نقدم هنا نموذجا ناصعا من كتابات الراحل الكبير في تحليل النصوص الشعرية التراثية وفق المناهج النقدية الحديثة بالطريقة التي يحاور فيها المنهج النص وفق علاقة جدلية تضيئهما معا، وكيف كان يسعى إلى جعل النص التراثي قريبا منا وقادرا على التعامل مع القارئ المعاصر.

المنهج الجدلي في تحليل النصوص

تحليل قصيدة المغتسلة لأبي نواس

جدليّة الانكشاف والاحتجاب

توفـيـق بكّار

«لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياساً ما وأن تصفها وصفاً مجملاً وتقول فيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلام وتعدها واحدة وتسميها وتكون معرفتك معرفة الصانع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الابريسم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجرة من الآجر الذي في البناء البديع: وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر وطلبتها هذا المطلب احتجت إلى صبر على التأمل ومواظبة على التدبر وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام وأن تربع إلا بعد بلوغ الغاية» (عبد القاهر الجرجاني)

«لا يمكن لأي بيان يفصل ما يختص ناقد ما من الذوق والرأي في الأدب أن يقوم مقام التحليل العلمي الموضوعي لفن الكلام». (رومان جاكوبسن)

(1) النص:
نضت عنها القميص لصب ماء فورّد وجهها فرط الحياء

وقابلت الهواء وقد تعرّت بمعتدل أرق من الهواء

ومدت راحـة كالمـاء منها إلى مـاء معـد في إناء

فلما أن قضت وطراً وهمَّت على عجل إلى أخذ الرداء

رأت شخص الرقيب على التداني فأسبلت الظلام على الضياء

فغاب الصبح منها تحت ليل وظل الماء يقطر فوق ماء

فسبحان الإله وقـد براهـا كأحسن ما يكون من النساء

(أبو نواس – الديوان)

يعرف هذا النص في الكتب المدرسية باسم «المغتسلة» وليس هذا الاسم جزءاً أصيلاً من القصيدة وإنما هو عنوان وضعه لها –اجتهاداً – بعض “المنتقين” فحد لضيق الفهم أو الأخلاق من آفاق معانيها.

(2) المدخل:
يعد هذا الشعر سبعة أبيات فهو في عرف النقد العربي القديم مقطوعة عند فريق وقصيدة عند فريق آخر ويخضع تأليفه لقاعدة “الوحدات الثلاث” التي كانت تتحكم في النظم الكلاسيكي: – وحدة البحر: وهو الوافر هنا وقياسه: مفاعلتن مفاعلتن فعولن في الصدر والعجز. – وحدة القافية: وقد وردت مركبة، أجزاؤها: حرف الروي: وحركة المجرى: كسرة وحرف الردف ا وحركة الحذو: فتحة ومجموعها اَ وهي النغمة التي يجب أن يقفل بها كل بيتَ. – وحدة البناء: في شكل عمودي ينفي مبدئياً كل هندسة مقطعية. إن اتفاق الأبيات في هذه الخصائص الفنية –بمقتضى المصطلح –قد يوهم بأن القصيدة كل متشابه شكلياً وليس الأمر كذلك لأن وراء ظاهر الشكل الرتيب تنويعاً دقيقاً يبرزه التحليل.

(3) التحليل:
ثَمَّ منطق آخر غير المصطلح الفني وألطف منه يتحكم في توزيع الأبيات عبر القصيدة ومبدؤه الائتلاف أو الاختلاف المنتظم بين كافة مظاهرها الشكلية.

أ- الأبنية الشكلية:
التركيب الثلاثي: صرفياً:
الكلمات المقفاة في سائر الأبيات معرفة إلا في البيتين 3: “إناء” و6: “ماء”. فقد رتبت بحيث تخرج من التعريف إلى التنكير دورياً إذ يعود التغيير بانتظام بعد كل بيتين ويطرد إلى البيت 7 وثم ينقطع. – صوتياً: ويدعم هذا التضاد الصرفي معرفة/ نكرة بين الكلمات المقفاة تقابل صوتي يخص الحركة السابقة للحذو فهي فتحة في البيتين 1 و2: “الحياء”، “الهواء” فتنقلب كسرة في البيت 3: “إناء” وهي كسرة في البيتين 4 و5: “الرداء”، “الضياء” فتنقلب فتحة في البيت 6: “فوق ماء” ثم تعود كسرة في البيت 7: “النساء”. -بين الكلمتين النكرتين: “إناء” و”ماء” –علاوة على اتحادهما وجوباً بين أجزاء القافية –جناس واضح ناتج عن قرب النون من الميم في المخرج واشتراكهما في صفة الخيشومية. بل يتسع هذا الجناس للكلمة التي تسبق في السياق كلا منهما: “في إناء”، “فوق ماء” لاتفاقهما في حرف الفاء. – فاختصاص هاتين العبارتين بتلك السمات الصرفية والصوتية يجعلهما شبه قافية جديدة أطول من القافية الرسمية وأثرى نغماً. وتصبح هذه القافية الجديدة لموقعها في القصيدة كاللازمة الشعرية ترجع دورياً في مسافة متساوية. فهي مثل القفل تنغلق به الأبيات ثلاثة ثلاثة.

