أساليـب التكـرار فـي الشعـر

نازك الملائكة

على الرغم من أن التكرار كان معروفاً للعرب أيام الجاهلية الأولى، وقد ورد في الشعر العربي بين الحين والحين، إلا أنه في الواقع لم يتخذ شكله الواضح إلا في عصرنا، وقد جاءت على أبناء هذا القرن فترة من الزمن، عدوا خلالها التكرار في بعض صوره من ألوان التجديد في الشعر، ومن المؤكد أن الاتجاه نحو هذا الأسلوب التعبيري مازال في اطراد بحيث يصح أن نرقبه، ونقف منه موقفاً يقظاً، أقول هذا لا لأنني أعده أسلوباً ردئياً، فهذا بعيد عن رأي، وإنما لأنه، حين يعد أسلوباً سهلاً يستطيع أن يردي شعر أي شاعر إلى الهاوية. ذلك أن أسلوب التكرار يحتوي على كل ما يتضمنه أي أسلوب آخر من إمكانيات تعبيرية، وهو في الشعر، مثله في لغة الكلام يستطيع أن يغني المعنى ويرفعه إلى مرتبة الأصالة، ذلك إن استطاع الشاعر أن يسيطر عليه سيطرة كاملة، ويستخدمه في موضعه وإلا فليس أيسر من أن يتحول هذا التكرار نفسه بالشعر إلى اللفظية المبتذلة التي يمكن أن يقع فيها أولئك الشعراء الذين ينقصهم الحس اللغوي، والموهبة والأصالة.
والقاعدة الأولية في التكرار أن اللفظ المكرر لا بد أن يكون وثيق الارتباط بالمعنى العام، وإلا كان لفظية متكلفة لا سبيل إلى قبولها، كما أنه لابد أن يخضع ككل ما يخضع له الشعر عموماً من قواعد جمالية وذوقية وبيانية، فليس من المقبول تكرار لفظ ضعيف الارتباط بما حوله، أو لفظ ينفر منه السمع، إلا إذا كان الغرض درامياً، يتعلق بهيكل القصيدة العام وستوضح نماذج الشعر التي اخترتها ما أقصد بهذا، ولن يخلو المقال من نماذج للتكرار الرديء الذي يصدم الحس الجمالي ويخرج عن نطاق الغرض الذي يستعمل من أجله التكرار.
ولعل أبسط ألوان التكرار، تكرار كلمة واحدة في أول كل بيت من مجموعة أبيات متتالية في قصيدة، وهو لون شائع في شعرنا المعاصر، يتكئ إليه أحياناً صغار الشعراء في محاولتهم تهيئة الجو الموسيقي لقصائدهم الرديئة، حتى كثرت القصائد التي يبدأ كل بيت فيها بألفاظ مثل "أنت" و"تعالي" و"هنا" ونحوها... ولا ترتفع نماذج هذا اللون من التكرار إلى مرتبة الأصالة والجمال، إلا على يدي شاعر موهوب يدرك أن المعوّل في مثله على ما بعد الكلمة المكررة ، فإن كان مبتذلاً، رديئاً، سقطت القصيدة، وإلا فهي في مستوى قصيدة الهمشري "إلى الفاتنة" وهذا نموذج منها:
           أنت كوخ معشوشب في ربـاة
           مـقمر الصمت سرمدي الخيـال
           نعسـت روحي الكليلـة نشـوى
           فيه، ترعى فجري هذا الجمـال
           أنت صمت مخيم ... ففضاء...
           فـظـلام مكوكـب ... فـنهـار
           فهمـود تـدب فيـه حيـاة
           ويغنـي في فجرها النـور بهـار
           أنت كـل الحيـاة .. أنت كيـانـي
           أنت روحي أبصرتها في سباتي
           أنت وحيي مجسداً.. أنت لحني
           يـاسـمـاء علـى سـمـاء حياتـي
والملاحظ أن كثيراً مما كتب المعاصرون من هذا اللون رديء تغلب عليه اللفظية، وعلة هذه الرداءة أن طائفة من الشعراء تضيق بهم سبل التعبير فيلجأون إلى التكرار، التماساً لموسيقى يحسبون أنه يضفيها، أو تشبهاً بشاعر كبير، أو ملئاً لفراغ. ومن النماذج المبتكرة، تكرر كلمة "نسيت" في قصيدة النسيان لمحمود حسن اسمعيل، فهذا تكرار يتعلق تعلقاً مباشراً ببناء القصيدة العام، وهو أحد الأسباب التي تجعلنا نعده تكراراً ناجحاً غير لفظي، كما نعد القصيدة واحدة من أجمل ما كتب شعراؤنا المعاصرون. ولعل من المناسب أن أقتطف نموذجاً من القصيدة، ولينتبه القارئ إلى العناية الكبيرة التي صبها الشاعر على ما يلي لفظة "نسيت" في كل بيت، وهو سر جمال التكرار ونجاحه:
ونسيت الأنسـام تنقـل فـي المـرج صـلاة الطيـور للغـدران
ونسيت النجــوم وهـي علـى الأفــق نشيــد مبعثــر الأوزان
ونسيت الربيع وهو نديم الشعر والطيـر والهـدى والأمانـي
ونسيت الخريف وهـو صبـا مات فسجتـه شيبـة الأغصـان
ونسيت الظلام وهو أسى الأرض وتابوت شجوها الحيران
ونسيت الأكـواخ وهـي قـلـوب داميــات تلفعــت بالـدخــان
ونسيت القصور وهي قبـور ضاحكـات البلى مـن البهتــان
هذا نموذج يتوفر فيه الشرطان، فاللفظ المكرر متين الارتباط بالسياق، وما بعده قد لقي عناية الشاعر الكاملة.
