قرأت العدد الماضي من" الآداب"

نازك الملائكة

رغبت "الآداب" إلى الأديبة العراقية المعروفة الآنسة نازك الملائكة أن تتولى نقد العدد الماضي من "الآداب". فتلقّت مع المقال النقدي رسالة تقول فيها الكاتبة الفاضلة:
"عندما قرأت مقال الأستاذ رئيف خوري في نقد العدد الأول من "الآداب "ووجدته اكتفى بنقد النثر دون إشارة واحدة إلى الشعر، انتابتني "العصبية" الشعرية، فآليت أن أملأ ثلاث صفحات كاملة بنقد القصائد دون إشارة واحدة إلى المقالات ... وقد فعلت ولا أظنّ في ذلك إجحافاً، فيوم علينا ويوم لنا..."

لن تكون كلمتي هذه مقالاً في نقد الشعر في عدد شباط بمقدار ما ستكون محاولة للتذوق والتقييم وإيضاح الملامح العامة. وإنما أسميها محاولة لأن بعض هذه القصائد تستأهل عناية أكبر، بما تقدّمه للناقد من فرص مكتنزة لتحديد جانب من الاتجاهات العامة لشعرنا المعاصر، وللتحذير من بعض الزوايا الخطرة والمزالق الخفية فيه. والنقد إن لم يهدف إلى هذه الغاية الواسعة كان تفاصيل عابرة لا قيمة كبيرة لها.

الطيب المستبد: صلاح لبكي

قصيدة نجوى، كلاسيكية في روحها وألفاظها وغنائها، وإن كان الشاعر حاول استغلال القوى الكامنة في بعض الألفاظ على أسلوب يقرب من الرمزية. وخير دليل على كلاسيكيتها الألفاظ (صدّ) و(وصل) و(فدتك روحي) والطباق بين (أخفى وأبدى) واستعمال المصدر المؤكّد على تجوّز في (توعد منك وعدا) و(العاقدات عليك عقداً). ويمكن أيضاً أن نلمح الكلاسيكية في استعمال القافية المنصوبة، فنحن اليوم نجنح في شعرنا إلى القوافي الساكنة والمجرورة إجمالاً، ولعل القافية الموحدة نفسها مظهر ملازم للكلاسيكية المعاصرة إلى حدّ ما.
والحقيقة أنّ الشعر اللبناني رغم التجديد الكبير الذي غذّى به الشعر الحديث، يحافظ في جوهره على الأصول القديمة بقوافيه الموحدة واتجاهه الذهني الذي يقتصد في الانفعال، ويفصل اللفظ على قدر المعنى حتى تجيء الصائد مركزة قصيرة جهورية في الغالب. وكل هذا ملموس في قصيدة الأستاذ صلاح لبكي.
وإحدى الملامح البارزة للكلاسيكية الجديدة في هذه القصيدة، أن بنائها (مسطّح) ذو بعدين، فهي لا تشتمل على عقدة تنمو حتى تبلغ ذروة شعورية ثم تتلاشى، وإنما تتوزع فيها القوى توزعاً مستوياً، حتى يمكن أن نقدم بيتاً على بيت دون أن نشوّه القصيدة، وهذا مظهر في شعر المدرسة اللبنانية نجد أصوله في الشعر العربي القديم كله. وعنوان القصيدة لو فحصناه يؤيد هذا الحكم، فهو لا يتعلق بموضوع القصيدة وإنما التقط من البيت الثاني:
فلأنت طيبٌ في دمي يجري ويعبق مستبدا
وهو بهذا يصبح مجرد (اسم) لا عنواناً لأن وظيفة العنوان أن يحدد الموضوع ويلخصه ويدل عليه، لا أن يكون كلفظ (الكامل) الذي سمّى به المبرّد العزيز كتابه. ونزعة إطلاق (الأسماء) لا (العناوين) على الكتب والقصائد تسيطر على آدابنا القديمة كلها وفي القصيدة معايب طفيفة فالبيت:
وطمعت بالأدنى إليك فننتهي طيباً ووردا
غير مفهوم، وعطف المضارع على الماضي ليس حسن الوقع. وفي البيت الأخير وددت لو استبدلت (ولو) بـ (وإن) .

