لم يكن سليمان فياض قد أتم الخامسةَ عشْرةَ من عمره حين أفاق على خديعة عمره، وأحسّ بفجيعةٍ لن تفارقه؛ خديعة أن الأزهر "الشريف" هو موئل الملائكة الأرضيين المعمَّمين، ومهبط العلوم والفهوم والفتوحات. وفجيعة أن يصبح كهؤلاء "المشيوخين" الذين لم يتورَّعوا عن استقبال أوّل أيام دراستهم بمعركةٍ حامية الوطيس، أراق فيها بعضُهم دماءَ بعضٍ، وقبضوا قلبَ الصبيِّ غضِّ الإهاب، وأسالوا دمعَ أستاذهم وهو يتمتم: "يا عِيني عَ المشايخ.. يا عِيني". والأكثر فجيعةً في معارك "صغار المشايخ" هذه أنهم لا يعرفون دوافعها الحقيقية، تلك التي يحركها "المشايخ الكبار" في القاهرة، لأسباب سياسية وحزبية لا ناقة فيها لهؤلاء الطلبة الصغار ولا جمل.
الفجيعةُ هذه، والخديعةُ تلك، جعلتاه "يقرِّر"، منذ أيامه الأولى في المعهد الأزهري، أموراً: ألّا يكون شيخاً، وألّا يكون واعظاً، وألا يتوهم يوماً أنه واحدٌ من "القِلَّةِ الأزهرية" الظانَّةِ نفسَها "الناجية"، وأخيراً: قرّر فياض الاحتفاظ بعقله في رأسه وألا يكون مجنوناً، محاولاً إبقاء فرحه بأنه حيٌّ.
في "معهد الزقازيق الديني"، أحد معاهد الأزهر السبعة الوحيدة ذلك العهدَ، أمضى سليمان فياض سبعَ سنين من "التِّيْه". وفي كتابه الأخير "أيام مجاور" (دار الهلال، القاهرة) قصَّ أطرافاً من ذلك التيه. ورغم أن الكتاب صادرٌ عن "سلسلة روايات الهلال"، إلا أن الناقد لا يطمئن إلى عدّه روايةً ولا حتّى سيرةً. هو في أقرب صفةٍ له "ذكريات لا مذكرات". ذكرياتٌ متناثرةٌ، لا يربطها من خيطٍ سوى خيط تسلسل وقائعها المتناثرة في سياق السنين السبع تلك.
أمضى فياض سنته الأولى في المعهد ضائعاً ضياعاً كُلِّيًّا، لا يصنع شيئاً سوى قراءة "روايات الجيب" والمغامرات المصوَّرة في "مكتبة بحر مويس" العامّة، والتسكُّع في مقاهي الزقازيق، وإدمان السينما بعد روعة المفاجأة بها، والعمل "نقَّاراً" مع نجَّار بسيط الحال ليغطي كُلَف حياة "الصَّرْمحة" هذه. وأثناء هذا الانكباب على اكتشاف الحياة والغَرْف من مَسرَّاتها الصغيرة، زاره "أبوطرطور" - بتعبير طه حسين في "الأيام"- في منامه يجمعه بأوّل أنثى صادفته في البيت الذي يسكنه، الأمر الذي أدخله عالَماً آخر موازياً. أدّى هذا كله إلى النتيجة المحتومة: حرمانه من دخول امتحان العام. ولولا وساطاتٌ ومحايلاتٌ؛ لضاعت سنته الأولى هدراً. ورغم تأخّر بدء مذاكرته تأخّراً فادحاً، استطاع الصبي استجماع أمر مقرراته، ونجح بتفوّق غير متوقع.