يلي تكرار الكلمة، تكرار العبارة، وهو أقل في شعرنا المعاصر، وتكثر نماذجه في الشعر الجاهلي ومنه في شعر المهلهل:

           ذهب الصلح أو تردوا كليبا
           أو تحلوا على الحكومة حلا
           ذهب الصلح أو تردوا كليبا
         أو أذيـق الغــداة شـيبــان ثكـــلا
           ذهب الصلح أو تردوا كليبا
           و تنـال العـداة هـونـا وذلا
وقد كرر المهلهل عبارة "على أن ليس عدلاً من كليب" في قصيدة أخرى أكثر من عشرين مرة على رواية أبي هلال العسكري... وأشهر من هذا التكرار لعبارة "قربا مربط المشهر مني"، و"المشهر" فرسه وهو يستدعيه، إيذاناً بعزمه على الحرب، ورداً على قصيدة الحارث بن عباد التي استدعى فيها فرسه "النعامة" مكرراً عبارة "قربا مربط النعامة مني".
ولا يخفى أن للتكرار في هذه المواضع كلها علاقة كبيرة بظروف الشاعر النفسية، وطبيعة حياته البدوية...ولا شك في أنه كان يلاحظ أن التكرار يثير الحماسة في صدور المحيطين به وسستنفرهم للقتال، ومن ثم استعمله.
وأحد نماذج التكرار المألوفة في عصرنا، تكرار بيت كامل من الشعر، في ختام المقطوعة، وقصيدة ميخائيل نعيمة "الطمأنينة" مثال ناجح له:
سـقف بيتي حـديـد             كـن بيتـي حجـر
فاعصـفــي يـاريـاح             اقصفي يا رعـود
واسـبحـي ياغـيـوم           وانتحب ياشـجــر
واهطلـي بالمطـــــر         لست أخشى خطر
سقـف بيتـي حـديـــد           ركـن بيتي حجــر
من سراجي الضئيـل            أسـتمــد البصـــر
كـلمــا الليـــل جـــاء               والظــلام انتشــر
وإذا الفجـــر مـــات             والنهـــار انتحــر
فـاخـتفــي يانجـــوم            وانطفـئ ياقمــــر
من سراجي الضئيل        أسـتمــد البصـــر
ولنلاحظ أن هذا اللون من التكرار لا ينجح في القصائد التي تقدم فكرة عامة لا يمكن تقطيعها، لأن البيت المكرر يقوم بما يشبه عمل النقطة في ختام عبارة تم معناها، ومن ثم فهو يوقف التسلسل وقفة قصيرة ويهيء لمقطع جديد. وقد رأينا أن قصيدة نعيمة تقدم نماذج فرعية لمعنى الطمأنية العام، وقد وقفت كل مقطوعة نفسها على نموذج فرعي واحد انتهت عنده، وهذا سر نجاح التكرار في القصيدة. ويفشل هذا التكرار في القصائد التي تتسلسل معانيها تسلسلاً لا داعي فيه للتقطيع. ومن نماذجه قصيدة عنوانها "سجين" لبدر شاكر السياب، يبدو التكرار في ختام كل مقطع منها صادماً يعوق التسلسل، ويوقفه دون داع، وهذان مقطعان منها:
           ذراعـا أبـي تلقيـان الظــلالَ
           على روحيَ المستهام الغريب
           ذراعا أبي والسراجْ الحزين
           يطاردني في ارتعـاش رتيـب
           وحفت بي الأوجهْ الجائعات
           حيـارى، فيا للجـدار الرهيـب
           ذراعـا أبـي تلقيــان الظــلال
           على روحيَ المستهام الغريب
           وطال انتظاري..كأن الزمان
           تلاشـى فلـمْ يبـقَ إلا انتظــار!
