فى فبراير عام 1929 ولد سليمان فياض، وفى فبراير عام 2015 رحل عن ستة وثمانين عامًا. وبرحيله تطوى صفحات علاقة حميمة صمدت فى وجه كل التحديات والتحولات والتقلبات، على مدى ستين عامًا متصلة،
كما اتسعت لفيض من المسرات والأشواق والفرح بالحياة والصداقة والإبداع والمؤانسة الإنسانية. واليوم، هل كل ما يستطيع مخزون هذه العلاقة أن يسعفنى به هو أن يوفر لي مادة لمقال أكتبه عنه إنسانًا نادرًا ومبدعًا كبيرًا ورفيق حياة طويلة مشتركة؟. بانتهاء دراسته الأزهرية وتخرجه في كلية اللغة العربية وحصوله على شهادة العالمية، بدأ حياته العملية معلمًا وخبيرًا لغويًّا، قبل أن تتفجَّر موهبته الإبداعية في كتابة القصة القصيرة التي تجسدت في مجموعاته: عطشان يا صبايا، وبعدنا الطوفان، وأحزان حزيران، والعيون، وزمن الصمت والضباب، والصورة والظل، والقرين ولا أحد، ووفاة عامل مطبعة، والذئبة، وذات العيون العسلية، والشرنقة، بالإضافة إلى رواية واحدة هى (أصوات).
هذا الوجه الأصيل من وجوه سليمان فياض رصده بدقة ومتابعة: الناقد الذى يجاوره في سكنه الدكتور صبري حافظ، في كتابته المتميزة عنه ضمن أعلام قاموس الأدب العربي الحديث الذى أعدّه وحرَّره الدكتور حمدي السكوت.
تتيح أعمال سليمان فياض الروائية والقصصية مجالات رحبة للدراسة الفنية عن لغته الممثلة لثقافته التراثية من ناحية وانفتاحه على روائع الأدب الحديث في ترجماته ومتابعاته العميقة لأعمال كبار الروائيين والقصاصين العالمية. وقد كانت تأسره دومًا لغة "هيمنجواي" وشخصيته العنيفة التي كانت سببًا في إقدامه على الانتحار، كما كان دائم الإشادة بالحياة الممتلئة والصاخبة التي عاشها هيمنجواى كاتبًا ومناضلاً ومشاركًا فى حروب الحرية والتحرُّر، من غير أن يغفل رحابة العالم الإنساني عند "تشيكوف" ونماذجه البشرية المنسحقة وعذوبة أسلوبه السردي البعيد عن الصنعة والتكلف.
لكن وجوه سليمان فياض الأخرى لا تقل أهمية وأثرًا في مجمل إنجازه. وفى مقدمتها دراساته وأبحاثه في اللغة واهتمامه بإصدار المعاجم المتخصصة. وأصبح العقدان الأخيران من حياته وقفًا على هذا الجانب الذى قام به منفردًا - في حين أنه كان يتطلب حشدًا من الباحثين المؤهلين. وهكذا كان سليمان فياض بمفرده مجمعًا لغويًّا يخرج للناس معجم الأفعال الثلاثية، وأنظمة تصريف الأفعال العربية، والحقول الدلالية الصرفية للأفعال العربية، ومعجم المأثورات اللغوية والتعابير الأدبية، والنحو العصري، والأفعال العربية الشاذة، وأزمنة الفعل العربي، واستخدامات الحروف العربية، ومعجم السمع والمسموعات. أليس غريبًا أن يرحل صاحب هذا الإنجاز اللغوى الهائل دون أن يمنحه مجمع اللغة العربية شرف عضويته، عاملاً أو منتسبًا؟. ولابد أن مراجعة الكمبيوتر الخاص به، والذى كان بواسطته يقوم بكل أبحاثه ودراساته اللغوية والمعجمية، ستكشف عن أعمال أخرى لا تزال تنتظر من يدفع بها إلى عالم النشر، وهو مطلب أتجه به إلى الدكتور باسم فياض - ابن الفقيد - الذى كان بمثابة الذراع اليمنى لأبيه في كل أعماله الحاسوبية، حرصًا على استكمال الجهد الضخم الذى قام به والده في هذا المجال على مدى سنوات عدة.
يضاف إلى هذين الوجهين البارزين فى شخصية سليمان فياض، وجهه العميق الصلة بالوجدان الشعبي وروح الأمة ودراسة النماذج التي يشاهدها الناس على مسرح الحياة في المجتمع، وهو ما أتاح له كتابة العديد من اللوحات القلمية النقدية التي ضمَّنها: «كتاب النميمة: نبلاء وأوباش» وكتابيْه: المساكين، وحكايات المجاورين -والمجاورون هم طلبة العلم في الأزهر-، بالإضافة إلى كتابه الفذ الشديد الجرأة والخطورة بعنوان: «الوجه الآخر للخلافة الإسلامية» الذى يعيد قراءة هذه الخلافة في تاريخها الممتد قراءة نقدية فاحصة، لا تغضُّ الطرف عن العيوب والسلبيات والمواقف المثيرة المخالفة لروح الإسلام وسماحته، وتفسح مجالاً لإعادة النظر فيما تقدمه بعض مناهج التعليم - المدني والأزهري - في صورة مسلمات، ويردِّدها جيل بعد جيل، من غير إخضاعها للوعى النقدي ومناهج البحث الموضوعي.