وهكذا يكشف البناء العمودي –في داخله –عن تركيب مقطعي: ثلاثي 1+ ثلاثي 2+ بيت 7 (بداية ثلاثي آخر) ([1]) وتنبني العلاقة بين هذه الأقسام في المستويات الشكلية على مبدأ مزدوج: إعادة من جهة وتغيير من جهة أخرى. 1- الإعادة: – نحوياً: -تندمج الكلمات المقفاة في أشكال جزئية تتابع عبر كل من الثلاثين حسب نظام واحد: ث1: إضافة –جار ومجرور –جار ومجرور: “فرط الحياء” – “من الهواء” –”في إناء” ث2: إضافة –جار ومجرور –جار ومجرور “أخذ الرداء” –”على الضياء” – “فوق ماء” بين بـ 1 من ث وب2 من ث2 توازن تام في صيغة البناء النحوي على أساس علاقة سببية بين جملتين تحتل كل منهما شطراً من البيت: نضت عنها القميص لصب ماء فورد وجهها فرط الحياة رأت شخص الرقيب على التداني فأسبلت الظلام على الضياءب7 يردد وفي موضع مشابه الجملة الاعتراضية الموجودة في ب2 من ث1: “وقد تعرت” “وقد براها”. – معجمياً: من حيث المرجع الدلالي وزعت الكلمات المقفلة في كل من الثلاثين حسب ترتيب واحد: ث1 [… “الحياء”= مجتمع … “الهواء”= طبيعة … “إناء”= مجتمع ث2 [… “الرداء”= مجتمع … “الضياء”= طبيعة … “ماء”= مجتمع (إذ الماء هنا بديل من “الحياء “كقولنا” ماء الوجه أو “ماء الحياء” وهو من معان الكلمة في هذا الموضع في القصيدة).

تبدو الطبيعة – في كل مرة – كالمنحصرة داخل فضاء يحده المجتمع فيوحي الترتيب بجدلية ممكنة بين الطرفين.ب7 “ ”النساء”= طبيعة‏ و‏مجتمع‏* لعل المرأة وقد جمعت النقيضين تكون صورة الجدلية بينهما.‏– عروضياً:‏ – ب1 من ث2 –يعيد – من حيث خصائص الوزن – النسق العروضي الخاص بـ ب1 من ث1.‏ مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن‏ -عجز ب2 من ث2 يكرر النسق العروضي الخاص بـ ب 2 من ث 1.‏ // مفاعلتن مفاعلتن فعولن صدر ب3 من ث2 يردد النسق العروضي الخاص بـ ب 3 من ث2.‏ مفاعيلن مفاعيلن فعولن //‏ – صدر ب7 يكرر التفعلية الخاصة بصدر ب1 من ث2 الذي يكرر بدوره تفعيلة ب1 من ث1.‏– صوتياً:‏ – ث 2 يضج بأصداء ترجع أصوات ث2 وتمتد إلى ب7:‏ “نضت” “قضت”‏ “لصب” “الصبح “سبحان”‏ “ورد” “الرداء”‏ “قابلت” “أسبلت”‏ “أرق” “الرقيب”‏ “عنها” + “وجهها” + “الهواء” + “الهواء” “همت” + “منها” “الإله” + “يراها” “الحياء” + “راحة” “الصبح” “سبحان” + “أحسن” “الرماء” “فلما ان” “ما” (يكون).‏– بلاغياً:‏ – ث يعيد ث1 من حيث توزيع الصور الخيالية:‏ ث1:‏ ب1= حقيقة‏ ب2 + ب3= مجاز‏ ث2:‏ ب1= حقيقة‏ ب2 + ب3= مجاز‏ ب7= حقيقة‏ – تعمل “الصور الخيالية” في ث1 وث2 على إقرار نسبة واحدة بين المرأة من ناحية والطبيعة من ناحية أخرى:‏ ث1 “أرق من الهواء –”كالماء”.‏ ث2: “الظلام على الضياء” –”الصبح تحت ليل” –”الماء فوق ماء”.‏ ص7.

