نحو مجتمع عربي أفضل

التجزئية في المجتمع العربي

نازك الملائكة

 

1
لو سئلنا  أن نصف المجتمع العربي المعاصر بكلمة جامعة تعبر في إيجاز ووضوح عن حالته الحاضرة، لوصفناه بأنه مجتمع "قلق"، ولأمدتنا الكلمة بمعان واسعة تشمل مختلف الجهات العملية والانفعالية والذهنية لهذا المجتمع. والقلق من وجهة النظر الاجتماعية نذير عاطفي يرفع صوته ليدلنا على أن جهة من حياتنا قد فقدت نقطة ارتكازها وبدأت تنهار. فهو أشبه بجرس خطر ترسله أعماقنا الصامتة وترمي به إلى إنذارنا. إننا نقلق، لأننا قد بدأنا نملك وعياً بحياة أسمى من الحياة التي نحياها، وكأننا قد بدأنا نتجزأ إلى كيانين أحدهما يدرك الحاضر والآخر يدرك مستقبلاً حياً يجعله يقارن ويبدأ بالاحتجاج. فالقلق ليس إلا رد فعل صحيّ نواجه به نقص حياتنا. إنه أشبه بالحمّى التي يقابل بها الجسم الصحيح طلائع المرض المهاجم.
وهذا القلق يتخذ أشكالاً مختلفة، منها الشكل البسيط الذي يعانيه الأفراد على صورة توتر نفسي مستمر، ومنها أشكال معقدة أبرزها ما سنسميه هنا بقلق المقاييس ونعني به نظمنا وعدم ارتكازها إلى مستند نظري ثابت. فنحن إجمالاً قوم حائرون لا نملك آراء مستقرة ولا نثبت على خطط، وحتى إذا أتيح لنا أن نختار خطة عامة فسرعان ما نتركها قبل أن نبلغ النتيجة. وما هذا إلا لأننا ننظر إلى الموضوعات من مستويات متعددة تتجاذبنا فتتداخل أحكامنا وتتعدد ارتكازاتها. وليس أكثر ضياعاً من مجتمع يسمح لوجهات النظر المتعددة أن تنفذ إلى حياته. فالحياة ملأى بالمفاهيم المتناقضة وما من فكرة نؤمن بها، إلا وهناك فكرة معاكسة تعارضها. إن سلوكنا، في هذه الحالة، يفقدُ النقطة التي يمكن أن تقيسه وفقها، ولهذا لا يمكن أن نقيسه. وهو في هذا يشبه "السرعة" التي يستحيل أن نقيسها ما لم نملك نقطة ثابتة في مكان ما، فإذا لم يكن ثمة ثبات لم يمكن لنا قياس السرعة. وهذا الثبات المفقود في حياتنا يحرمنا من أن نتمسك بأي حكم، فلكل قضية فيما يلوح لنا وجهان متعاكسان.
ومن هذا التقلقل الفكريّ العام تنشأ الظاهرة الكبرى التي تتغلغل في حياتنا كلها. وهي الظاهرة التي نختار أن نسميها بالتجزيئية، ونقصد بها جنوحنا إلى عزل الظواهر عن بعضها ودراستها مفصولة وكأننا نفترض أن حياتنا تتكون من مجموعة من المجالات المتضاربة التي اجتمعت مصادفة في خليط. فنحن قد اعتدنا أن نلتقط من كل مستوى من مستويات الفكر نقطة نسلط عليها الضوء وندرسها معزولة عن سائر النقاط، فبدلاً من أن ندرس مشاكلنا باعتبارها محصلة لمختلف القوى، نعمل على عزل هذه القوى عزلاً قاطعاً فنتناول اللغة وكأنها عنصر مفصول عن الدين، ونرى للسياسة كياناً منفصلاً عن قضايا الفنّ، ويخيل إلينا أن العلوم دائرة معارضة لدائرة الآداب، وتلوح لنا الشؤون الاقتصادية بعيدة عن شؤون الجمال والعواطف. وهكذا تنتهي بنا كل دراسة إلى زاوية ضيقة نصدر منها أحكاماً مصطنعة تزيدنا حيرة وارتباكاً.
