نـازك الملائكـة والشعــر الحــر
جلال خياط (بغداد)
قرأت في الجزء الأول السنة الثالثة عشر من مجلة الأديب الغراء مقالاً للآنسة نازك الملائكة تكلمت فيه عن الشعر الحر في العراق..كيف بدأ..وإلى أين وصل..ولقد حاولت الآنسة الشاعرة في مقالها هذا أن تضع للشعر الحر قواعداً وأصولاً وأن تبين لنا فيه أنها أول من ابتدع هذا اللون الجديد في العراق!... الشعر الحر Free Verse هو الذي لا يخضع لسلطان القافية والتفعيلات، فللشاعر أن يستعمل من التفعيلات في البيت الواحد ما يشاء على ألا تتعدى الأربع في العادة ... وله حرية واسعة في ترتيب قوافي القصيدة بحيث تكون متشابكة أو متلاحقة أو منطلقة، وعدم تقييد الشاعر بالقوافي والتفعيلات يمنحه حرية يستطيع بها أن يبعد عنه القواعد الثابتة التي كثيراً ما تفسد عليه شاعريته ... فالقافية الواحدة مملة ومتعبة وعدد التفعيلات المعين في البيت الواحد يؤدي بالشاعر إلى الإطالة والحشو، ولا يجوز في الشعر الحر تعدد البحور لأنه يحتاج إلى الموسيقى المتدفقة لتعوض عن القوافي الشاردة وعن عدد التفعيلات المختلف في كل بيت حسبما تقتضيه المعاني. إن حركة الشعر الحر قد ازدهرت في العراق فأقبل عليه شعراؤنا وفي مقدمتهم الآنسة نازك الملائكة، ولكن هذا لا يعني أن العراق أول من عرف الشعر الحر وشعراءه أول من نظموا به، ففي أقوال الآنسة ما يوحي إلينا بذلك فهي تقول "...وحركة الشعر الحر كأية حركة جديدة في ميادين الفن والحضارة بدأت لدنة حيية مترددة..."، وإني لأسأل الآنسة أين بدأت هذه الحركة؟...وفي أي وقت؟... إن الغموض الذي يكتنف قول الآنسة يوحي إلى القارئ بأن يظن أن الكاتبة الفاضلة تعني بقولها هذا أن الحركة بدأت في العراق، وهي تقول "...مثل هذه الحركات التي تنبع فجأة بمقتضى ظروف بيئية وزمنية لا بد أن تمر بسنين طويلة قبل أن تستكمل أسباب النضج..."، فحصر حركة الشعر الحر بظروف بيئية وزمنية دون تعيين هذه الظروف البيئية والزمنية التي نبع بمقتضاها الشعر الحر يوحي إلى القارئ أن الحركة نبعت في بيئة معينة وفي زمن معين وربما يظن أن الكاتبة تعني بقولها هذا أن الحركة ولدت في العراق. لقد عرف الأوربيون الشعر الحر وأغرموا به منذ القرن السابع عشر حتى يومنا هذا وفي مصر قامت أولى المحاولات في إدخال الشعر الحر والشعر المرسل إلى الأدب العربي. ولقد كتب الأستاذ "دريني خشبة" في مجلة الرسالة المصرية بحثاً ضافياً في هذا الموضوع قال فيه: "... إن ملتون حاول في منظومته عن شمشون Samson Agonistes محاولة بارعة في الشعر الحر. كما شاع استعماله بين الشعراء الفرنسيين، وقد نظم به لافونتين في القرن الثامن عشر ولكن على قواعد العروض اليوناني، على أن الشعر الحر لم ينتشر انتشاراً عالياً إلا قبيل الحرب العظمى الأولى، وتسمى الشعراء الذين آثروه واستعملوه بكثرة باسم The Imagists أي الذين يصورون صور الأشياء بالشعر الحر كما يصور الفنان صورها في ذهنه بألوان من نور ومن هؤلاء عزرابوند Pound وفلنت Flint ولوول Lowell و د. هـ. لورنس الشاعر والكاتب الروائي الماجن وريتشارد ألدنجتون ..." ويقول الأستاذ خشبة إن أولى المحاولات في الشعر الحر والشعر المرسل قامت في مصر على أيدي الأساتذة "محمد فريد أبو حديد وعلي أحمد باكثير والمازني وأحمد زكي أبو شادي وخليل شيبوب" وغيرهم، فقد نشروا القصص والملاحم والقصائد التي نظمت على طريقة الشعر الحر والشعر المرسل. ويقول الأستاذ العقاد إن أول من نظم بهذا اللون الجديد في