فتور: سليم حيدر

تقوم هذه القصيدة على ما يسمى بالانكليزية (Pathetic fallacy) فالشاعر قد أضفى فتوره وضجره على الطبيعة فإذا الغيوم حاقدة والحر عطشان والطيور كسلى. وهي تحمل جواً مكتملاً يذكرنا ببعض أجواء بول فيرلين، وهذا لون نادر في شعرنا القديم وهو من الملامح الحديثة. وقد لفّ القصيدة ضبابٌ مبهم جميل وددت لو لم يبدده الشاعر بأبياته الثلاثة الأخيرة. فكلمة (حبيبي) قد فكّت السحر، وبعثرت قوس قزح، وجعلت القارئ يفيق ويصطدم فإذا الحالة الغامضة كلها نداء حب، وقد كانت بإبهامها الأول تحمل إمكانيات أعمق.
وأما لغة القصيدة ففيها نماذج للألفاظ الميتة التي فقدت بكثرة الاستعمال إيحاءها وخصوبتها، وأصبحت مثقلة باقترانات غير مستحسنة، وأظنها في القصيدة خمس كلمات: (عروس) و(الأوام ) و( تبرج ) و(خدرها) و(السقام). وليس في قوانين اللغة ما يبيح لنا رفض هذه الألفاظ، وإنما نرتكز إلى قانون حياة اللغة والعناصر الاجتماعية فيها.

حـواء الجديـدة: توفيـق عـواد

أول ما يلاحظه القارئ في هذه القصيدة ملامح صوفية واضحة تشيع فيها منذ المطلع. والإبهام ملازم للصوفيّة، ولكثير من العمق والجمال (ولكن ليس كل مبهم جميلاً فالوقوع في هذا الخطأ يوشك أن يقضي على بعض شعرائنا). يتحدّث الأستاذ توفيق عواد عن (بعض سرّ) و(طعم الحلو) و(معنى السكر) وعن حالة هي (أدنى ما تكون المنى بعداً) وعن شوق لا يرتوي إلا ليتجدّد وكأنه ينفذ بالحسية إلى ما وراءها. وتقوم فكرة المقطع الثالث على تلك النظرية الغريبة الجمال التي تفترض أن الزمن يسير في دائرة ويتكرر، وهي فكرة قديمة وقد استند إليها ج. ب. برستلي في مسرحيته (  I Have Been Here Before  ). يقول الشاعر:
في أي دنيا قبل هذي التقت
أعيننا؟ في أي وادي سحيق
فأنت وجهٌ لجّ  بي طيفه
من أزل ورجعُ صوت شقيق
أما وصف (صوت) بأنه (شقيق) بمعنى أخ لا بمعنى مشقوق فهي من قبيل قول الأستاذ نزار قباني (يدٌ غدير فضة) و(إصبعين جدولي مياه) و"صدراً غلام" و"شوقٌ نبيّ"، وفي شعر الأستاذ صلاح الأسير "غدٌ مخمل". وهذه حالات تلفت النظر فالأسماء فيها توصف بأسماء مماثلة تتبعها في الإعراب. وربما لم يكن في هذا بأس، على أنه خروج جريء على قواعد النحو.
لغة القصيدة تشبه لغة المدرسة اللبنانية وفيها أيضاً سمات قديمة تبدو في "وربّ عمرٍ لي" و"الكاسي" بمعنى المكسوّ على سبيل المجاز. وحبذا لو تجنب شعراؤنا هذه الأساليب البلاغية التي تدخل على قواعد القياس الصرفي شواذَّ غير مأمونة، فلعلّ من مصلحة اللغة أن يجري فيها القياس دون شذوذ كثير. فالشعر مثلاً يستند إلى الحياة التي تكتسبها الألفاظ بالاستعمال اليومي والاقتران النفسيّ. والأسلوب البلاغي الذي لم يعد مستعملاً يشبه الكلمات القاموسية الميتة في أنه لا يمتلك هذه الذخيرة من الحياة.
وقد وردت ياء المتكلم مشدّدة على غير وجه في هذا البيت:
        أهيم والدنيا ازدحام المنى             فينثني بيَّ إليها الطريق
فالتشديد حتى إذا كان وارداً في لهجة دارسة، يخضع في الشعر لقانون الاستعمال ويسيء إلى القصيدة.