والحق أننا نكاد ننسى أن حياتنا ليست في حقيقتها غير ترابط متين يشد هذه العناصر كلها في وحدة وثيقة، حتى تكاد كل ظاهرة أن تحتوي في عالمها الأصغر على صورة كاملة للظواهر الأخرى. إن بين مختلف العناصر التي تتألف منها حياة المجتمع علاقة تشبه قانون السبب والنتيجة، فكل عنصر إنما هو نتيجة للعناصر الأخرى وسبب لها أيضاً.
إن تشبيه المجتمع البشري بالكائن العضوي ليس تشبيهاً عاطلاً. وأحد أوجه الشبه أن أي نموّ في وظيفة من وظائف الجسم الاجتماعي لا بد أن يكون مصحوباً أو متبوعاً بنمو مماثل في الوظائف الأخرى. كما أن درجة التعقد في الوظيفة الواحدة يمكن أن يعد مظهراً دالاً على تعقد الوظائف الأخرى. وينشأ هذا عن تداخل الوظائف التي توشك أن تشبه الأواني المستطرقة التي تستوي فيها سطوح السوائل، فما تكاد إحدى الجهات تعلو حتى يتسرب العلو ويتوزع على الجهات الأخرى. وهكذا فإننا لا نبعد كثيراً عن الحقيقة عندما نحكم بأن ثورة في أساليب العمل يحدثها مصنع صغير للكراسي، لا بد أن تصحبها على وجه ما ثورة في نواحي الحياة الأخرى. وهذا لأن الثورة في مصنع الكراسي لا يمكن أن تكون قد نبتت نبوتاً سحرياً في لحظة من الزمن، وإنما هي نتيجة اجتماعية معقدة لعشرات من الأسباب التي لا بد أن تكون قد مست في تطورها جهات المجتمع الأخرى. هذا فضلاً عن تأثير هذه الثورة في مختلف المجالات التي تمسّها. وإذا ضربنا لهذه النقطة مثلاً نختاره من الفن، استطعنا أن نقول أن الفنان الذي يثور على القيم الباهتة في دائرة فنه ويحل محلها قيماً أخرى جديدة إنما هو في آن واحد مظهر لثورة تتهيأ في جهات أخرى من المجتمع، وعامل مؤثر لا بد يؤدي إلى ارتفاع المستوى في سائر النواحي. وذلك لأن من طبيعة المجتمع أن تتوازن فيه القوى كما تتوازن سطوح السوائل، فما تكاد جهة معيّنة فيه تتطور وتصعد في نموها حتى تتوتر الجهات الأخرى وتتصدع أسسها وتبدأ بالانفجار.
والنتيجة المباشرة لهذا الاتجاه التجزيئي هي ظاهرة (التضخيم) التي نلمسها في مختلف نواحي حياتنا. فنحن نمنح بعض الظواهر قيمة أعظم مما تستأهله إلى جانب الظواهر الأخرى، فنضخم أحد عناصر المجال تضخيماً شديداً لا نفطن إليه لأننا قد عزلنا هذا العنصر عن سائر العناصر. وخير مثال لهذا ما نراه اليوم من حدة الاتجاه إلى اعتبار السياسة هي الموضوع الوحيد الذي ينبغي أن يشغل ذهن المواطن العربي، حتى يكاد الفرد الاعتيادي يؤمن إيماناً قاطعاً بأن كل نشاط آخر غيرها هو ترف بالنسبة إليها. خاصة ما تعلق بشؤون اللغة والفن والجمال.