           وعيناي ملءُ الشمـال البعيـد
           فيـا ليتنـي أستطيــع الفــــرار
           وأنت التقـاءُ الثـرى بالسمـاء
           علـى الآل فـي النائيات القفـار
           وطال انتظاري كأن الزمان
           تلاشى فلـم يبـق إلا انتظـــار!
التكرار هنا يبدو تلويناً مجرداً ليس له داع، وهو يوقف الانسياب الشعوري للقصيدة، التي تملك كسائر قصائد هذا الشاعر وحدة محببة يؤسفنا أن تتعثر لاهثة في ختام كل مقطع. وقد كان موضع التكرار هنا، (رغم تسلسل القصيدة وطبيعتها التي لا تقبل التقطيع) يمكن أن يتحسن لو عني الشاعر بأن يجعل البيت الثالث في المقطوعة يفضي بمعناه إلى البيت الرابع، كما في مقطوعات ميخائيل نعيمة، فإذا ذاك يمتلك التكرار سبباً واحداً يبرر وجوده في قصيدة لا تحتاج إليه إطلاقاً.
ومن هذا اللون من التكرار، ما يكرر الشاعر فيه كلمة أو عبارة معينة واحدة في ختام مقطوعات القصيدة جميعاً، وهو لون شائع مثاله تكرار ايليا أبو ماضي المشهور بعبارة "لست أدري" في قصيدة "الطلاسم" وتكرار علي محمود طه لعبارة "اسقنا من خمرة الرين اسقنا" في قصيدة "جمرة نهر الرين"، وشرط هذا النوع من التكرار أن يوحد القصيدة، في اتجاه يقصده الشاعر، وإلا كان زيادة لا غرض لها.
ثم ننتقل إلى تكرار المقطع كاملاً، وهو تكرار يخضع لشرط تكرار البيت عينها، أعني إيقاف المعنى لبدء معنى جديد ومن أمثلته قصيدة "الصباح الجديد" لأبي القاسم الشابي وقد كرر المقطع التالي فيها أكثر من مرة:
           اسـكتــي يـا ريــاح
واسكتـي يا شجون
           مات عهـد النــواح
وزمــان الجنــون
           وأطــــل الصـبـاح
من وراء القـرون
ومع أن التكرار لم يضر بالقصيدة، إلا أنه لم يفدها كثيراً، وربما كان أجمل لو حذفه الشاعر فالقصيدة من دونه لا تخسر شيئاً، ويلاحظ أن هذا التكرار المقطعي يحتاج إلى وعي كبير من الشاعر، بطبيعته كونه تكراراً طويلاً يمتد إلى مقطع كامل، وأضمن السبل إلى نجاحه أن يعمد الشاعر إلى إدخال تغيير طفيف عى المقطع المكرر، والتفسير السايكولوجي لجمال هذا التغيير، أن القارئ، وقد مر به المقطع، يتذكره حين يعود إليه مكرراً في مكان آخر من القصيدة، وينتظر غير واع أن يجده كما مر به تماماً...لذلك يحس برعشة من السرور حين يلاحظ فجأة أن الطريق قد اختلف، وأن الشاعر يقدم له في حدود ما سبق أن قرأه، لوناً جديداً. ولا أجد في ما بين يدي من الدواوين نموذجاً أعرفه لهذا التكرار باستثناء قصيدتي "الجرح الغاضب" التي نشرت في مجموعتي "شظايا ورماد"، فالمقطع الأخير في هذه القصيدة تكرار ملون لمقطع سابق.
ويهمني أن أشير إلى أن التكرار في قصيدة "الجرح الغاضب" على الرغم من ألوانه المختلفة عن ألوان المقطع الأصلي، لا يدخل على هيكل القصيدة المعنوي تغييراً، وإنما يؤكده لا أكثر، فهو تكرار بياني..
والخطوة التالية التي يمكن أن يخطوها الشاعر في هذا التكرار المقطعي، أن يقيم هيكل المعنى في القصيدة على التلوين الذي يدخله بالصورة التي بينتها على المقطع الأصلي الذي يكرره، والنموذج الذي أحبه وأريد تقديمة للقارئ قصيدة بديعة لأمجد الطرابلسي قرأتها في مجلة الرسالة منذ سنين عنوانها "احترق...احترق"
أنقلها هنا كاملة:
لا تقف يا قطار       لا تهـن يا خفـق
نخـلات الديـار         من وراء البحار
لمعت في الأفق
ويك لا تحترق
قد بلغنـا الفنـاء         بعـد كـد المسيـر
ليس دون لقـاء         بعد هذا المساء
غير بعض العصور
وبحــار تمــور
سر بنا..سر بنا       فـي الدجى يا أمل
الهــوى نـاينــا                     والمـــدى غـانيــا
يا هنا من وصل
بعد فوت الأجل
قف بنا ياقطــار      واستـرح يا خفق
بيننــا والـديــار                  غمـرات البحـار
وظــلام الأفـق
احترق..احترق..