العراق هو المرحوم جميل صدقي الزهاوي فقد نشرت له المؤيد قصيدة حرة، فما رأي الآنسة نازك الملائكة في هذا. لقد قامت في مصر ثورة على الطريقة الجديدة كما قامت في العراق، ونُقدت الدعوة في مصر كما نقدت في العراق حين أصدرت الآنسة نازك الملائكة ديوانها "شظايا ورماد" سنة 1949 وفي مقدمته إشارة "إلى الأساس الوزني للشعر الحر الذي اعتبرته لوناً من الحرية يستحق أن يمنحه الشاعر العربي"... ومن أمثلة النقد الذي جوبهت به الدعوة في مصر أقوال الأستاذ العقاد في مقال منشور في الرسالة المصرية "إن اختلاف القافية بين البيت والبيت يقبض سمعي عن الاسترسال في متعة السماع ... والظاهر أن سليقة الشعر العربي تنفر من إلغاء القافية كل الإلغاء ...إهمال القافية يصدم السمع بخلاف ما ينتظر حين يفاجأ بالنغمة التي تشذ عن النغمة السابقة، فانتظام القافية متعة موسيقية تخف إليها الآذان وانقطاع القافية بين بيت وبيت شذوذ يحيد بالسمع عن طريقه الذي اطرد عليه ويلوي به لياً يقبضه ويؤذيه..." وبعد هذا كله يخيل إليّ أن الآنسة نازك الملائكة مخطئة حين تقول "...إن حركة الشعر الحر على الرغم من كل ما يمكن أن يقال في إرجاعها إلى أصول قديمة تجد جذورها في الموشحات الأندلسية، تبقى بنت هذا القرن وحده. فالموشحات لم تتلاعب بعدد التفاعيل خلال القصيدة الواحدة ولم تتحرر القافية نصف هذا التحرير ولعل أبرز الأدلة على أن الحركة وليدة عصرنا هذا أن أغلبية قرائنا مازالوا يستنكرون القصائد الحرة..."، وأعتقد أن الآنسة مخطئة في حكمها الأخير أيضاً فما كل ما يستنكره الناس جديد. لقد تطور مفهوم الشعر الحر عند الشعراء العرب وأصبح أوسع أفقاً ولم يعد يقتصر على الملاحم والقصص كما بدأ في أول نشأته في أوربا وفي مصر، وقد وجد هوىً في نفوس بعض الشعراء المجددين، والشعر العربي يزخر اليوم بالقصائد المتمردة على القافية وعلى عدد التفعيلات... فللشاعر "سليم حيدر" قصائد رائعة في ديوانه "أفاق" أستطيع أن اعتبرها من الشعر الحر، منها قصيدته التي يقول في أولها: اتركيني ... واحملي ما قد تبقى ... من عفافكْ فضلات شق فيها العهر طرقا وأقذفيها ... نكبة في وجه غيري لمحت عيناي ما تحت خضابك أي عار قصيدته "غروب": غروبْ وأفق خضيب فلا العندليب نجيّ يبث هوى المستهامْ ولا الياسمينْ ندي الجبين يروّي النسيم عبيراً وطيب وللشاعر نزار قباني وأحمد سليمان الأحمد وفؤاد الخشن وغيرهم قصائد راقية حرة الوزن ... ولا أريد بهذا أن أقارن بين شعر هؤلاء وبين الشعر العراقي الحر فللأخير طابعه وجوّه ومنحاه... ولا شك في أن الآنسة نازك الملائكة هي أول من بعث حركة الشعر الحر في العراق جدياً وأول من تبناها ... ولقد تبعها آخرون أجادوا في هذا النظم وقد تكلمت الآنسة في مقالها عن بعضهم ... كالسياب والبياتي وشاذل طاقة ونسيت آخرين منهم عدنان الراوي وكاظم جواد وغيرهم... وفي الشعر العراقي قصائد حرة الوزن جديرة بالإعجاب منها مما لم تشر إليه الآنسة قصيدة لبلند الحيدري بعنوان "الجرح المرائي" نشرتها مجلة الأديب الغراء: لا تمسّي كبريائي لاتمسّي ذلك الجرح المرائي أنا أدري أين من نفسي دائي أنا أدري فاتركينا ... لا تقولي لمَ لم تأتِ إلينا ...! لا تقولي قد تكبرت علينا ...! أنت تدرين وأدري ... هكذا نحن انتهينا بإباء وأخيراً أرجو من الآنسة الفاضلة أن تعيد النظر في بعض ما جاء في مقالها وأن تتيح لنا في المستقبل قراءة بحث جديد كامل عن الشعر الحر. الأديب، س13، ع3، بيروت، مارس 1954.