إن هذا الأسلوب في التقييم ينمّ عن إيماننا بامكان قيام المجتمع على ظاهرة واحدة فيه، بحيث تصبح هذه الظاهرة مقياساً نحكمه في الظواهر الأخرى. ونحن كلنا قد قابلنا نموذج الرجال الذين يرفضون الفن في احتقار لأنه لا يطعم خبزاً. وهم في الحق يذكروننا بالأسلوب الذي ناقش فيه فوستاف قيمة الشرف في بعض مسرحيات شكسبير. فقد وقف يفلسف الشرف على الأسلوب التالي: "أفي وسع الشرف أن يداوي ساقاً؟ كلا. أو يداً؟ كلا. إذن فما حاجتي إليه؟" وهذا مطابق تماماً للحجج التي يوردها معاصرونا رداً على كل نشاط لا يتعلق بشؤون الحياة المعاشية. فكما أن الشرف من وجهة نظر الجراحة عاطل من المعنى، كذلك يبدو الفن الذي لا يستطيع ان يساهم في الانتخابات ولا أن يعدل معاهدة. وإنما ينبع الخطأ في حالة فولستاف وحالتنا من التضخيم الذي نختار أن نصبه على جهة واحدة من جهات مجال واسع، بحيث تستحيل هذه الجهة مقياساً نحكمه في سائر الجهات، بدلاً من أن نعثر على المقياس الكبير الذي يتحكم في الجهات كلها. فالشرف والجراحة والشعر والسياسة كلها أشياء ضرورية في حياة المجتمع، ومن السذاجة أن نتخذ واحداً منها مقياساً لفائدة الآخر. وذلك لأن هنالك مقياساً واحداً يتحكم فيها كلها وهذا المقياس هو الإنسان.
 2

إن المظهر الأول للتجزيئية في المجتمع العربي هو أنه ما زال في صميمه مجتمعاً محافظاً، على الرغم من كل ما اعتراه من تطور في المظاهر. فإن التطورات قد داهمته كما تدهم موجة جارفة، فانغمس فيها دون أن يغير اتجاهه الداخليّ. ومن ثم فإن النواة مازالت تحتفظ بشكلها على صورة نظم وقوانين. أو بكلمة أخرى إن الذي تغير هو الظروف فحسب، أما الأسس فمازالت هي الأسس التي عرفها أجدادنا منذ قرون طويلة.
والمحافظة مرتبتان، مرتبة يكون فيها الإنسان المحافظ مختاراً يحكّم حاجاته في موقفين فيختار أحدهما، ومرتبة أخرى واطئة تصبح فيها المحافظة إجبارية. فالمرتبة الأولى إيجابية وهي قد تكون صفة المجتمعات الفتية العاملة. أما المرتبة الثانية فهي ملازمة للمجتمع الهرم، وهي أشبه بالتكلس الذي يعتري شرايين رجل شيخ. أو لنقل أن المحافظة في هذه الحالة ضرب من الشيخوخة، وامتدادها عبر القرون يتضمن فصلاً تاماً بين ظروف أمة وقوانينها. وهو فعل لا يستند إلى حجة فكل وجهات النظر تدحضه.
فمن وجهة النظر البايولوجية يبدو أن المحافظة مخالفة لخط النموّ الذي تفضله الحياة الكاملة لأنها في حقيقتها نوع من السكون يعتري العقل الإنساني. إننا حين نقدس المقاييس التي انحدرت إلينا جاهزة، إنما نقرّ برغبتنا في ألا نعكر الراحة التي يتيحها لنا هذا التقديس. والحق أن التقديس يمثل بالاعتبار البايولوجي النقطة المنخفضة في موجة الحياة. لقد خلق الذهن الإنساني ليتجدد بالآراء الجديدة تجدداً أبدياً، وهذا التجدد ضروري لأنه ينميه ويمنحه المرونة وقابلية البقاء، ومن ثم فإن سكون المحافظة لا بد أن يكون مضراً به. إن السكون ينبغي أن يكون فاصلاً بين حركتين، وهذا المقياس البايولوجي. إنه كالنقطة المنخفضة في الموجة فائدتها أنها تهيئ لقمة جديدة. والموجة عندما تتريث في نقطة منخفضة إنما تجمع طاقتها للحركة التالية. وكذلك المحافظة فهي في الحقيقة فترة تجمّع يهدأ خلالها الذهن الإنسانيّ ليقفز القفزة التالية. فإذا طالت هذه المحافظة قروناً دلّ الأمر على أن المجتمع قد هرم. إن الموجة التي تبقى في نقطتها السفلى لم تعد موجة على الإطلاق.
