أنّ قدرة بكّار على استيعاب هذه النظريّات وإعادة استغلالها في قراءة نصوص عربيّة لم تكن مجرّد تعبير عن مهارة معرفيّة وقدرة بيداغوجيّة في التبسيط والإجراء النقديّ. فلولا ثقافته الواسعة بالأدب ومذاهبه وبالفنون المختلفة وتطوّراتها ومعرفته العميقة بالتيّارات الجماليّة والفنيّة والفلسفيّة لما أمكنه أن يرى في النصوص ما لم يره غيره.

وداعاً توفيق بكّار.. عرَّاب النقد الأدبي التونسي

شكري المبخوت

للنقد الأدبيّ نجومه أيضاً. واليوم (24 أفريل 2017 ) أفل نجم النقد في تونس توفيق بكّار عن سنّ التسعين (ولد في تونس سنة 1927). وما إن ذاع الخبر حتّى امتلأت الشبكة الاجتماعيّة بكتابات طلبته التي وصفته بالمعلّم وأستاذ الأجيال ورولان بارط تونس. والواقع، أنّ هذه الصفات وغيرها تنطبق على توفيق بكّار تماماً. فقد كان مدرّساً جامعيّاً أثّر تأثيراً كبيراً في طلبته منذ أن وجدوا في دروسه أواخر الستّينات ما لم يجدوه في الخطاب الأكاديميّ السائد آنذاك.

فقد استفاد، أيّما استفادة، من تكوينه المتين في الفرنسيّة ودراسته بالسوربون، مثل أبناء جيله جميعاً من مؤسّسي الجامعة التونسيّة سنة 1966، ولكنّه تجاوز ذلك ليطّلع على ما كان يدور في فرنسا الستينات من تيارات نقديّة وجدل ثقافيّ ثريّ. فعمل على نقل الأفكار الجديدة إلى طلبته في تونس، نقل العارف المدقّق بأصولها وخلفيّاتها، مؤسّساً بذلك اختصاصاً جديداً في الجامعة التونسيّة هو "مناهج النقد الحديث".

ولكنّ إضافة بكّار الحقيقيّة في هذا الباب لم تقتصر على نقل المعرفة بصفة متزامنة تقريباً سدّاً للفجوة التي كانت تعيشها المعرفة النقديّة العربيّة مقارنة بالمعرفة النقديّة في الغرب بل تكمن إضافته في الرغبة عن الاستهلاك دون المشاركة في الإنتاج. واتّخذ هذا الإنتاج النقديّ صيغة مناسبة تماماً للمقام الجامعيّ في تونس. إذ كانت العناية بتوظيف هذه المناهج وتطبيقها على نصوص من جواهر الأدب القديم والجيّد من الأدب الحديث، نثراً وشعراً، لا تقلّ أهميّة عنده عن التعرّف على جليل المفاهيم ودقيق النظريّات وطريف المناهج. وبذلك استطاع توفيق بكار في جوّ من المحافظة الأكاديميّة الغالبة أن يقنع المعارضين والمستنكرين بأنّ العلم الجديد الذي يستدعي أدواته ومناهجه قادر على إخصاب نظرتنا إلى الأدب العربيّ وإبراز وجوه قوّته وجماله على نحو مقنع.

تجاوز المعرفة الاستشراقية:
والمفارقة أنّ توفيق بكّار كان قد حصل في أواخر الخمسينات على التبريز في اللغة العربيّة وآدابها من السوربون. فكان تكوينه الأساسيّ على أيدي المستشرقين الفرنسيّين. وهم كما نعلم أبعد الناس عن المقاربات الجديدة للأدب بل يمثّلون بتقاليد الاستشراق الفرنسي الراسخة التصوّرات الكلاسيكيّة لدراسة النصوص العربيّة القديمة. لكنّ بكّار وإن أفاد من هذا الاستشراق حرصه على التدقيق والتحقيق فقد كان مدفوعاً برغبته في التجديد وروحه الثوريّة ومعرفته الفلسفيّة إلى تجاوز هذه المعرفة الاستشراقيّة والدخول في مغامرة استنبات المفاهيم الجديدة البنيويّة والشعريّة (جاكوبسون وتودوروف) والنصّانيّة (بارط) والبنيويّة التوليديّة (غولدمان) في تربة الثقافة النقديّة العربيّة مختبراً مفاهيمها في نصوص عربيّة جدّد النظر إليها كاشفاً عن جماليّاتها.