حدثياً:‏ يضطلع المجتمع بنفس الدور: في ث1:‏ يعترض المجتمع في صورة “الحياء” على حركة المرأة في ث2: يعترض المجتمع في شخص “الرقيب” على حركة المرأة.‏ فسائر مظاهر الترديد هذه تجعل أقسام القصيدة ولا سيما ث1 وث2 تعيد نفسها في دائرة مقفلة فيصبح نظام القصيدة مغلقاً.‏ولكننا نجد في الوقت نفسه مظاهر أخرى تفيد التنويع أو التغيير لا التكرار والتطور لا الإعادة.‏2- التغيير:‏ – نحوياً:‏ – في ث1 الجمل الأساسية وكلها فعلية – مؤلفة حسب مبدأ التوازي بينها كما يدل على ذلك واو العطف، “قضت”.. “وقابلت”… “ومدت…” ويبلغ هذا التوازي أقصاه في الجملتين الثانية والثالثة وكلتاهما تستغرق بيتاً كاملاً: ب2 ب3 ويتجسم في التطابق شبه التام بين أقسام النحو.‏ ب2 فعل مفعول به + حال //‏ جار ومجرور + صفة + جار ومجرور ب3 فعل + مفعول به + صفة //‏ جار ومجرور + صفة + جار ومجرور‏* من حيث التركيب تعيد الأبيات بعضها جزئياً أو كلياً وهذا ما يدعم وحدة الثلاثي الأول.‏ – في ث2 الجمل وكلها فعلية مؤلفة حسب مبدأ الانعكاس:‏ التركيب الأساسي ظرفي تلازمي وهو يستوفي النصف الأول من الثلاثي: الطرف الأول جملتان معطوفتان بالواو تمتدان على طول ب1 والطرف الثاني جملة واحدة تستوعب الشطر الأول من ب2:‏ فلما أن قضت… وهمت رأت والتركيب الفرعي استنتاجي يستوفي النصف الثاني من الثلاثي: السبب جملة واحدة تستوعب الشطر الثاني من ب 2 والنتيجة جملتان معطوفتان بالواو وتمتدان على طول 3:‏ فأسبلت فغاب.. وظل.‏

من حيث التركيب النصف الثاني من الثلاثي يعيد النصف الأول معكوساً وهذا ما يؤكد وحدة الثلاثي الثاني.‏ – ب 7 يختلف نحوياً عن ث1 وث2 من حيث أنه جملة اسمية في مقابل سلسلة من الجمل الفعلية.‏– صرفياً:‏ في ث1 الكلمات المقفاة المعرفة مبدوءة بحروف قمرية: “الحياء” و”الهواء” وفي ث2 الكلمات المقفاة المعرفة مبدوءة بحروف شمسية “الرداء” و”الضياء”.‏ * التضاد بين القمريات والشمسيات “يحيل –من جهة التسمية المجازية –على اختلاف الظلام والضياء ومن جهة الدلالة الاصطلاحية –على تباين الظهور والاختفاء ظهور لام التعريف واختفائها. وهي صورة صرفية محض من جدلية الانكشاف والاحتجاب.‏ وفي ب7 تختلف الكلمة المقفاة “النساء” عن مثيلاتها في ث1 وث2 من حيث الجنس:‏ مؤنث # مذكر، والعدد:‏ جمع # مفرد.‏– معجمياً:‏ في ث2 وردت الكلمات المقفاة –باعتبار أقسام دلالتها –على عكس ترتيبها في ب1‏ ث1 [… “الحياء”= قيمة أخلاقية‏ … “الهواء”= عنصر كوني‏ … “إناء”= شيء مصنوع‏ … “الرداء”= شيء مصنوع‏ ث2 [… “الضياء”= عنصر كوني‏ … “ماء” قيمة أخلاقية‏ (الحياء)‏ تحد الأخلاق نظام القوافي –معجمياً – من طرفيه البداية والنهاية كأنما تصوغ للمعاني سياجاً من “الحياء”.‏ في ب7 تختلف الكلمة المقفاة “النساء” عن سابقاتها في ث1 ث2 من حيث الطبيعة:‏ عاقل # غير عاقل.‏– صوتياً:‏ – الحركة السابقة لحذو الردف تتغير فيما بين ث1 وث2.‏ ث1: فتحة في المعرفتين # ث2 كسرة في المعرفتين ث1:‏ كسرة في النكرة # ث2 فتحة مع النكرة.‏– عروضياً:‏ – في ث1 لا يختلف النسق العروضي في العجز عنه في الصدر إلا في ب1 وفي ث2 يختلف النسق العروضي في العجز عنه في الصدر داخل كل بيت.‏ – ث1 تتسق التفعيلة بين الشطرين في:‏ ب2:‏ مفاعلتن مفاعلتن فعولن //‏ مفاعلتن مفاعلتن فعولن‏ ث3:‏ مفاعيلن مفاعيلن فعولن //‏ مفاعيلن مفاعيلن فعولن‏* بين البيتين تواز من جهة انتظام الوزن يذكر بما لاحظناه بينهما سابقاً من التوازي النحوي.‏ في ث2:‏ يتفق النسق العروضي بين صدر بـ2: مفاعلين مفاعلتن فعولن // وعجز بـ 3:‏ // مفاعيلن مفاعلتن فعولن وتتسق التفعيلة في‏ عجز ب2:‏ // مفاعيلن مفاعلتن فعولن وصدر بـ 3: مفاعيلن مفاعلتن فعولن //‏* بين البيتين انعكاس –يجعل صدر هذا متشابهاً لعجز ذاك تارة في نوع التفعيلة وتارة في انتظامها ويردنا هذا إلى ما سجلناه قبل من انعكاس الأبنية النحوية في ث2.‏– بلاغياً:‏ – يتطور نوع الصور الخيالية من المقارنة بالتفضيل: “أرق” أو التشبيه:‏ “كالماء” في ث2 إلى المطابقة بواسطة الاستعارة:‏ “الظلام” –”الضياء”، “الصبح” –”الليل” –”الماء” في ث2.‏ – تتحول ألوان المرأة من ثنائية الحمرة والبياض الشفاف في ث1: “ورد” # “الهواء” و”الماء” إلى ثنائية البياض الشفاف والسواد الحالك في ث2 “الظلام” # “الضياء” –”الليل” # “الصبح” و”الماء”.‏– حدثيَّاً:‏ – فيما بين ث1 وث2‏ – تنعكس حركة المرأة: كانت تتجه من إلى التعري فأصبحت تتجه من العري إلى الارتداء.‏ – وينقلب موقف المجتمع من الاعتراض على المرأة إذ تعرت: “الحياء” إلى الاعتراض عليها إذ همت بأخذ الرداء: “الرقيب”.‏ – في ب7 تنقطع حركة المرأة –أفقياً –بين الطبيعة والمجتمع فتعوضها حركة الشاعر –عمودياً –بين الأرض والسماء:‏ “الإله”.‏ + كل أنواع الاختلاف هذه تحدث في شكل القصيدة حركة تغيير تعاكس ظاهرة التكرار وتنزع بنظام القصيدة نحو الانفتاح. وهكذا تتردد القصيدة شكلياً بين حركتين دائرية وتطورية وبين نظامين منغلق ومنفتح.

