قراءات الكاتب والناقد التونسي الكبير كانت على اختلافها كشفا لعوالم أدبية مغايرة وجديدة، كشفا تميز بالرصانة والعمق، ومكن أجيالا كثيرة من الكتاب والنقاد من امتلاك آليات قراءة جديدة. آليات تمتاز بالرصانة لا يقودها إلا الفكر المستنير والذوق المنفتح على الجماليات اللغوية وعلى تقنيات الكتابة باختلافها.

رحيل توفيق بكار عرّاب الأدب التونسي

محمد ناصر المولهي

توفي الاثنين 24 أبريل 2017 الناقد والكاتب التونسي توفيق بكار عن عمر ناهز 90 عاما، كرّسها في العطاء الغزير للأدب التونسي والعربي خاصة الروائي منه والشعري والقصصي. فجل قراء الأدب التونسي الحديث استضاءوا بآراء وتقديمات الكاتب والناقد التونسي توفيق بكار، الذي يعدّه الكثيرون «عراب» الأدب التونسي الحديث بكل ما في الكلمة من معنى، عراب كناقد طليعي خاض رحلته داخل أسوار الجامعة مع طلبته وخارجها في الساحة الأدبية والثقافية ككل.

اشتهر بكار بتقديماته المميزة لآثار أدبية مختلفة، فقد قدم بدراسات مستفيضة للكثير من الكتب التي باتت آثارا أدبية مثل (حدث أبوهريرة قال) وكتاب (السد) للكاتب التونسي محمود المسعدي. كما قدم لعدد كبير من الأدباء، من ذلك تقديمه لرواية (خاتم) لرجاء عالم و(جحر الضب) لنورالدين العلوي، وحتى لكتابات عربية مثل(المتشائل) للكاتب الفلسطيني إيميل حبيبي وغيرها الكثير من الكتب قديمها وحديثها. قراءة بكار للكتابات الأدبية التي يقدمها للقراء رغم تأثرها الواضح بالناقد الفرنسي رولان بارث إلا أنها كانت تتمتع بميزة خاصة لا تتوقف عند جمالية اللغة وتأصيل الأفكار. فكانت قراءاته على اختلافها كشفا لعوالم أدبية مغايرة وجديدة، كشفا تميز بالرصانة والعمق ومكن أجيالا كثيرة من الكتاب والنقاد وحتى القراء التونسيين من امتلاك آليات قراءة جديدة، آليات تمتاز بالرصانة لا يقودها إلا الفكر المستنير والذوق المنفتح على الجماليات اللغوية وعلى تقنيات الكتابة باختلافها.

أضاء الراحل الكثير من زوايا الأدب التونسي خاصة، واضعا إياه تحت مجهر النقد، نقد لا يستقدم النظريات كالبنيوية والتفكيكية كما هي، بل يجعل للنظريات روحا قادرة على الإمساك بالنصوص بخصوصياتها. لم يكن تأثير توفيق بكار منحصرا داخل أسوار الجامعة، رغم ما له من إنجاز فيها، في تكوين الطلبة وفتح أعينهم ومداركهم على كل ما هو غير مطروق. توفيق بكار كاتب وناقد مؤسس أضاء الكثير من النصوص الأدبية التونسية والعربية وغير مفهوم قراءة الأدب

لو سألت أيا ممن قرأوا تقديمات ودراسات بكار، سيتذكر اللغة الرشيقة التي كانت للراحل، لغة نادرة الحدوث، بعيدة عن تعقيدات النقاد ومناهجهم، قريبة من الفهم، بعيدة عن التقريرية الجافة. هي لغة الضاد في سلاسة تركيبية تعطي الفكرة رصانتها وجمالياتها، حيث معه كانت للأفكار جمالية أيضا. اهتم بكار بالتعليم وقيمه وكتب فيه الكثير من الدراسات، لكن اهتمامه البارز كان أدبيا بمختلف أجناسه فكتب في الشعر قديمه وحديثه، واهتم حتى بظواهر من الشعر الفلسطيني فقدم مختارات من قصائد محمود درويش انتقاها بعناية من منجز الشاعر الفلسطيني الراحل، ليقدمها في كتاب منفصل للقارئ التونسي والعربي من خلال دار الجنوب التي احتضنت أغلب أعماله.

ليس الشكل في النص الأدبي شيئا محايدا فيتعاطاه الكاتب بأمان”، هنا كما يقول بكار نفهم رؤية الرجل التي لم تعرف تصلّبا بل كانت مرنة طيّعة بمرونة لغته وأفكاره المتجددة دون ركون إلى طمأنينة، حيث كان يقول “بين الديجور والنور حمرة من شك”، شك الطامح إلى معرفة لا تتوقف، وشك الباحث عن الذي يرى كل ما حوله مدعاة للعلم وانتشاء الجمال. كتب بكار حتى عن الفن التشكيلي حيث قدم مثلا تجربة الفنان التونسي الهادي السلمي في أعماله النحتية، كما ألف بكار عددا من الكتابات النقدية في القصة والرواية نذكر منها “قصصيات عربية”.

نعى بكار العديد من الأدباء التونسيين وهو الذي جمع حوله الشباب والمخضرمين، الذين يرون فيه طليعيا وأستاذا لن يتوقف تأثيره العميق في قراءة الأدب وكتابته. لذا سيخلف رحيله فراغا كبيرا في الساحة التونسية، فراغا من الصعب تعويضه.