حين باشر فياض مذاكرة كتبه أوّل مرّة، واجهته محنة "الحفظ"؛ أراده أبوه، الأزهري القديم - خريج "المعهد الأحمدي" بطنطا - أن يحفظ مقرراته حفظاً. وهنا بدت أولى ملامح التمرد "الفكري" لدى فياض، بعد تمرده المادي والحياتي في سنته الأولى. فأصرّ على أن يفهم أكثر مما يحفظ، وعلى أن يتمثَّل المنهج الأزهريَّ بحسَب ما يراه أقرب إلى المقصود من "كلام الكتاب قديم الدَّقَّة". ولم يرضخ لعقوبة والده القاسية، حتى نجح في تحديه، وجاوز سنته الأولى بتفوق، وهو النجاح الوحيد الذي كان له طعمٌ في نفسه طوال "سنوات تِـيْهه بالزقازيق."
احتفظ فياض بتمرّده على التركيز المبالَغ فيه على الحفظ طوال فترة دراسته تلك، حتى وجد له مناصراً من بعض أساتذته النابهين، وهو الشيخ "المتنور" أحمد الشرباصي، ومعه "القلّة المتمردة على كتب الأزهر التراثية الصفراء، الملتفة الصياغات التفافاتٍ مشوَّشة"، اتصل بهذا التمرد "الفكري" الضيقُ بمظاهر السَّمْت الأزهري المتمثل في "الكاكولة" و"العمامة"، والعزمُ على هجرهما إلى "بدلة" طلاب المدارس، لولا أن أباه رفض، ولولا أن زملاءه "الآبقين" طُردوا مراراً من المعهد بسبب تمردهم الظاهر على الزي الأزهري التقليدي.
رغم أن فياض لم يشبع تطلّع قارئه للتعرّف إلى جوّ دراسته العلمي وشيوخه في تلك الفترة التأسيسية، إلا أنه لم يُخلِ كتابَه من ذكر بعض هؤلاء الشيوخ، بسلبياتهم وإيجابياتهم. ومن المؤثّرين فيه إيجابًا؛ الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي، "العايق" الأديب، سابق الذكر، محرِّضه الأوّل على التمرّد الفكري والـمَظهري والكتابة الفنية، و"ضحيته" الأولى فيما استمرأه بعدُ من "نميمةٍ" صبغت أدبه. ثم الشيخ القناوي، مدرس الفقه الشافعي، وأيضاً مادة "التعبير"، الذي شجّعه على مواصلة تجويد كتابته، وأوصاه أن يذكره بالخير عندما يصبح كاتباً. ثم يأتي "الشيخ الدكتور، الجميل الطباع، الشديد التواضع، العالم المتنور بالشريعة الإسلامية، الشيخ عبدالرحمن تاج الذي صار فيما بعد شيخاً أكبر، وإماماً للجامع الأزهر". انتقل الشيخ تاج إلى الزقازيق شيخاً "مديراً" لمعهدها الديني، أحد بضعة معاهد أزهرية في أنحاء مصر المعمورة ذلك الزمان، وخلع زيه وعمامته لينظف "حمامات" المعهد بنفسه، وكان أوّل وآخر من صنع هذا.
يصف فياض والده، بأنه كان متصوفاً بلا لحية في ذقنه، ولا "عدبة" في عمامته. كان من الطراز الذي وصفه الوالد نفسه: "من ذوي العمامات المتأنقة، النظاف الوجوه والأيدي والقلوب". كان "تِيجانيَّ" الطريقة، يجتمع في بيته رفاقُ الطريقة كلَّ عصرٍ، ليقودهم في وِرْد "جوهرة اليقين"، الذي أخفق فياض في حفظه لـ "ألفاظه المغربية المتفلسفة، مغلقة المعاني تقريباً". جلس معهم فياض مرةً واحدةً، فلم يجد نفسَه في الجلسة ولا في الوِرْد تحديداً. وإذ ذكَّره والده بموعد الجلسة التالية وضرورة التجهز لها بتحضير الوِرْد؛ فوجئ بابنه الصبي يحاول إبهاره بلغة فصحى متعالمة: "صارت الأورادُ قرآناتٍ أخرى، لِمَ لا تقرؤون القرآن ذاتَه؟".