التركيب الثنائي:‏ – هذه القصيدة حكاية صغيرة وتكشف من حيث حكاية عن تركيب ثنائي يجمع بين الثلاثين ويفرق بينهما وبين البيت 7:‏ ث1 وث2: سرد حوادث فهما من الشعر القصصي والشاعر فيهما راو متحجب يصف ما رأى.‏ ب7: تعبير عن ذات فينتمي لذلك إلى الشعر الغنائي والشاعر فيه متكلم ظاهر يترجم عما يحس.‏ – ويؤكد هذه الثنائية الحكائية عدد من الخصائص الشكلية مر ذكرها في التحليل وهي:‏– صرفياً:‏ ث1 وث2: الكلمات المقفاة كلها مذكر مفرد.‏ ب7: الكلمة المقفاة مؤنث جمع.‏– معجمياً:‏ ث1 وث2: الكلمات المقفاة تدل كلها على الأشياء.‏ ب7: الكلمة المقفاة تدل على الإنسان.‏– نحوياً:‏ ث 1 وث2: سلسلة من الجمل الفعلية في الماضي وهو زمن الأحداث.‏ ب7: جملة واحدة اسمية في الحاضر وهو زمن الحديث.‏– حدثياً:‏ ث1 وث2: محوره المرأة تترد بين العري والتستر.‏ ب7: محوره الشاعر بين جمال المخلوق وقدرة الخالق.‏*هكذا فالثلاثيان خبر مكتمل منته منفصل على أحداث ماضية بينهما البيت 7 خطاب لا ينغلق على حدث ماض لأنه هو الحدث وحدث دائم الحضور لا ينتهي. فمن خلال الشكل القصصي أيضاً تبدو تلك الازدواجية المحورية: حركة منقطعة وحركة مستمرة، نظام منغلق ونظام منفتح.‏ب- الأبنية الدلالية:‏ جماع القصيدة سبع حركات مترابطة حسب منطق معين.‏1) منطق التركيب الدلالي:‏ تتوزع الحركات الست الأولى على السواء ثلاثاً ثلاثاً بين ث1 وث2 هيكلاً خبرياً بينها تستقل الحركة الأخيرة بالبيت 7 وتشكل هيكلاً خطابياً.‏1- الهيكل الخبري:‏ بين الحركات الثلاث في كل من ث1 وث2 علاقة جدلية تنطلق من تناقض جوهري بين العري والتستر والإباحة والحياء والطبيعة والمجتمع وتفضي في كل مرة إلى تجاوزها.

