لو لم يكن توفيق بكار سوى ذلك الأستاذ الجامعي الذي بادر بالتعريف بالمناهج الجديدة في النقد، وبادر أيضا بإقرار نماذج من الأدب التونسي ضمن برامج التدريس بالجامعة مع توجيه الطلبة لإعداد بحوث حولها، لكفاه ذلك شرفا.

هكذا أرى توفيق بكار كما عرفته!

محمد مصمولي

لو لم يكن توفيق بكار سوى ذلك الأستاذ الجامعي الذي بادر بالتعريف بالمناهج الجديدة في النقد، وبادر أيضا بإقرار نماذج من الأدب التونسي ضمن برامج التدريس بالجامعة مع توجيه الطلبة لإعداد بحوث حولها، لكفاه ذلك شرفا في مواصلة وتطوير ما بدأه قبله زميله الدكتور محمد فريد غازي الذي قضى نحبه في مقتبل العمر ... ولم يكمل مشروعه .. ولو لم يكن توفيق بكار سوى ذلك الاستاذ الجامعي الذي بادر بالغاء المسافة بين الجامعة التونسية والنبض الحي في الساحة الثقافية زمن ستينات القرن العشرين، لكفاه ذلك شرفا أيضا في مواصلة وتطوير ما بدأه قبله زميله الدكتور محمد فريد غازي الذي داهمه الموت، فجأة، وفي عزّ الشباب.
لكن ما تميّزت به عملية خلق الامتداد الضروري والإيجابي لبادرة الدكتور محمد فريد غازي هو اتّسامها، بعد رحيل هذا الأخير، بشيء من الحكمة، وبعد النظر، وحسن التصرف، وتجنب الراديكالية، الأمر الذي أتاح لتوفيق بكار من فرص النجاح ما لم يتوفر لزميله الراحل منها.
وليس معنى هذا أنّ توفيق بكار قد كان مجرد تابع ومكمّل ومطوّر لبادرة الفقيد محمد فريد غازي، بل الحقيقة هي أنّ المشروع المشترك بينهما، والمتمثل في التفتح على مناهج النقد الجديد، وفي ردّ الاعتبار إلى الأدب التونسي، وفي مدّ جسور التواصل بين الجامعة والساحة الثقافية، قد كان تنفيذه من قبل (غازي) بشيء من النزعة الصدامية التي قوبلت بردود الفعل، في حين أن نفس هذا المشروع التجديدي قد كان تنفيذه من قبل (بكار) بشيء من المرونة، والتبصر، ومراعاة الظروف الموضوعية، والابتعاد عن المشاكسة.
والغالب على الظن هو ان توفيق بكار قد استفادت تجربته الثقافية كإستاذ جامعي من تجربته السابقة في المجال السياسي قبل الاستقلال لدى مشاركته مبكرا في النضال التحريري الى جانب المناضلين الدستوريين ثم لدى اعتناقه الماركسية وانخراطه في الحزب الشيوعي التونسي منذ مواصلة دراسته بباريس الى منتصف السبعينيات. ومعنى هذا ان أسباب النضج قد توفرت لنحت ملامح شخصية توفيق بكار في نضاله السياسي وجدليته مع الواقع المعيش والعمل الميداني وهذا ما جعله بحسّه النقدي يتحرر من قيود التحزب السياسي كما، جعله، في نضاله الثقافي وعمله الميداني في الجامعة وفي الساحة الثقافية لا يكتفي بالتفاعل مع مناهج النقد الجديد على طريقة «المستهلك » او المنبهر بل على طريقته الخاصة في تطويعها لخدمة الادب التونسي والعربي.
ولقد نالني شرف التعرف المباشر على توفيق بكار منذ بداية السبعينات في تونس وكانت تجمعني به لقاءات كثيرة في تونس عبر المقاهي وفضاءات الثقافة ثم وبين اواخر الثمانيات وبداية التسعينيات كانت لقاءاتي به في باريس شبه يومية طيلة الاعوام التي قضيتها في تلك المدينة ... عاصمة النور. ومن قناعات توفيق بكار ان الثقافة تتطلب من الذي يريد ان ينخرط فيها، ويذهب في مساراتها بعيدا ان يتمتع بروح عالية من نكران الذات وان يتحلى بنوع من الزهد ... ولان كل هذه الشروط قد توفرت في شخصية توفيق بكار، الجامعي، والمثقف، والانسان، فقد استطاع ان يكون علامة مضيئة في ثقافتنا الوطنية، ورمزا مشعا من رموزها .. وهذه الكلمة أسوقها تحية وفاء واعجاب ومحبة الى هذا المثقف الذي اعتز بمعاشرته لمدة سنوات.