تقدم (الكلمة) لقرائها هذا الملف الذي أعدته على عجل بمناسبة رحيل أحد أبرز أعلام النقد الأدبي العربي الحديث: توفيق بكار (27 ديسمبر 1927 – 24 أبريل 2017)، احتفاء بقيمة الرجل الذي كان قامة نقدية وأدبية كبيرة. فقد استطاع منذ بدايات حياته الأدبية أن يترك بصمة واضحة لا على ساحة النقد الأدبي والدرس الجامعي في تونس وحدها، وإنما على النقد الأدبي العربي من ورائها. حيث تميز خطابه النقدي بقدرة مرهفة على هضم المناهج النقدية الحديثة وإخضاعها لمتطلبات النص الذي يتناوله، سواء أكان نصا من تراثنا الأدبي القديم، أو منم أحدث الأعمال العربية الإبداعية في الشعر والقص والرواية. فيتحول النص النقدي الذي ينجزه إلى عمل إبداعي يمتع القارئ ويثري ثقافته وتفكيره.
وقد عرفت الراحل الكبير وقدّرته، لا في مقاعد الدرس كما عرفه معظم مثقفي تونس، وإنما من قراءة نصوصه النقدية الرصينة والمدهشة بلغتها الصافية واستبصاراتها العميقة. فقد تحول النص النقدي على يديه إلى عمل أدبي ممتع يدفع القارئ إلى الاهتمام به في حد ذاته، حتى لو لم يكن قد قرأ النص المنقود. ولفت انتباهي بمواقفه النقدية والضميرية الصارمة، وبنزاهته الفكرية والأخلاقية على السواء. فقد كان حقا من حراس (الكلمة)، ومن المنافحين عن ضمير الحركة الثقافية العربية العريض. كان يتسم بالكبرياء والنزاهة والتعفف عن الصغائر، فهو ممن يترفعون عن العطية كي لا توقعهم في شبهة التبعية، حتى ولو كانت في شكل جوائز أو مواقع هو بها جدير. وكان يؤمن بوحدة الثقافة العربية الراقية، وبضرورة أن تتفاعل روافدها المختلفة وأن تنهار أمام إبداعتها كل الحدود السياسية والجغرافية وحتى الأيديولوجية. وكانت مبادرته بإنشاء سلسلته الأدبية الشهيرة (عيون المعاصرة) هي التي موضعت النص العربي المتميز في قلب الواقع الثقافي التونسي الذي كان مغلقا عنه إلى حد كبير. وهي التي جعلت جودة النص وفنيته العالية المعيار الأول في اختياراتها، رغم تباين خلفيات الكتاب وأيديولوجياتهم. وهي التي وضعت الكثيرين من كتاب تونس القدامى منهم والناشئين على خريطة الواقع الثقافي العربي العريضة.
ومع هذا كانت له رؤيته الفكرية المتميزة التي تؤمن بالتقدم والعدل والحرية، والتي تمد جذورها في الفكر الماركسي بماديته الجدلية الحقيقية وإمكانياته المفتوحة أبدا على آفاق التغيير والتطور، وليس بالتزاماته الحزبية ضيقة الأفق. وهي الرؤية الجدلية التي مكنته من أن يبلور نقدا أدبيا جدليا بحق، لا يغفل البعد الهيجيلي للجدل، ويرفد أشد مناهج النقد الأدبي الحديث نصيّة بالروافد السياقية المختلفة: اجتماعية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو فلسفية أو حتى نصية/ تناصية.
وكم كنت أتوق كلما زرت تونس أو عرجت على باريس في السنوات العشرين الأخيرة إلى لقائه في مقهاه الأثير في ساحة الباستيل الشهيرة. فقد كانت معرفة الإنسان فيه والاقتراب منه لا تقل إثراء للروح والنفس عن قراءة أعماله. فقد كان من المثقفين العرب القلائل الذين تشعر معهم بكبرياء الثقافة العربية وأصالتها وأهمية ما تنطوي عليه من قيم حضارية وضميرية، مهما انهالت عليها معاول التشويه، وضربات من أصبحوا يتحدثون باسمها، أو يمثلونها وهم من تمثيلها براء، في سنوات التردي والهوان الأخيرة. كان توفيق بكار من هذا الطراز النادر من الشخصيات الأدبية التي جعلت الأدب منارة فكرة وضميرية في النفس والروح من أمثال يحيى حقي أو أنور المعداوي، أو فؤاد التكرلي. تدفعك إلى الاعتصام بما يشع من ضوئها كلما تكاثفت الظلمة واشتد التردي والهوان.
فوداعا أيها الراحل الكبير!
سيبقى ذكرك مهما بقيت الثقافة العربية النزيهة الحرة المستقلة!
ص. ح.