نزل الى ساحته بأدواته النقدية الحديثة وثقافته الواسعة. واثر في الابداع الادبي التونسي بكل ميادينه السردية والشعرية والنقدية. وشارك في تطويره واخراجه من ضيقه وفسح المجال امامه ليكون مهما على الساحة العربية، وربما ايضا العالمية.

الناقد توفيق بكار وداعا

كنت شمعة لخمسين سنة ... وستبقى منيرا

محمد بن رجب

عرفت الجامعة التونسية منذ تأسيسها عددا كبيرا من اساتذة اللغة العربية .. والكثير منهم اختصوا في النقد الادبي. واحد فقط برز بعمق اتصاله بالأدب التونسي الحديث والمعاصر. لا فقط لأهمية محاضراته ودروسه، بل لأنه ايضا كان فاعلا في الشارع الثقافي التونسي، محطما بذلك البرج العاجي الذي كثيرا ما جلس عليه الاساتذة الجامعيون خاصة منهم القادمون من السوربون. فقد نزل الى ساحته بأدواته النقدية الحديثة وثقافته الواسعة. واثر في الابداع الادبي التونسي بكل ميادينه السردية والشعرية والنقدية. وشارك في تطويره واخراجه من ضيقه وفسح المجال امامه ليكون مهما على الساحة العربية .. وربما ايضا العالمية

هذا الاستاذ الناقد هو توفيق بكار الذي توفي اليوم الاثنين 24 افريل 2017 لقد كان احد عمالقة الجامعة التونسية في بدايتها. وتحديدا احد اعمدة كلية الآداب والعلوم الانسانية في شارع تسعة افريل .. ثم كلية العلوم الانسانية بمنوبة .. وكليات صفاقس .. والقيروان. ذاب حبا في الادب التونسي واعلى شانه في فترة كان هذا الادب درجة ثانية في الذهنية التونسية العامة .. وحتى في اوساط المثقفين والأدباء انفسهم. وأعطاه المكانة التي يستحقها وساهم بقوة في اقحامه في البرامج التعليمية والدراسية في الجامعة. وشارك في تشجيع طلبة الدكتوراه على اختيار الادب التونسي كما شجع عددا من طلبته على الكتابة ومتابعتهم بالنصيحة والرأي والنقد. وقد وجه الطلبة الى ان يكونوا حداثيين لا فقط بدراسة الادب الحديث والمعاصر بل بالتشبع بالحداثة والعمل على ترويجها وتعميقها في كتابتهم وغرسها في ابداعاتهم والنزول بها الى معترك الحياة الادبية والثقافية. وقد برز بتشجيع ظهور الطليعة الادبية في تونس والدفاع عنها وعن مكتسباتها وعناصرها ... ودعمهم في الجامعة وفي الاعلام وفي المجلات ... وعرف بعدد منهم وساهم بوضوح في ان يكونوا من ابرز الفاعلين على الساحة الادبية.

وقد تكون على يديه في النقد والأدب عدد من ابرز الاساتذة الجامعيين والنقاد الاكاديميين كلهم نزلوا ساحة الوغى. اي انهم لم يلتزموا حدود الجامعة .. بل عملوا مثل استاذهم على ازالة الحواجز الاصطناعية بين الجامعة والشارع الثقافي وبالتالي اصبحوا رموزا كبيرة في الادب والنقد لا في تونس فقط بل في البلاد العربية .. ولا بصفتهم اكاديميين فقط بل بصفتهم مبدعين في النقد فاعلين في الابداع مؤثرين في الحركات الادبية .

ونذكر من هؤلاء الاساتذة مما يسمى الجيل الثاني اي جاؤوا بعد المؤسسين وتخرجوا من الجامعة التونسية الاساتذة محمود طرشونة .. ومحمد صالح بن عمر وحمادي صمود والراحل الطاهر الهمامي الذي اعد اطروحة دكتوراه المرحلة الثالثة حول الطليعة الادبية وهو امر لم يحدث في اي جامعة عربية حيث يتم البحث على مستوى الدكتوراه في ابداعات مجموعة من الشبان ربما تجربتهم لم تكتمل بعد. وقد نجحت التجربة؛ وكتاب الطاهر الهمامي في هذا الامر يعتبر اليوم المرجع الذي يتميز بالدقة والشمولية بل هو المرجع «الثقة» الوحيد حول الطليعة. كما نذكر من الاساتذة المتأثرين بالراحل توفيق بكار محمد القاضي والمنصف الوهايبي … وغيرهم كثير. وللعلم ايضا ان هناك عددا من المبدعين الذين لم ينالوا شهائد علمية من الجامعة التونسية ونالوا حظوة كبيرة لدى توفيق بكار. نذكر من بينهم عزالدين المدني وسمير العيادي والناقد احمد الحاذق العرف .

كما كان يكن تقديرا خاصا بالنقد السيار في الصحف فشكر علنا وفي مداخلاته الدور الذي لعبته شخصيا على الساحة الادبية. ونذكر بهذه المناسبة ان الراحل توفيق بكار لم يعمل بمفرده في كل ما قام به لفائدة الادب التونسي، بل كان فاعلا مع الراحل صالح القرمادي و المنجي الشملي والبشير بن سلامة وفي البدايات مع الشاذلي الفيتوري ومحمد عزيزة دون ان ننسى دور مجلة الفكر… ومجلة «التجديد» والملحق الثقافي لجريدة العمل ومجلة «ثقافة» التي اصدرتها دار الثقافة ابن خلدون ودورها في احتضان الادب الحديث والتركيز على الطليعة الادبية ودعم توفيق بكار ..ومحمد صالح بن عمر .. وعزالدين المدني وغيرهم في فترة كان فيها الادب الكلاسيكي مسيطرا. ورغم اهميته كانت تنقصه الجرأة في احداث الحركية الواسعة والإثارة والنقد السياسي ومواجهة المجتمع. وتبني الحداثة والحركات الادبية مثل الطليعة .