ث1:‏ حركة الابتداء:
تتعرى المرأة.‏ الحركة المضادة: يعترض المجتمع على التعري.‏ حركة التجاوز: رغم الاعتراض تمضي المرأة في العري على حال ما.‏ث2:‏ حركة الانتهاء: تعمد المرأة إلى التستر.‏ الحركة المضادة: يعترض المجتمع على التستر.‏ حركة التجاوز: رغم الاعتراض تتستر المرأة على نحوها.‏* في آخر ث1 ينقطع تسلسل الحركات بسكوت النص عن حقيقة “الاغتسال” وفي أول ث2 ينعكس اتجاه الحركة، كان من التستر إلى العرض فصار من العري إلى التستر: “ذهاب وإياب” بين عالمين: مجتمع وطبيعة.‏2-الهيكل الخطابي:‏ب7: تجاوز التجاوز: يؤول التناقض إلى الانسجام بالتئام سائر الأطراف المتنافرة في حدة عليا: لا نهاية حسن المرأة من حيث هو معنى من معاني الخلق الإلهي.‏2- الأبعاد الدلالية:‏1- حركة الابتداء:‏ تدشن القصيدة وتتشكل –حالاً –على هيئة تقابل أساسي.‏– أطرافه:‏ فعلان: “نضت” # “صب”.‏ يحقق الأول انفصالاً ويهيئ الثاني اتصالاً تلوح بوادره في الأفق. على أن لمعنى “صب” من العمومية ما معه حقيقة “العملية” غامضة: أهي تطهر أم ابتراد؟ أم لعب؟ أم تلذذ؟ أم كل ذلك جميعاً؟ وإن دل “نضت” على التجرد فإن الـ “صب” يوحي بالارتداء بحيث لا يكون العري إلا مرحلة انتقال سريع من زي إلى زي ولحظة عبور بين عالمين.‏ – وحرفان “عن” # “لـ”.‏هذا بُعد يعمق مدى الفراق وذاك نية تجذر معنى اللقاء في عاطفة الرغبة أو غريزة الشهوة أو روحانية الشوق أو في كل ذلك معاً.‏

واسمان: “القميص” # “هاء”.‏ أحدهما شيء مصنوع يحيلنا على مفهوم الحضارة وضوابطها داخل المجتمع والآخر عنصر كوني يردنا إلى معنى الفطرة وطلاقتها في كنف الطبيعة. على أن الطبيعة هنا منقوصة لأن في تنكير الـ “ماء” تبغيضاً لعنصره فهو مبتور، الجزء لا الكل. بذلك يتأكد التحول من عالم إلى آخر ومن ثوب إلى ثوب إذ عما قليل يصير “الماء” “قميصاً” من تنسج الطبيعة تستعيض به المرأة عن القميص الحقيقي من صنع المجتمع وينبئ بهذا التحول من الآن تشابه الحروف عبر الكلمات:‏ “القميص” = “لصب ماء”.‏– موضعه:‏ لا يذكر النص للحدث إطاراً ولكن “الهواء” (أو “النسيم” في بعض الروايات) يوحي بأنه مكان طلق ولعله بستان في دار أو قصر أي طبيعة في مجتمع.‏– محوره:‏ “هي”: امرأة بلا تعريف. تكتم الهوية إذ يتعرى الجسد وفي هذا التناقض بين الاسم (مجتمع) والجسم (طبيعة) صورة أخرى من جدلية الانكشاف والاحتجاب والطبيعة والمجتمع.‏* تنعتق المرأة من قيد المجتمع فتعود إلى طلاقة الفطرة عارية كحواء حتى تجدد –عبر الماء –صلتها بالطبيعة وبذلك تكتسب حركتها دلالة رمزية تتعدى حدود الواقع إلى أبعاد الأسطورة.‏3- الحركة المضادة:‏ على الفور: “ف” يحدث رد الفعل –فتنقلب الوظائف: يصبح الفاعل:‏ “هي” “مفعولاً”: “وجهها” ويصير المفعول:‏ “القميص” أي المجتمع من حيث هو شعار مادي على ظاهر الجسد فاعلاً: “الحياء” أي المجتمع من حيث هو قيمة أخلاقية في باطن النفس.‏ – ويتغير من النقيض إلى النقيض:‏ معنى الفعل: من الكشف “نضت” إلى الكساء “ورد”.‏ وحقيقته: من الكشف الحسي إلى الكساء المعنوي.‏ ومعموله: من الجسد باعتباره قبحاً يفرض المجتمع ستره إلى الوجه باعتباره زينة يجيز المجتمع سفوره.‏