اللافت هنا، أن هذا المشهد تكرر حرْفيًّا – تقريباً – بين طه حسين ووالده، حين قال طه لإخوته: "إن قراءة "دلائل الخيرات" عبثٌ لا غَناء فيه"، ثم واجه أباه الشيخَ بالأقسى: "وتعلمت في الأزهر أن كثيراً مما تقرؤه في هذا الكتاب يضرّ ولا ينفع،،، وإنما هو لونٌ من الوثنية". وليس هذا وحده مما اتفقت فيه تجربتا طه حسين وسليمان فياض الأزهريتان، على ما بينهما من نحو أربعين سنةً.
والحق أن هذه سيرةٌ قابضةٌ لا "مقبضة"، كما كرر فياض في كتابه بضع مرات". وكان المرءُ يظنّ فيها المبالغة منذ سرد أطرافاً منها طه حسين في "أيامه"، ثم ركزت عليها أعمال سينمائية على شاكلة "شباب امرأة". وكان الظنّ أن هذه مبالغات من طه حسين، تعميقاً لرؤيته السالبة من الأزهر والأزهريين، تلقفها منه صانعو السينما ليزيدوا من سوادها. لكن عند تتبع عدد من سِيَر الأزهريين الـمُحْدَثين الذاتية، مثل الشيخ محمّد عبده، والشيخ محمّد الأحمدي الظواهري ومَن بعدهما، ومِن قبلهما منثوراتٌ تشير إلى جوانب سالبة في حياة الأزهريين ترددتْ في أنحاء "تاريخ الجبرتي"، نجد أن رواية طه حسين، ومن بعده فياض وما بينهما، ليست بعيدةً عن الواقع الذي كان، وأن الصورة السينمائية السيئة لنمط "الأزهري الفاسد" ليست وليدة الخيال.
وبدهيٌّ أن لم يكن كلّ طلبة الأزهر فاسدين، ولا متهتكين. ولكن قارئ كتاب فياض، يَـفجعه هذا الكمُّ الهائل من مفاسد "المشايخ الصغار"، مما يثير الانتباه إلى إعادة النظر في تلك الحقبة: اجتماعيًّا وأخلاقيًّا، وتمحيص ما صنعه انقلاب يوليو 1952م من إعادة بلورة وضع المؤسسة الأزهرية ونُظُمها المعيشية والتعليمية، فربما أدّت إعادةُ النظر هذه إلى إعادة تقويم واقعي للمفاسد والمصالح.
كتب فياض في نهاية كتابه، بعد أدائه اختبارات السنة الأخيرة في المرحلة الثانوية الأزهرية: "حين اقترب بي القطار من مركز ديرب نجم، عائداً بي من سنوات التيه، نفضتُ عن نفسي الأسى والرغبةَ في البكاء. هَببتُ واقفاً فوق سطح قطارٍ يسعى بين المزارع والقرى كالسلحفاة. ودُرتُ بعيني في مزارع خضراء فسيحة مترامية على مدى البصر، يَحنو عليها أفقٌ جيري كقبة سماوية. أبهجني المشهد في وَقْدة الحر. فَردتُ ذراعي على جانبيَّ على اتساعهما، ورحتُ أرقص دائراً حول نفسي، فوق سطح عربة تتراقص بدورها في سيرها، وزعقتُ من قلبي كالأهبل: هيه.. هيه.. أنا حرّ.. أنا حرّ. فجأةً.. لطشني في عنقي سلكٌ ممتدٌّ بميل بين عمودي تليفون على جانبي الطريق. سقطتُ أتدحرج فوق سطح العربة، وسقطت معي صرخةُ الحرية.كدتُ أسقط من فوق العربة على الطريق. أسعفتني يدي، وحلاوةُ الروح".
هل نجا سليمان فياض فعلاً من "لطشة" التمرد؟، وهل يمكن لمثله أن يتراجع عن صيحة الحرية؟ ما أثر هذه الحادثة المؤلمة، مادةً ومعنًى، في مرحلة فياض الأزهرية اللاحقة في "الجامعة الأزهرية"؟ هذا ما نتمنى أن يكون قد دوَّنه قبل رحيله؛ لسَبْر ما تلا من مسيرة هذا الأزهري المارق