والى جانب مؤلفاته المشتركة مع صالح القرمادي ودراساته في القصة والرواية والشعر والنقد ادار توفيق بكار سلسلة «عيون المعاصرة» التي تصدر عن دار الجنوب لصاحبها الراحل محمد المصمودي. وهي اهم سلسلة ادبية في تونس؛ اخرجت للناس روايات من افضل ما ابدع الكتاب التونسيون. كما اخرجت هذه الدار في سلسلة «عودة النص» تحت اشراف الراحل مجموعة نصوص متميزة من الادب المغاربي الصادر باللغة الفرنسية مترجمة الى اللغة العربية. وقد ينسى الكثير من المهتمين بالأدب ان الراحل توفيق بكار اشرف على تنشيط ناد ادبي في المركز الثقافي البلدي بشارع محمد الخامس. وقد تمت ازالة هذا المركز لإضافة مساحته الى مدينة الثقافة التي لم تزف نفسها بعد للحياة الثقافية. وهذا النادي الذي كنت اتابع جل انشطته تولى تقديم عدد من الادباء التونسيين من الساردين والشعراء …مع التركيز على الاحياء منهم؛ ومن موضوعية هذا الرجل انه لم يفضل كاتبا على اخر بسبب انتمائهم الفكري او السياسي او بسبب جهاتهم .

كان ذلك في نهاية الثمانينيات فقد عرف بمحمد صالح الجابري، ومحمد العروسي المطوي، ورضوان الكوني والطاهر الهمامي والمنجي الشملي وعزالدين المدني ومصطفى الفارسي وعلى ما اعتقد ايضا عرف بعبدالواحد براهم وسمير العيادي .. ومن اطرف ما اذكره ان اخر حصة تنشيطية ضمن هذه السلسلة كانت للتعريف بالشاعر احمد اللغماني الذي تفرغ في مدح بورقيبة او كاد. وقد مدحه بقصائد اعتبرها شخصيا كبيرة؛ ولا تقل قوة عن بعض قصائد المتنبي في مدح سيف الدولة. وكان ذلك يوم الجمعة خمسة نوفمبر 1987 وقمت بكتابة نقل موسع عن هذه الجلسة الخاصة بأحمد اللغماني والتي تجاوز فيها الباحثون الحديث عن اللغماني للحديث عن بورقيبة مع تعظيمه بشكل زائد عن اللزوم لإيجاد صيغة ما دفاعا عن هذه المدحيات. ونشرت المقال في جريدة الصباح يوم سبعة نوفمبر … وكان زين العابدين بن علي فجر ذلك اليوم قد ازاح بورقيبة من الحكم. واعتقد ان لا احد اهتم بهذا المقال …فقد كانت تونس كلها مركزة على الانقلاب وعلى بيان بن علي … كما كانت المتابعات عالمية … وعلى كل يبقى المقال وثيقة مهمة عن هذا الحدث الادبي الذي يبرز احمد اللغماني، لكنه ايضا يقدم درسا في الموضوعية الادبية التي كان يتحلى بها الراحل توفيق بكار الذي لم يكن ينتصر لنظام بورقيبة، إلا انه لم يحرم احمد اللغمامي من نقد ابداعاته وتحليل شعره ولو كان مدحا .

وما انهي به هذه المقالة التي تواصلت مفتوحة على العموم لعدة ساعات قبل ان اقرا لقطة من الذاكرة من حياة الراحل هي مهمة جدا ومؤلمة ايضا كتبتها في صفحتها الباحثة زهرة الجلاصي. تذكرتها معها .. ففي نهاية الثمانينيات بلغ الراحل سن التقاعد؛ فتقدم بطلب التمديد له لانه يحس بأنه لم ينه رحلته مع الجامعة ومع الطلبة ومع الادب التونسي الذي احبه حد الفناء فيه. إلا ان عميد كلية الآداب رفض التمديد له. فنشرت جريدة الصباح افتتاحيتها بقلم عبداللطيف الفراتي طالبت فيه وزارة التعليم العالي التمديد له مع ذكر اسمه في هذه الافتتاحية .. وهو امر لم يحدث من جريدة الصباح على الاطلاق .

فالافتتاحيات لا تتناول إلا المواضيع العامة والقضايا ذات البعد الوطني او القومي او العالمي او الانساني اما ان تكون خاصة بموضوع من هذا القبيل فلم يحدث على الاطلاق. بل ان الجريدة لم يحدث ان تحدثت عن قضية شخصية .. وحدث ان كتبت اذن عن تقاعد توفيق بكار واعتبرت تقاعده اذا ما وافقت عليه وزارة التعليم العالي خطأ فادحا .. ولا بد من ايجاد حل لتقاعد الشخصيات الفكرية والأدبية والعلمية في حجم توفيق بكار. والغريب ان الوزارة لم تتخذ اي اجراء لإنقاذ ماء وجهها .وكانت النتيجة فضيحة بأتم معنى الكلمة اذ سافر توفيق بكار الى فرنسا .. ووجد في انتظاره عقد عمل بصفة استاذ متعاون .. وكان العقد مجزيا ماديا .. ودرس بكار اذن في كلية فرنسية لعدة سنوات. إلا انه ابدا لم يبتعد عن الادب التونسي لأنه يحس انه جزء منه. وأصبح الحديث عن الادب التونسي الحديث والمعاصر لا يمكن ان يتم دون الحديث عن توفيق بكار.

رحمه الله!