وينعكس الوزن العروضي بضرب من “الإبدال” –بالمعنى اللغوي –بين مفاعيلن ومفاعلتن.‏ما أن خلعت المرأة عن جسدها شعار المجتمع حتى ثار في أعماق وعيها –أولاً وعيها –المجتمع يحتج ويعترض وبادر إلى وجهها يغشيه بحمرة الخجل. وهو عمل تعويضي حاول به أن يتلافى ما فات من طرح الثوب المادي بكساء روحي ومن إباحة العري بحياء التستر هكذا من داخل الضمير يدين المجتمع الجسد إذ انكشف كأن المرأة قد اقترفت إثماً وليس في العري –إذا كان القصد الاغتسال –ما يحتشم منه لأنه فعل شرعي وإنما تورد وجه المرأة لإسرافها –”فرط –في الأخلاق مبالغة في الامتثال لأحكام المجتمع. ولكن الحمرة لا تعلو محياها إلا نمت فيها عن شبهة لأن الجسد –لا محالة–عورة والعورة جنس فتشوب براءة الاغتسال ريبة الجنس وتعكر أخلاط الشهوة خلوص النية. فيظل المعنى متأرجحاً بين الصفاء والكدر: صفاء الضمير وكدر الجسد وتزدوج المرأة من جراء ما تعاني من حدة النزاع داخل ذاتها بين دواعي الروح ودوافع الغريزة ونواهي الأخلاق ومقتضيات الجوارح وإذا هي بين لا عارية ولا مكتسية تماماً بل مكشوفة مستترة وليست طبيعة صرفاً ولا مجتمعاً محضاً وإنما هي مزيج منهما وتعود إلى الظهور من جديد جدلية الانكشاف والاحتجاب والطبيعة والمجتمع في صورة من أبلغ صورها لأن المجتمع إذ رد الفعل قد استعار كساءه .. من الطبيعة فبلون الورد غطى وجه العارية فأينع كأنه زهرة من نور البستان.‏

حركة التجاوز:‏
تتخطى المرأة الاعتراض وهي على تلك الحال من الازدواج قد خلت للمجتمع رأسها وأطلقت للطبيعة جسدها “وقد تعرت” فزال حجاب الثوب وتهيأ اللقاء. عرضت جسدها “قابلت” لـ “الهواء” وهو بديل من الماء وسبيل إليه التقفية بين الاسمين تدل على ذلك والتوازي النحوي والعروضي بين البيتين. كما أن الطباق بين المؤنث: “هي” المرأة والمذكر “هو” الهواء يحول الاتصال إلى شبه وصال بين عاشق ومعشوق. وهل “هاء” المرأة –مكرراً -: “عنها” “وجهها” إلا كـ “هاء” “الهواء” مردداً؟ جناس يوثق العناق بين الاثنين.‏– ولكن الجسد ما كاد ينكشف حتى حذف –أسلوبياً –بحذف الموصوف خلف الصفة: “معتدل” فلا نرى منه إلا صورة مجردة، شكلاً هندسياً محضاً من استقامة الخط وتناسب الأجزاء. فقد خفف الجسد من كثافة المادة ونقى من كل حسية تثير فصار جمالاً صافياً لا جوهر له وما لبث أن انحل في الجو لطافة متناهية: “أرق” فشاع بياضاً شفافاً في الضياء وغاب هواء يكسوه الهواء.‏ وبعد أن “غاص” برهة في لجة الأثير “يستحم” يعود إلى الظهور “راحة” تدنو من المشتهى:‏“مدت” وما هي إلا أن تميهت الكف وترفرفت جدولاً يسيل عبره الجسد: “منها” ماء يسعى إلى ماء. كاف التشبيه تقلب التداني –في المكان –بين اليد والماء إلى تناسب في العنصر، تحول خيالي يوافق تنقل “الميم” من “هدت” إلى “الماء” فإلى “منها”.

فما ينتجه التشبيه من تمازج الصورتين يدعمه الجناس بائتلاف الحروف. يذوب الجسد ماء في الماء كما انحل هواء في الهواء اتحاداً بالطبيعة وفناء فيها وفي كلتا الحالتين يحتجب جسد المرأة عن النظر تحت أردية … المجاز فالتناثر للجسم العاري هو الأسلوب والأسلوب هو الشاعر والشاعر حياء والحياء مجتمع منظر طريف من جدلية الاحتجاب والسفور والمجتمع والطبيعة. على أنها – مرة أخرى –طبيعة مبتورة لأن العنصر مبعض قد قطعته يد الحضارة عن مصدر قوته وحيويته وهذبته بعد “توحش” فدجنته: “معد” وحبسته في وعاء من صنعها: “إناء” فالماء في الإناء كالهواء في البستان والبستان في الدار والتعري في الحياء “والمغتسلة” في أسلوب الشاعر.‏ كل محوي في نفس الوعاء وكل طبيعة في مجتمع وليس أدل على “أسر” هذا لتلك من “سلسلة” الحروف التي تشد “ماء” إلى “إناء” عبر “معدن” ومن ورود اسم الطبيعة –في مواقع القافية –أبدأ بين اسمين من أسماء المجتمع.‏