ألا يتعلق التكرار هنا تعلقاً قوياً ببناء القصيدة العام بحيث يستحيل حذفه دون أن تنهار القصيدة "وهي غامضة، صوفية الاحساس، عني الشاعر فيها برسم الجو، أكثر مما عني بتقديم المعنى مفرزاً مرتبطاً متسلسلاً" تبدأ بالأمل في العودة إلى الديار، ذلك الامل الذي يغذيه لمعان نخيل الديار من وراء البحار، ثم يتذكر الشاعر الزمن والموت وطبيعة الأمل الزئبقية...ويتسع في ذهنه مدلول الديار فيتحول إلى ما هو أعمق من الأرض وأبعد، وإذ ذاك يرسل صرخته الأخيرة: "قف بنا ياقطار" وبالتلوين اللفظي الذي أدخله الشاعر في المقطع المكرر تغير اتجاه المعنى في القصيدة كلياً، فاستحالت "لا تحترق" إلى "احتراق..احتراق.." وكانت هذه مقارنة صامتة بين حس الأمل في المقطع الأصلي، وحس اليأس في المقطع المكرر. وقد كان الشاعر فناناً وهو يختار "احترق..احترق.." عنواناً، لأنها كما رأينا ملخص الصراع كله، وإليها ترتكز القصيدة.
وتجرني هذه القصيدة التي اختتمها الشاعر بالتكرار، إلى الوقوف لحظة عند قضية اختتام القصائد بتكرار مقاطع سابقة منها، فالملاحظ أن كثير من هذه الخواتيم تجيء غاية في الرداءة والسبب أن بعض الشعراء الضعفاء يلتجئون إلى التكرار تهرباً من اختتام القصيدة اختتاماً طبيعياً، ومن طبيعة التكرار أنه يوحي بانتهاء القصيدة ويستطيع بهذا أن يخدع القارئ العادي، على أن لا يفوت على قارئ متذوق يفهم أسرار البلاغة في التكرار وسأختار لهذا التكرار المضلل نموذجاً لشاعر نؤمن بشاعريته (فلا خير من أمثلة نقتطفها من شعراء لا قيمة لهم): قصيدة "الكوخ" من ديوان "أغاني الكوخ" الصادر سنة 1934 لمحمود حسن اسماعيل، وهي قصيدة طويلة ضغطت فيها القافلة الموحدة على الشاعر حتى أبرمته، وجعلته يتهرب من الخاتمة فأجهز على القصيدة بتكرار المطلع وقد كان لسوء الحظ مطلعاً ردئياً:
           بعثر عليه الدمـع ما صفقـت
           في قلبـك الألحـان يا شـاعـر
           وأحرق له الأجفان ما مسها
           برح الأسى والحزن يا ساهر
                                  *  *  *
بقي من أنواع التكرار نوع دقيق، يكثر استعماله في شعرنا الحديث، وهو تكرار الحرف، وأمثلته كثيرة منها هذان اليبتان العذبان من إحدى قصائد أبي القاسم الشابي  المشهورة:
عذبة أنت كالطفولة كالأحـلام كاللحـن كالصبـاح الجديـد
كالصباح الجديد، كالليلة القمراء، كالورد، كابتسام الوليد
فالشاعر يكررالكاف هنا ويؤثرها على واو العطف لأنها تجدد التشبيه وتقويه محتفظة له بيقظة القارئ كاملة، ولا شك في أن المعنى يفقد كثيراً لو كان الشاعر قال "عذبة أنت كالطفولة والأحلام واللحن"...
وهذا نموذج ثان من قصيدتة رائعة الجمال لبدر شاكر السياب عنوانها "أهواء":
           وهيهات ..أن الهوى لن يموت
           ولكن بعض الهــوى يأفــلُ
           كمــا تأفـل الأنجـمُ الخافـقــات
           كما يغرب الناظـر المُسبَـلُ
           كمــا تستجـمّ البحــار الفســاح
           مليـّـاً كمــا يرقــد الجــدول
           كنوم اللظى، كانطواء الجناحِ
           كما يصمت النايُ والشمألُ
ويلاحظ أن التكرار لو حذف لفقدت الصور الفرعية كثيراً من جمالها...أما الفائدة الايجابية للتكرار في هذه النماذج كلها فسأرجئ الكلام فيها إلى فرصة أخرى.

الأديب، س 11، ج 5، بيروت، مايو 1952.