فقد الأدب العربي أمس إحدى أبرز قاماته الروائية، الكاتب المصري سليمان فياض عن عمر ناهز 86 عاماً بعد حياة ابداعية حافلة بالعديد من المساهمات التي تنوعت بين الابداع الروائي والقصصي ونقد الفكر الديني وعلم اللغة والكتابة للاطفال والبحث في تاريخ العلوم.
وتقام ليلة العزاء الأحد المقبل في «مسجد الحامدية الشاذلية» في ضاحية «المهندسين». ولد محمد سليمان عبد المعطي فياض في قرية برهمتوش (مركز السنبلاوية الدقلهية) في مصر عام 1929، وحصل على الشهادة العالية من كلية اللغة العربية (الدراسات العربية) في «جامعة الأزهر» عام 1956، وشهادة العالية من الإجازة في التدريس (تعادل درجة الماجستير) من الكلية نفسها 1959. عمل مدرساً للغة العربية وآدابها، وأميناً لمكتبة «دار المعلمين» في الجيزة بين عامي 1978-1979، إضافة إلى عمله وكيلاً لدار المعلمين في الجيزة عامي 1979-1984. أحال نفسه إلى المعاش التيسيري وتفرغ للتأليف ونال في مسيرته العديد من الجوائز بداية من «التشجيعية» عن «وبعدنا الطوفان» وحتى جائزة الدولة التقديرية واخيراً «جائزة العويس» الاماراتية .
وتكشف السيرىة الذاتية للراحل عن العديد من العلامات التي تشكل نقاطاً متحولة في مسيرته الطويلة التي امتلأت بخبرات نادرة ارتبط اغلبها بتجربة الدراسة في الأزهر الشريف. تجربة تقارب في التأثير تجربة «عميد الأدب العربي» طه حسين التي رواها في «الايام». ومن ثم تعتبر روايته «أيام مجاور» نصاً موزاياً لنص «الأيام» من حيث التأكيد على مخاطر التعاطي مع التراث كنص مكتمل أو يتضمّن «قداسة». وجد فياض أنّ مهمته الرئيسة تتعلق بهز هذه النوعية من الثوابت، لافتاً الى مخاطر بؤر التعليم الديني خارج إشراف الدولة وهي فكرة رئيسة تردد صداها في كتابه البارز «الوجه الآخر للخلافة الاسلامية» الذي نشره في أواخر تسعينيات القرن الماضي. من خلال المصادر الأصلية في كتب المؤرخين العرب أنفسهم، أثبت في هذا العمل بشاعة الحكم العربي وفق منظومة الخلافة الإسلامية. ومثلما أنهى فياض عمره بكتابة تجربته مع الأزهر في «أيام مجاور»، فقد بدأ تألقه الأدبي برواية «أصوات» التي تعالج الموضوع ذاته الذي عالجه رموز الأدب العربي وارتبط بعلاقة الشرق مع الغرب وظلت روايته الأشهر، وتحكي قصة امرأة أوروبية تزوجت مصرياً، فتعرَّضت لعملية ختان مريعة من نساء في القرية. وكما روى دائماً، فالرواية هي قصة واقعية حدثت في بلد فاروق شوشة في قرية الشعراء، وتحديداً سنة 1948، لكنه لم يكتب انطلاقاً من خبرة العيش في الغرب كما فعل توفيق الحكيم أو طه حسين ويحيي حقي وسهل ادريس والطيب صالح. لقد ركز على خبرة الفتاة الأوروبية وصدمتها من العيش في أعماق الريف والصدام مع ثوابته. ورغم شهرة الرواية التي قدمت النموذج الأبرز للرواية العربية «متعددة الاصوات»، فإنّ الراحل اعتبر دائماً أنّ إنجازه الأكبر يتعلق بفن القصة القصيرة التي قدمها فيها حوالي 9 مجموعات أبرزها «عطشان يا صبايا»، و«بعدنا الطوفان»، و«القرين»، و«وفاة عامل مطبعة» نظراً إلى كونه قدم أعماله وسط أقران من الكتاب البارزين أمثال يوسف ادريس، ويوسف الشاروني. أمر التفت اليه «جائزة العويس» في حيثيات منحه الجائزة قبل سنوات، إذ اشارت الى أنّ «أعمال سليمان فياض المتعددة استطاعت أن تشق لها مساراً ذا تميز في واقع القصة القصيرة العربية من حيث نصاعة اللغة، وعمق التناول وجدية التجربة وطرائق التعبير السردي، ويظهر ذلك منذ أعماله الأولى حيث انتهج أسلوب التناول الواضح الحاد الذي ينأى عن الترهل اللغوي والانفعالي».