الكـون المسحـور: فدوى طوقان

يدرك قارئ هذه القصيدة حالاُ أنها تنتمي في ملامحها العامة إلى مدرسة أخرى غير اللبنانية، فالعاطفية العراقية تجبهه، وهو لا يجد أثراً للمعاني الذهنية، ولا لمبدأ الاقتصاد في الطاقة والألفاظ الذي لمسناه في الكلاسيكية الجديدة إن صحت تسميتي هذه وهناك عناية ملموسة بالصور وإن تكن الشاعرة لم تنجح كثيراً في قصيدتها هذه، ولعلها ليست من خير شعرها.
لفت نظري قبل كل شيء أن مطلع القصيدة مكسور الوزن:
        عيناي مغمضتان ترفّ بأعماقهما روحي وترى.
ففي هذا البيت زيادة تفعيلية لا سبيل إلى مداواتها إلا باستبدال كلمة "بأعماقهما" بأخرى أقصر منها مثل "وراءهما". على أن الظاهرة الكبرى في هذه القصيدة هي أن الآنسة فدوى تنقلت فيها من وزن إلى وزن، ومن أسلوب إلى أسلوب، ومن موضوع إلى موضوع حتى بات التنقل أكثر دلالة من القصيدة. ففي حقل الوزن يفاجأ القارئ بانتقالة فجائية لا يقتضيها داع فني من وزن "المتدارك" إلى وزن " الرمل" وهما بحران. بينهما برزخ لا يبغيان. فأين "فعلن" من "فاعلاتن"؟ كل ما أرجو ألا نكون في صدد دعوة إلى تنويع الأوزان في داخل القصيدة، فالوزن جزء هام من وحدة القصيدة. ثمّ إن "المتدارك" و"الرمل" لا يمكن أن يجتمعا دون أن يخدشا السمع. على أن افتراضنا أن يكون الانتقال من وزن إلى وزن دعوة قصدتها الشاعرة لا يعفينا من نقد القصيدة في حدود هذا الفرض. فهي لم تحاول تركيب الوزنين في مقطوعات على أسلوب يجعلهما يتناوبان لتتماسك القصيدة، وإنما تركتهما منفصلين فكان القسم الأول كله من "المتدارك" والقسم الأخير كله من "الرمل" وهذا شيء لا مثيل له جعل القصيدة قصيدتين منفصلتين.
وفي حقل الأسلوب نجد الشاعرة تبدأ القصيدة بالسرد تحكي به عن نفسها، وما تفتأ حتى تدير حواراً مفاجئاً يحزر القارئ أنه لابد أن يكون بينها وبين رفيقها. وفي ختام القصيدة تعود إلى السرد لتخبر القارئ أن زورقها غرق في "عينيه". وهذا التنقل من السرد إلى الحوار إلى السرد يبدو بلا غاية. فأين التجربة العميقة التي تبيح استعمال الحوار هنا؟ وما العقدة في هذه القصيدة؟ لا بل علام الضجة كلها؟
الآداب،س1، ع3، بيروت، آذار 1953.

 

ملحق بالقصائد التي تناولتها نازك الملائكة بالنقد والتعليق:

الطيب المستبد
صلاح لبكي

        أنا ياهواي، أموت وجداً
        ولو أننـي أبديت صدا
        فلأنت طيب طيب في دمي
        يجـري ويعبــق مستبـدا
        وأراك خلف ملامح الأشياء
        تـوعـــد عنـك وعـــدا
        فـــــأرق للجلمـــود مــــن
        من شغف بما أخفى وأبدى
        وتشيع عيني في الغصون
                                        العـاقــدات عليـك عقــدا
        ويمر بي النسيم البليل
        فألمس الكف المندى
        ويرقرق الينبوع صوتك
        لي فمـا أهنـاه وردا
        أفتبعـــدين وقـد وجــدت
                        فدتك روحي الوصل بعدا
        وطمعت بالأدنـى إليـك
        فننتهــي طيبــــاً ووردا
        لاتبعــدي إنـي أمــوت
                                        هـوى ولو أبديـت صـدا

فـتــــور
سليم حيدر
غَمامْ
غمامٌ جَهامْ
تلبَّسَ وجه الحجرْ
وحَرٌ شديد الأوام
لهاثُ الضجر
تصاعد حقداً يغشّي الغمامْ
*
غيومٌ تَسدُّ السماءْ
وخلف الغيوم عروس الفضاء
تَبرَّجُ في خدرها
وفوق الحضيض
خمولٌ بغيض
يدمدم في الأرض لحن العفاء
ويرسو على صدرها!
*
فتورْ
فأهل الخدور
وأهل الوكور
كسالى ... مواتٌ كأهل القبور!
لزوجةُ هذا الهواءْ
تثير الجفاء
متى يستفيق العبير؟
*
متى تعصف العاصفةْ
فتجلو الغيومْ
وتنطلق الكاسفةْ
ويسلس هبُّ النسيمْ؟
*
وهذا الفتورْ
وما بيننا من جفاء
متى يستطير؟
متى يا حبيبتي يسحُّ الغمامْ
فينضو السقام
وينصل عهد الصفاء؟