والحقّ أنّ قدرة بكّار على استيعاب هذه النظريّات وإعادة استغلالها في قراءة نصوص عربيّة لم تكن مجرّد تعبير عن مهارة معرفيّة وقدرة بيداغوجيّة في التبسيط والإجراء النقديّ. فلولا ثقافته الواسعة بالأدب ومذاهبه وبالفنون المختلفة وتطوّراتها ومعرفته العميقة بالتيّارات الجماليّة والفنيّة والفلسفيّة لما أمكنه أن يرى في النصوص ما لم يره غيره. فقد تربّى في وسط ثقافيّ فرنكوفونيّ متّصل بما يعتمل في الثقافة الفرنسيّة والعالميّة عبر ما ينقل إليها من كتابات. واختار منذ شبابه الفلسفة الماركسيّة مرجعيّة فكريّة فانتمى إلى الحزب الشيوعي التونسيّ قبل أن ينشقّ عنه ليصبح مثقّفاً يساريّاً مستقلاًّ.

بيد أنّ تجربته السياسيّة التقدّميّة تلك خلقت لديه روحاً منفتحة علاوة على ما أكسبته من حسّ نقديّ. وهو ما برز بالخصوص في دوره من خلال المنابر الثقافيّة والجامعيّة المختلفة صحبة رفيق دربه صالح القرماديّ. فحين يذكر أحدهما يذكر الآخر على اعتبار القرماديّ رائداً للبحث اللسانيّ الحديث في الجامعة التونسيّة، وبكّار رائد النقد المجدّد فيها. فلم يكن الانتماء الفكريّ لليسار مجرّد موضة اقتضاها العصر بل هو إيمان عميق بالعلم والتقدّم والعدالة الاجتماعيّة. لذلك جدّد بكار ورفيقه القرمادي في التدريس والبحث الجامعيّين مثلما وقفا مع طلبتهما للدفاع عنهم ضدّ هجمات السلطة وقمعها للتحرّكات الطلابيّة. فكثيراً ما توسّط بين الطلبة والسلطة الحاكمة لتهدئة الأجواء وتمكين الطلبة من حريّاتهم في الحرم الجامعيّ. إذ كان لبكّار صوت مسموع بحكم مكانته الثقافيّة والعلميّة واحترام زملائه له، خصوصاً من كانوا منتمين للحزب الحاكم ومن ذوي النفوذ فبعضهم كان من وزراء بورقيبة.

ملامح إفرنجية:
وتثير شخصيّة توفيق بكّار الفضول من نواح عديدة. فهذا المتحدر من أحد أحياء تونس الشعبيّة (الحلفاوين وباب العسل) ذو الملامح الإفرنجيّة بعينيه الزرقاوين وشعره المصفرّ ظلّ يجمع إلى آخر أيّامه بين رصانة الباحث الجامعيّ وأريحيّة ابن الحيّ الذي لا يتورّع عن مخالطة أصناف عديدة من الناس. لذلك كان بكّار يحظى باحترام استثنائيّ نادر لدى عموم المثقّفين والأدباء التونسيّين من مختلف المشارب والتوجّهات. فقد برهن خلال مسيرته الجامعيّة على اهتمام بالغ ببناء الذاكرة الأدبيّة والثقافيّة التونسيّة. فهو أوّل من درّس الدوعاجي والبشير خريّف ومحمود المسعدي وعزّ الدين المدني وغيرهم من الأدباء الذين كانت المؤسّسة الجامعيّة تستنكف من تدريسهم باسم تقليد قديم يربط تدريس الأديب باكتمال مدوّنته وهي مدوّنة لا تكتمل إلاّ بعد مفارقته الحياة.