ويسكت النص كشهرزاد عن الكلام فلا يبوح بسر “العملية” وإنما يوحي بأن “صب الماء” كان كالوصال تسري فيه رعشة رقيقة من الغزل.‏

حركة الانتهاء:
يستأنف القصص بعد انقطاع فيبدأ “الإياب” ويمثل النغمة التي بدأ بها “الذهاب”:‏“قضت” = “نضت” ومثل الوزن العروضي وهو ترجيع يؤكد الرجوع. لقد حققت المرأة شهوتها من الماء سراً تسترها… بلاغة الإيجاز” “قضت” تعبير يلخص كل شيء ولا يصرح بشيء فحسب النص أن لا يوحي بما يحف بالوطر من معاني الغريزة… وأن يسمع وسوسة الماء في “الماءان”. من جديد يحرص الشاعر –المجتمع بأسلوبه الإيحائي على حجب الجسد العاري في لحظة النشوة نشوة العناق مع الماء. وتسرع المرأة يحثها الحياء بمفارقة أحضان الطبيعة إلى قبضة المجتمع فعمدت إلى الثوب تحجب به جسدها المكشوف حتى ينكشف عن وجهها حجاب الخجل. وإذ تبدل لباساً بلباس تتهاتف خلال اللغة الأجراس من “ورد” إلى “الرداء”، ترديد يعبر عن الارتداء. هكذا تظل الأصوات تنسج عبر المسافات علاقات متينة بين العلامات توثق النظام وتعمق أبعاد الدلالة.

الحركة المضادة:‏
بغتة يعترض المجتمع على حركة الانتهاء مثلما اعترض على حركة الابتداء ولكن:‏ انقلب موقفه من حياء يحتج على الإباحة إلى إباحة تحول دون الحياء.‏ – واختلفت طبيعته من رقيب مجازي إلى رقيب حقيقي.‏ وتحول موقفه: كان يرقب من الداخل فصار من الخارج ينظر. ‏وبانقلاب حركة الدلالة تنعكس تراكيب النحو وانساق العروض كما ينعكس ترتيب القوافي من حيث أقسامها الدلالية.‏* وهو رقيب بالنعت والحال إذ حولت الصفة موصوفها إلى مجرد “عينين” كأنما ذاته البصر، “عينين” تدنوان لتتفرجا عن كثب. وهكذا في الوقت الذي تترك فيه المرأة الإباحة لتعود إلى الأخلاق يدع المجتمع الأخلاق ليصبح إباحة فتستمر الجدلية وإن انقلبت الأدوار. تفاجئ المغتسلة المجتمع متلبساً بجريمة اختلاس للنظر إلى جسدها المكشوف فتتلاقى العيون كما تتقابل المرايا تنعكس عليها الصور بلا نهاية: يرى الرقيب المرأة عارية فتراه المرأة يراها عارية فيراها تراه يراها عارية. لعب بمرايا العيون لا حد له ولحظة فذة من التبادل الجدلي بين العالمين.

‏ولا يتم هذا التبادل بين المرأة والرقيب بالنظر فحسب بل وباللفظ أيضاً لأن الأنظار لا تتقاطع إلا تهامست الحروف بين “أرق” “والرقيب” حوار طريف بين الجسم المعتدل والعينين الشرهتين. ويجري كل ذلك بمشهد رقيب آخر: الشاعر وهو خفي كالأول ولكنه حيي لا إباحي لا فاضح يحوك للجسم المكشوف من أفانين البيان غلالة رقيقة تحجبه. وتتحول الجدلية فتصبح بين الرقيبين من هذا يبيح النظر وذاك يمنع، “سياجاً” للعفاف. يقوم مجتمع أن تخلي مجتمع. وللقارئ الخيار بين أن يطمح كالأول أو أن يقنع كالثاني فتنتقل الجدلية إليه لا محالة. وبعد فالأمر يعنيه هو أيضاً.‏

