجه الآخر للخلافة« الذي أكد فيه أن الخلافة الإسلامية منذ العصر الأموي في القرن الأول الهجري حتي سقوط الإمبراطورية العثمانية في عشرينيات القرن الماضي استخدمت الدين قناعا »لإخضاع البلاد والعباد« بما أساء إلي مقاصد الإسلام. ويقول في كتابه هذا إن الخلفاء كانوا ممثلين »لأسر ملكية حاكمة« وتوارثوا الحكم بعيدا عن روح الدين الذي استهدف تحرير الإنسان من مقاصده »العدل وحرية الاعتقاد والأمن والتكافل الاجتماعي والإخاء والمساواة«. ويري أن هذه القيم الإنسانية والدينية تم إهدارها طوال »خلافات القهر الإمبراطورية« التي يقول إنها انتهجت الاستبداد والشمولية وكان سقوط آخرها بداية لأنظمة مدنية »تحقق بسلطان الحكم بالشوري مقاصد الدين«. وتمكنت الأنظمة التي حكمت بعد سقوط الدولة العثمانية من إحباط محاولات العودة إلي نظام الخلافة منذ نهاية العشرينيات. لعم سليمان، هكذا نناديه، وهكذا يناديه شباب الوسط الثقافي والأدبي. كما يناديه آخرون من أصدقائه بالحكيم سليمان، فياض الذي رحل الأسبوع الماضي ، عن عمر ناهز الـ 86 عاما، أصدر خمس عشرة مجموعة قصصية منها: »عطشان يا صبايا«، »أحزان حزيران«، »وفاة عامل مطبعة«.. وأربع روايات هي: »أصوات«، »القرين«، »لا أحد«، »أيام مجاور« وقد اشتهر بكتابة البورتريه الصحافي الحاد، كتابة لا تمجد الأشخاص، وإنما تتناول المسكوت عنه أو الجوانب السوداء في حياتهم. وتعتبر روايته " أصوات" واحدة من أهم روايات الأدب العربي..وإن كان هو يبدي اندهاشه من استقبالها النقدي ..فلم يكن يعني كما قال لي- كل ما تناوله النقاد فيما بعد نشرها وصدورها!