ولم ينْسَ سليمان فياض - في خضم مشروعه الإبداعي والتنويري - أن يمنح اهتمامه للطفل العربي والفتى العربي، من خلال التعريف بأهم الشخصيات العربية - في مجالات شتى علمية ونضالية وأدبية وثقافية - بأسلوب عصري شديد البساطة والتدفق، ليلائم عالم الطفل ومستواه اللغوي، بالإضافة إلى سلسلة "علماء العرب" التي تناولت العشرات منهم وعرضت لجهودهم وإنجازاتهم وآثارهم في تاريخ العلم والحضارة الإنسانية. وإلى جانبها سلسلة "أبطال العرب" التي كان يريد بها إيقاظ الحسّ القومي وتغذية نزعات الشجاعة والبطولة عند النشء المتعلم، وفتح عيونه على ما يحيط بواقعه المعاصر من تحديات وأخطار، تتطلب الوعى والتماسك، والاقتداء بالنماذج الخالدة في تراثنا المصري والعربي.
أمثال سليمان فياض - من الحكّائين والحكماء والمنشغلين بهموم البشر - لا يرحلون قبل أن يملأ عطرهم الدنيا، وتفيض بهجتهم على الأماكن والمواقع والزوايا والحنايا، فتظل تردد سيرتهم وتلهج بأخبار أيامهم ولياليهم. ولقد كان سليمان - كما يقال في أدبياتنا القديمة - حِلْس ليل، الليل صحوه وعبقه ونشوته، وبحثه الدائم عن الرفاق والصحبة والتلذُّذ بالأخبار والحكايا. وربما لهذا السبب لم يكن كائنًا بيتيًّا، فهو باستمرار يبحث عن الهواء الطلق ويتجنب الجدران، ومعظم كتاباته وإبداعاته أنجزها في مكانه المفضل على النيل، في الكازينو المواجه لبيته، يدلف إليه من مطلع النهار ولا يغادره حتى تبدأ الشمس في المغيب، وربما استمر منغمسًا فيما يكتبه ناسيًا أن الليل قد أناخ بكلكله وأن عليه أن يعود من حيث أتى. هذا المكان الجميل الهادئ على النيل، هيأ لسليمان أوقاتًا رائعة للقراءة والكتابة، وأوقاتًا أكثر روعة ليقظة الوعى والتأمل. فلم يكن رأسه يخلو دومًا من تجليات الفكر، سياسيًّا وفلسفيًّا ووجوديًّا، وانعكس هذا كله في كتاباته لتصبح أغنى وأعمق وأكثر امتلاء بحصاد هذا الانشغال الدائم بمصير الإنسان الفرد في العالم، ومدى الحرية الممنوحة له والتي يجتهد في توسعتها بلا كلل، ويكتشف - في أسى - أنه كلما زاد الثوب انسدالاً وتغطيةً زاد ثقوبًا وخروقًا، إلى ما لا نهاية.
لقد سبقته زوجته - أختي - إلى الرحيل، وأظن أنه عاش بعدها - دون أن يصرح - هزة نفسية وروحية عميقة، وبدأت مناعته الجسدية في التراجع بعد إصابته في مناعته الحياتية، وتشبثه بهذه الحياة. وهو الذى عاش يؤمِّل من خلال مداعبتنا له - ونحن نناديه باسْم سليمان الحكيم - أجلاً يطول كما طال عمر سميِّه، ووفرة في الطاقة تكافئ وتعادل سهر الليل وصخبه وصحبة حرافيشه. لكن هذا كله كان يَسحب من رصيده ويقتات من كبده، الذى صمد جزء ضئيل منه منْح الحياة لصاحبه قبل أن تعجِّل به غيبوبة الرحيل.
ويا عزيزى سليمانوف، الدنيا بعدك مختلفة، ولم يمْضِ على رحيلك سوى أسبوعين، فكيف سيكون حالها عندما تنهمر السنون وتتباعد المسافة؟ هل ستتحقق فيك مقولة ناظم حكمت - الشاعر التركي الكبير- في رسالته من سجنه الطويل إلى زوجته في خارجه وهو يعزيها ويدفعها إلى تحمُّل نهايته المحتومة: بأن موتى القرن العشرين لا يشغلون أحباءهم أكثر من عام. فما بالنا ونحن في القرن الحادي والعشرين، الذى كنت تحدثنا دومًا عما سيحمله من عجائب ومفاجآت وعوالم مدهشة، وكأنك واحد من علماء الفلك، أو أستاذ في الهندسة الوراثية وعلوم البيولوجيا، أو متنبئ يقرأ الطوالع ويدهشنا بالتفاسير.
ولقد كنت هذا كله يا سليمان!