وهكذا تصبح المحافظة تحدياً للحياة وإلحاداً بها، لأنها عندما تفرِض فكرة جامدة على حياة إنسانية متطورة تعمل قبل كل شيء على أن تشُلّ العقل وتسلمه إلى السكون. وهي لا تتوصل إلى هذا إلا بأن تفصل الإنسان الواحد إلى جزءين في أحدهما الاندفاعية الاجتماعية العمياء، وفي الآخر العقل المتقاعد الذي تراكم عليه الغبار فوق رفّ مهجور. وهكذا ينتهي بنا التقديس إلى أن يتجزأ الإنسان مع أنه في الأصل كلّ متماسك ينمو صاعداً في اتجاه قواه الفطرية كلها. وليس خافياً أن هذه التجربة التي يسببها المجتمع تدل على أن هذا المجتمع لم يعد كفؤاً لحماية الجماعة. فالمجتمع الذي لا يضمن تطبيق قوانينه العامة إلا باللجوء إلى تقسيم الإنسان الواحد إلى أجزاء مختلفة، هو حتماً مجتمع مختلّ.
والاعتراضات التي نحصل عليها من وجهة نظر التاريخ لا تقل صلابة. فالمحافظة في نظر التاريخ تتضمن الفصل بين النظم والزمن. وهذا مخالف للمفهوم التاريخي للقانون وهو مفهوم تطوري ينشأ عن الانسجام التام بين العوامل البيئية والقوانين المفترضة التي تناسب الظروف كلها لا بد أن تكون قوانين يتغلب عليها عنصر العمومية وتتعالى عن التفاصيل كتلك الأقفال التي تفتحها المفاتيح كلها. إنها قوانين غير تاريخية تتعلق في الفراغ بلا زمان ولا مكان. يضاف إلى هذا أن استمرار نظمنا القديمة على ملائمة حاجاتنا يدل في وقت واحد على عموميتها وعلى سذاجة حاجاتنا.
والحق يقال أن القوانين من وجهة النظر التاريخية إنما هي أفكار ذات ثلاثة أبعاد: بمعنى أنها تلائم مكاناً ما في زمان ما فحسب. ولاينشأ التاريخ القومي إلا من تطور هذه الأفكار ونموّها الدائم مع العصور، بحيث يمكن أن نقول على وجه ما إن التاريخ هو البعد الرابع للقانون. وهذا يجعل جمود القوانين على شكل معين استمراراً لوضع ذي ثلاثة أبعاد وهو ما لا يمكن قبوله تاريخياً.
أما وجهة النظر القانونية فهي تضع أيدينا على مكان الجرح، وتدلنا على سر الأزمة النفسية التي يعانيها الفرد العربي في هذه الفترة من حياته. إن هناك تعارضاً مستمراً وتصادماً لا ينتهي بين المجال المفترض أن الجهة النظرية من السلوك قد اكتملت واكتسبت عقوباتها في زمن، بينما يكتسب السلوك الواقع شكله من متطلبات زمن آخر لا علاقة له بالزمن النظري. أو لنقل أن العقوبات تنتمي إلى دائرة أخرى غير تلك التي تحدد السلوك.