حواء الجديدة
توفيق عواد (طهران)

سألـــت عنهـــا الفجــر في عريـــه
والــورد مبثـــوثـــاً عليــه النــــدى
أقــول: ياغفـــو اشتمـــل جفنهـــــا
طــوف بهـا فـي دنيــــوات الهنــــا
أهيـــم، و الدنيــا ازدحـــام المنــــى
في القرب، في البعد، وخلف المدى
عشـــرون أو توشـــك أن تنقضــي
أمسي على الشـوق وأغـــدو كـــأنْ
فأعجــب لظمـــآن مـــدى دهــــره
و رب عمــر لـي تفضـى و مــــــا
فــي أي دنيـــا قبــل هــذي التقــت
فـأنــت وجــــه لـــجّ بـي طيفــــــه
و أنـت طعـــم الحلـــو قبــل الجنى
و أنــت أدنــى مــا تكــون المنــى
أم أنـــت ضلـــع الله مــن أضلعـي
نظـــلّ يفنــــي بعضنــــا بعضـــا 
و الشفـق الكاسي ثوب العقيــق
و المسك مشبوب الحنايا فتيــق
و رفّ يا حلــم جناحــاً طليـــق
و رشهـا بالطيـب حتـى تفيـــق
فينثنـي بــيّ إليهـــا الطـريــــق
يشــدّ روحينـــا وتيــنٌ وثيـــق
و كـلّ يـوم لــي جديــد عتيــق
لم يرتشف ثغر ولا ابتلّ ريــق
و المـاء فـي كفيــه ثـرّ دفيـــق
سبــرتُ فيه بعض سرّ عميــق
أعيننـــا؟ فــي أي وادٍ سحيـــق
مـن أزلٍ، و رجعُ صـوت شفيـق
وأنت معنى السكر خلف الرحيق
بعداً، فما في الكف غير البريــق
أعشقنـي فيــك و فـيّ العشيـــق
تبقى الشرارات ويبلى الحريـق



الكون المسحور
فدوى طوقان (نابلس)

عيناي مغمضتان ترفّ بأعماقهما روحي وترى
تنزاح أمامي الآن حدود
تنهار سدود
أسمع، أبصر ما ليس يُرى
*
أحيا في كون مسحورِ
وقرارة منتصف الليلِ
تنشر حولي
أمواج عبير منهلِّ
*
الأرض القفر تلاشت؛ ألمح في الصمت خيال ضفافِ
النخل على الشط الغافي
تومئ لي أذرعه الخضرُ
ألمح في الصمت خيال النهر جرى غيبيَّ الأطيافِ
يتدفق من عمق الأزلِ
وهناك على صدر النهرِ
تتغامز أضواء القمر
وتراقص في لحن غزِلِ
أحلام النهر الهفهافِ
النهر يلوّح لي النهرُ..
رفات شراع تدعوني
عاشقة الهمس وتفتح لي
أبوب الفرحة والأملِ
أنا الزورق روحٌ طافِ
في زورقه معه وحدي
معه ويدي
راعشة الفرحة غائبة في الغاب الوحشيّ الجعد!
الكون تجمّع في عينين
روحي قد غرقت في شفتين
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_: حدقــي (ليلـى) إلـى عينيّ، ماذا تبصريــن؟
_: ما الذي أبصر في عينيك؟ ماذا؟ لست أدري
عالمي المفقود؟ دنياوات أحلامي وشعري؟
مالذي أبصر؟
آفاقاً وأغواراً سحيقة
وبحاراً غرقت فيها سموات عميقة
وبعينيك نجوم تتألق
وغموض مدّ كالمجهول، كالغيب الخفيّ
وسحاب غطّ في ليل شتائي دجيّ
هو من إعصار ماضيك بقايا
ذكريات دفنت فيها خطايا!
وأرى ذاتي. أرى ذاتي في عينيك زورقْ
تائه الغاية في لجهما يطفو ويغرق
فقد الشطّ، وفي غمرة شبك وصراع
حطمت مجدافه الريح وألوت بالشراع


نشرت هذه القصائد جميعها في: الآداب، ع2، بيروت، شباط 1953.