ولكنّ لبكّار الفضل أيضاً في التقريب بين الجامعة والساحة الثقافيّة التونسيّة. فقد أشرف لسنوات طويلة على سلسلة من اللقاءات التي تناولت تجارب الشعراء والقصّاصين والروائيّين والكتّاب والتشكيليّين التونسيّين. وهي لقاءات كان يشارك فيها المبدعون والجامعيّون جنباً إلى جنب بما أوجد، علاوة على الحركيّة الثقافيّة، نوعاً من الثقة والتقارب بين أصحاب المعرفة الأكاديميّة وذوي التجربة الأدبيّة. ويبدو أنّ بكّار هو الوحيد الذي استطاع أن يفعل ذلك لما يحظى به من قبول كلّ الفاعلين الثقافيّين له.

عيون المعاصرة:
بيد أنّ هذا القبول والثقة لم يكونا نابعين من شخص الرجل فحسب بل من أعماله بالخصوص. فهو من ضمن مجموعة من الجامعيّين الشبّان الذين أسّسوا مجلّة "التجديد" في الستينات من القرن المنصرم تحدوهم رغبة في الفعل الثقافيّ الجادّ. وهو مؤسّس سلسلة "عيون المعاصرة" التي ظلّت دار الجنوب تصدرها منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم. حتّى أضحت في فترة ما عنواناً جامعاً لمدوّنة أجمل الروايات العربيّة وأجودها.

وقد غامر توفيق بكّار في بداية التسعينات، إيماناً منه بضرورة فك الحصار على الفعل الثقافيّ، بوضع اسمه على ملحق ثقافيّ أسبوعيّ على سبيل الإشراف الرمزيّ. فقد كان يعلم أنّ دكتاتوريّة بن عليّ قد بدأت تضيّق الخناق على حريّة التعبير وشرعت في تهميش المثقّفين فلم يتردّد في أن يقتحم مع الصحافيّ والروائيّ، حسن بن عثمان، إحدى الصحف الحكوميّة. فصدرت في هذا الملحق مقالات من الهامش في قلب قلعة من قلاع بن عليّ الإعلاميّة. ورغم وجود ضمانة اسم توفيق بكّار فإنّ الطوق كان محكماً إلى أن أوقف البوليس الثقافيّ والإعلاميّ الذي كان منتشراً في تلك الصحيفة الحكوميّة الملحقَ بمؤامرات دنيئة.

وكلّ من قرأ كتابات توفيق بكّار سيجد تحاليل دقيقة فاتنة لنصوص أدبيّة اختارها بعناية العارف المتذوّق والخبير ذي الحسّ الجماليّ الرفيع. وقد جمع أغلبها في سلسلة من الكتب (قصصيات عربيّة وشعريّات عربيّة). ولكنّ تحاليل بكّار ومقالاته أكثر تنوّعاً. فله في الفنّ التشكيليّ كتابات تكشف عن ثقافيّة متينة وحسّ مرهف وله آراء في الثقافة العربيّة ومآزقها تدعو إلى التفكير والتأمّل. ولكنّه كان في كتاباته كلّها بالعربيّة والفرنسيّة على حدّ السواء صاحب أسلوب فاتن يرتقي به إلى أعلى درجات الجماليّة المميّزة لكبار كتّاب المقال. وهو أسلوب يجمع إلى سحر العبارة ومتانة الصياغة حداثة التفكير وتطويع اللغة لأداء أدق المفاهيم في غير عجمة ولا تكلّف. ولم يجانب الصواب من شبّهه من طلبته برولان بارط، ففي نصوصه استكشاف لمواطن الجمال والجودة بعبارة منتقاة سلسة تضمر معرفة وعلماً ثابتين.

ولئن كان العزاء في العادة هو في من خلّفهم المعلّم وأستاذ الأجيال فإنّ هذه العبارة لا تنطبق على توفيق بكّار. فقد كان رجلاً ذا أسلوب فريد مميّز غير قابل للتعليم والنقل والتوريث. وفي هذا بعض ما يفسّر الحرقة التي يشعر بها أهل الثقافة في تونس بفقد توفيق بكّار.