إن دراسة موضوع العقوبات الاجتماعية لا بد أن تنتهي  إلى تلك المنطقة الحساسة التي تعارفنا على تسميتها بالضمير. ونقصد بها مجموعة النواهي والزواجر المقبولة في مجتمع ما. والمجتمع يتناول أفراده منذ مولدهم فيغرس فيهم مبادئ ضميره بتفاصيلها، حتى إذا ارتكب الفرد عملاً مخلاَ وأخطأته العقوبة القانونية تناولته عقوبة أعماقه. فالضمير على هذا منطقة اجتماعية تكمن في أعماقنا، وهي منطقة مسوّرة لا تستطيع اقتحامها. إن المجتمع يقفلها بنفسه. وهذه الحصانة التي يملكها الضمير تجعله قوة مخيفة في وسعها أن تهدم الحياة وتبنيها. والأمر يتوقف على نوع محتوياته. ففي المجتمع الفتي الذي يستمد عقوباته من إمكانيات الظروف القائمة يصبح الضمير قوة خير تدفع بالأفراد إلى الحيوية والحماسة وغنى الروح. أما في المجتمع المتحلل فهو يصبح طاغية مستبداً يصب العذاب على الأفراد لأنه يستند إلى تفاصيل تعارض ظروف الحياة التي تتاح للأفراد. وهذه هي حالة مجتمعنا العربي المعاصر، فهو يمر بمرحلة يتعارض فيها الضمير مع الظروف القائمة. والفرد الذي يعيش في مثل هذا المجتمع يحتمل بالضرورة وخز ضميره دون ذنب، لأن الظروف التي تسوقه إلى ارتكاب العمل هي نفسها التي تحرض عليه ضميره. وهذه الحالة لا تقبل من وجهة نظر القانون، فالأصل في كل عقوبة أن تكون مستمدة من الظروف البيئية والطبيعة الإنسانية.
والحالة تثير اعتراضات مماثلة من وجهة نظر الاجتماع. وذلك لأن الغرض الأساسي من وجود المجتمع هو حماية الأفراد، وهذا الغرض يبدو مفقوداً في حالتنا هذه. إن المجتمع الذي يسلط على أفراده ضميراً أحمقاً مستبداً، إنما هو عدو للفرد بدلاً من أن يكون صديقاً له يعينه على إبراز مواهبه ويؤدي به إلى طريق الغبطة والعمل. فهو يتطلب منه أشياء لا يبيحها مندوبه السري: الضمير، ويحيط الأفراد بظروف تضطرهم إلى الإخلال بواجباتهم المفروضة ثم يعاقبهم على هذا الإخلال وفق القواعد القديمة، فكأنه في هذه الحالة يخونهم، كذلك الملك الطاغية الذي كان يسقي رجال حاشيته الخمر ثم يجلدهم لأنهم يترنحون.
إن المجتمع في هذه الحالة يستحيل إلى اثنين: واحد يملي الأعمال على الأفراد والثاني يصدر الأحكام والعقوبات. أو أنه ينقسم إلى أعمال تقف في جهة، وأحكام تصدر من جهة أخرى. ومعنى هذا أن شطراً منه هو الذي يرتكب الإخلال والشطر الثاني هو الذي يتلقى العقوبة. وكل هذا ينتهي حتماً إلى أن المجتمع قد تفكك وتخلى عن وظيفته الأساسية، فلم يعد كياناً موحداً تنمو عناصره كلها في اتجاه واحد، وإنما بات كل عنصر فيه يتجه إلى جهة خاصة في فوضى وارتباك.
ولا يقف عجز المجتمع عن حماية أفراده عند حدود السلبية وإنما يتعداها إلى عرقلة نموهم بالضجيج الذي يحدثه ضميره الهرم، ولذلك ينبغي ألا يتحول الضمير إلى قطعة جامدة عمياء تقبع في أعماقنا معتصمة بالظلام. إن الضمير ينبغي ألا يكون عنكبوتاً. وعلى المجتمع أن يعمل على تطوير محتوياته تحاشياً لثرثرته وإلا فهو يظل يصرخ في أعماقنا ويخلق لنا عشرات من المشاكل. فهو على أثرنا أبداً، لأنه ينبع من أعماقنا الاجتماعية. وهذه الأعماق ليست ملكاً لنا.