حركة التجاوز:‏
ومن أخرى تتخطى المرأة الاعتراض فتستعيض عن حركتها الأولى وقد تعطلت بأخرى بديلة. تتخذ تلقائياً من العري ثوباً تستتر به فتنتقل إلى وضع المجتمع ولم تبرح حال الطبيعة بل لا تعود إلى المجتمع إلا بقدر ما تندمج في الطبيعة. أرسلت شعرها الفاحم تحتجب وراءه فتحولت إلى “ظلام” بعد “ضياء” كما تحولت من قبل إلى مثل “الماء” وأرق من “الهواء” إلا أن التغيير صار أكمل بتطور المجاز من تشبيه يقرب صورة من صورة إلى استعارة تدمج هذه في تلك كلياً. وكانت بياضاً بد حمرة فأصبحت سواداً بعد بياض.‏ هكذا تنتقل عبر الألوان في عبورها –جيئة وذهاباً بين –العالمين وكلها “ألوان طبيعية”، من حمرة الورد إلى صفاء الهواء ونصاعة الماء ومن بياض النهار إلى سواد الليل وكانت شفافية تخترقها العين فلا ترى شيئاً فصارت كثافة يصطدم بها النظر ولا ينفذ فيها. غاب من المرأة شخصها وانتفى عنها الفعل فإنما هي بعد الحضور ذكرى رقيقة يرددها الضمير:‏“منها” ولم يعد من فاعل إلا “صبح” و”ليل” و”ماء”. فهي صورة من الكون أو منظر من الطبيعة بل هي الكون والطبيعة. بحركتها تتفاعل العناصر: تعتم بعد إشراق فتختلف الأضواء أو تنسكب رقرقة تحت رقرقة فتتراكب المياه كأنها تمثال “منحوت” من السيلان تعاقب فيه الظلال والأنوار وسيلان ينبع من عيون شتى عين ماء الطبيعة وعين الجسد الماء وبينهما عين ماء الوجه يقطر حياء. امرأة في شكل الماء والماء في شكل المرأة.‏تلك صورتها النهائية صورتها الأبدية.‏ فقد أبى الشاعر أن يقفل المشهد وجمال المرأة موشَّح بكثافة الليل وسواده فأعاد إلى الجسم العاري شفافية الماء ونصاعة الضياء و”أصبح” “الظلام” فإذا هو.. قد انحل –لفظاً ومعنى –في “ظل الماء”.‏* فكما أفلتت المرأة من حيز الواقع إلى أبعاد الخراف حدود البستان “يقطر” إلى لا مكان وتخلصت من قيد الزمان إلى مطلق الدوام، من ماضي “ظل” المنقطع إلى حاضر “يقطع” المستمر، وهي في كل ذلك حاضرة غائبة وعارية مرتدية وفطرة وحضارة وإباحة وحياء وطبيعة ومجتمع جدلية إلى الأبد.‏8- حركة التتويج:‏يتجاوز التجاوز بقفزة إلى الطلق تخلصاً من التناقض إلى الانسجام، من ثنائية العري واللباس والإباحة والأخلاق إلى وحدة الحسن الأمثل ومن ازدواجية الإنسان والكون والطبيعة والمجتمع إلى وحدانية الإله. هكذا ترتقي حساسية الشاعر عبر الجمال اللانهائي من الأرض إلى السماء ومن المرأة إلى خالقها “وقد تعرت” كما “قد يراها” فإذا هي “كأحسن ما يكون…” بل كأحسن ماء يكون معراج توقعه جوقة الكلمات من “صب” إلى “الصبح” فإلى “سبحان وإلى أحسن” فتأتلف نغمة الماء بنغمة الجسد المشرق ونغمة الدعاء ونغمة الجمال الأكمل نشيداً واحداً لا ينقطع ما دام الشعر وما دام الأدب.‏ الخاتمة:‏

كما خضعت القصيدة شكلياً لنظامين منغلق ومنفتح كذلك تخضع دلالياً لنظامين منقفل ومنفرج: انقفال الاكتساء وانفراج التعري ومن خلال هذه الجدلية جدلية الانغلاق والانفتاح والانكشاف والاحتجاب تلعب القصيدة بافتتان مبنى ومعنى. فسبحان الشاعر وقد براها كأحسن ما يكون من الأشعار.‏هذه إحدى محاولاتنا التي نسعى فيها إلى تجديد القراءة لنصوص التراث وهي في الأصل تجربة “مخبرية” أجريناها لطلبتنا تدريباً لهم على “المناهج الحديثة في دراسة الأدب” وكان في منطلق هذه التجربة جاكبسون بانشائيته من ناحية وبتحليله الشهير –مع ليفي شتروس –لقصيدة “القطط” لبودلير من ناحية أخرى فألهمنا هذا العالم الألسني ما استطاع ثم انقطع عنا وبقي نص أبي نواس بنوعيته الفريدة وبقينا معه في حوار هذه نتائجه.‏

———————-

[1]– من الآن سيرمز على سبيل الاختصار إلى الثلاثي بحرف ث وإلى البيت بحرف ب.