ووفق لجنة الجائزة، فهو أحد الذين أخلصوا لفن القصة القصيرة، وتمكن من أن يشيّد به عالماً فنياً وإنسانياً متكاملاً، أثرى به طاقة هذا الفن على التعبير عن قضايا الواقع وهموم الإنسان العربي، مما جعله من المبرزين بين كتاب هذا الفن من حيث تشخيص قيم الحداثة المتجلية في تقنية الكتابة القصصية واستخدام تعدد الأصوات وتنوع اللغات، مما يعد مساهمة جادة في إثراء هذا الفن وتحديثه. والمتأمل في عالمه الابداعي يلمس اهتمامه الرئيس بالكتابة عن الريف، وجعله مسرحاً لأحداث أغلب قصصه واهتمامه، كذلك بالأساطير الشعبية ومحاولة إبراز «الفانتازيا الشعبية» والتأكيد على ثراء الخبرة اليومية.
ولعل أكثر ما يلفت النظر في مسيرته بخلاف تنوع مساهماته الابداعية، هو انفتاحه على التجارب التي كانت تتسم بفكرة التجديد. فهو من اوائل الكتاب الذين مارسوا الكتابة للاذاعة والتلفزيون والذين قبلوا التحدي الرئيسي في التعاطي مع اجهزة الحاسوب، إذ بدأ مشروعاً طموحاً لتطوير البرمجيات اللغوية، مستفيداً من خبرته الطويلة في علم اللغة حيث قدم في هذا المجال العديد من الكتب العلامات منها «معجم الأفعال العربية المعاصرة» و«أنظمة تصريف الافعال العربية»، «الدليل اللغوي الشامل»... ويلفت النظر كذلك اهتمامه الكبير في البحث في تاريخ العلوم عند العرب، إذ قدم سلسلة للأطفال تركز كلها على إبراز الدور الذي لعبه العلماء العرب. على صعيد تجاربه السياسية، كان فياض فاعلاً رئيسياً ضمن مجموعة من كتاب جيله الذين شاعت فكرة ارتباطهم بحزب «البعث» ومحاولة تأسيس فرع مصري للحزب. مجموعة ضمت الى جواره رجاء النقاش، وفاروق شوشة (شقيق زوجة فياض) وجلال أمين، وعلي مختار. واللافت أنّ فياض تجنب كتابة هذه التجربة التي لا تزال تشكل لغزاً كبيراً في مسيرة أغلب كتاب هذه المجموعة. أسّس الراحل واحدة من اكثر السلاسل الابداعية تأثيراً وهي «مختارات فصول» التي قدم فيها أبرز كتّاب مصر بداية من جيل الستينيات حتى توقف السلسلة عن الصدور. وشهد الجميع له بذائقة نقدية ميزت كتاباته النقدية القليلة التي حرص فيها دائماً على تقديم الأصوات الادبية الشابة، اذ اتسمت علاقته معها بشيء من الرحابة لم يتوافر لاغلب مجايليه. كان يناديه الجميع باسمه متجرداً من أي القاب وكان بدوره يعتبر نفسه كاتباً شاباً. حرص على تعلم الكتابة على الكومبيوتر وهو في اعوامه الثمانين. وكان يتواصل مع الجميع عبر صفحته الشخصية على فايسبوك، مؤكداً حداثة تكوينه وانحيازه المطلق لفكرة التجديد بالكتابة والممارسة اليومية.