3
وإذا انتقلنا إلى ميدان الأخلاق صادفنا الاختلال نفسه، والأخلاق هي في الحق الجانب الفردي من القانون، ولذلك فنحن نجد هنا السمات العامة التي وجدناها هناك، من تجزيئية وتضخيم لظواهر معينة.
وأول ما نلحظه أن الأخلاق العربية تقيم هاوية سحيقة بين العقل والعاطفة. فالمجتمع العربي مازال محتفظاً بالميل القديم إلى اعتبار العواطف شيئاً مناقضاً للتفكير والتعقل، ولم يزل يعدّ أن كبت المشاعر مظهراً ملازماً للحكمة. إنه يعتقد أن بين العقل والاحساس حرباً لا نهاية لها. وإن الإنسان الذي يستحق الاعجاب هو الذي يسيطر على أحاسيسه ويخلو من العواطف.
والمثل الأخلاقي العربي الذي يجعل من الرقة ضعفاً مازال ملموساً في حياتنا العاطفية، حيث نجد الرجل المعاصر لم يزل يحتقر أن يذرف الدموع حتى في أدق الحالات. كما أنه على العموم يترفع عن الجهر بالحب ويعتبر هذا جانب لين في حياته ينبغي أن يطوى. وتبلغ هذه العقيدة درجتها القصوى كلما انحدرنا نحو الطبقات الشعبية العامة، فهناك سنجد النموذج المفضل للرجل نموذجاً قاسياً، حتى يكاد أغلب الرجال يفخرون بمقدرتهم على تعذيب قطة أو انتزاع عنق عصفور. وما هذا إلا لأن العاميّ يعد الرقة والحساسية والشفقة مظاهر نسائية ... وهو يحب أن يكون رجلاً.
إن هذا الفصل بين العاطفة والتفكير يرتكز في أساسه إلى النظرة القديمة التي كانت تزعم أن الإنسان مقسّم إلى أجزاء بعضها خيّر وبعضها شرير. وهذه النظرة لا تملك معنى من وجهة نظر علم الحياة، فالإنسان متماسك، وتقسيمه أمرٌ مستحيل علمياً. والحق أن للعواطف قيمة بايولوجية عظيمة في حياة الإنسان، ومن دونها تتوقف الحياة. وقد وجدت مشاعر الفرح والحزن والحب والمقت والقلق والشوق والطموح والغيرة لا لتكون قيوداً للإنسان، وإنما لتؤدي وظيفة فيزيولوجية ريئسية. وهذا يجعل مبدأ العقل المجرد مستحيلاً. إننا عاطفيون لأننا نحتاج إلى أن نكون عاطفيين. أما أن نحاول قتل عواطفنا فهو يؤدي حتماً إلى أن نضيق إمكانيات الإنسانية.
هذا فضلاً عن أن الحكم بالشر والنقص على جهات معينة من الإنسان، يفترض مقياساً خارجياً لا تعرفه البشرية. فحياتنا لا تقدم لنا ولو نموذجاً صغيراً لهذا العقل المثالي المجرّد الذي تتجه بنا أخلاقنا الوضعية إلى تقليده، لأننا في الحقيقة لا تعرف أية صورة أخرى غير صورة إنساننا الأرضي هذا. فهو الحقيقة الوحيدة التي نملكها، ولذلك ينبغي أن نتخذه نقطة نبدأ منها كل مقياس أخلاقي ندين فيه. فالإنسان قد وجد في الطبيعة قبل أن توجد آراؤنا الصغيرة فيه وفلسفتنا، إنه لتطاول منا أن نجلس على كراسينا المريحة في أيام الصحو والرخاء فنصدر عليه أحكاماً تبتر فيه هذه الجهة وتقص تلك وفق رغباتنا.
إن هذا المجتمع الذي يجزئ الإنسان الواحد إلى شرّ وخير إنما يعلن عن عجزه عن حماية أفراده. ومثله في هذا كمثل خياط مبتدئ. يصنع قفازاً ذا أربعة أصابع لكفّ إنسانية طبيعية، ثم يطلب بتر الإصبع الخامسة بدعوى أنه شرير لا فائدة له. ذلك أن هذا الخياط يصنع ظروفاً مبتذلة تجعل شيئاً رائعاً كالإصبع يبدو شراً ينبغي بتره. وهذا ما يصنع المجتمع العربي بالإنسان. فهو بدلاً من أن يتناوله ويصوغ له مقاييس تقدّر ميوله وإمكانياته الفطرية وتعينها على الانطلاق والحيوية...يصوغ مُثلاً ضيقة تخنق طاقته وتشلّها.
إننا نعتقد أن الإنسان هو معجزة الطبيعة الكبرى التي لم يكشف عنها الغطاء بعد وأن أية شريعة يؤدي بالطبيعة الإنسانية إلى الانكماش والضمور وتجعل القوى الروحية تتبدد وتضيع لا بد أن تكون شريعة صبيانية تلحد بالطبيعة المبدعة الحكيمة، وليس الشرّ والنقص إلا في قوانينا التي نريد أن نصحح بها أخطاء الطبيعة الكاملة.
أما المظهر الثاني للتجزيئية في ميدان الأخلاق، فهو أسلوبنا في النظر إلى قضايا الأخلاق، وهو أسلوب يستند إلى الاعتقاد بأن للأخلاق مقياساً ثابتاً لا تغيره العصور ولا البيئات، لأنه نهائي ولأنه غاية نفسه، وكأنه مبدأنا هو: "الأخلاق من أجل الأخلاق" بدلاً من: "الأخلاق من أجل الإنسان".
إن الحقيقة التي ينساها الأخلاقيون عندنا هي أن الإنسان ليس موضوعاً مجرداً، وإنما هو حادث بايولوجي. أو أنه ليس كتلة وإنما هو عملية. ومن ثم فإن كل ما يتعلق  بهذا الإنسان ينبغي أن يكون متصفاً بالحركة وقابلية التطور. فالسكون نقطة لا تمر بها حياتنا، وإنما تنتهي إليها. إننا نسكن عندما نموت. وعلى هذا فإن مفهوم الأخلاق الإنسانية لا يمكن أن ينطوي على سكون وإنما يجدر به أن يكون تحركاً دائماً في مجال الحياة الواسع. والحركة الفاعلة يجب أن تكون هي الأساس في كل نظام أخلاقي بشري. لأن الحركة هي حاجة الحياة القصوى. ونحن إذا أقررنا بهذا، فسنرى فوراً أن الأخلاق التي يدين بها المجتمع العربي أخلاق سكونية سالبة تتخذ نقطة ارتكازها في المظهر لا في الفعل.
وخير دليل على السكونية في أخلاقنا احترامنا التقديسي لفضائل مثل العفة والنزاهة والإباء والصدق فهي كلها لو دققنا فضائل سالبة لا تنطوي على فعل وإنما تستند إلى امتناع.
فالعفة مثلاً ليست فعلاً وإنما هي امتناع عن فعل وكذلك النزاهة والصدق والصبر والإباء والأنفة وغيرها. إننا لا نحاول إطلاقاً أن ننكر المضمون الجميل لبعض هذه الصفات، إلا أننا ننكر أن تكون لها فائدة إيجابية للحياة. والمضمون الفلسفي للخير يجب أن يشمل أداء عمل يفيد الإنسانية ويضيف إلى جمال الحياة وخصوبة الأرض ويشق للنوع البشري طرقاً جديدة إلى الأمام. أما الامتناع فهو خلق سكوني، لا تنبع فائدته إلا من اعتبارات موضوعة لا تعترف بها الحياة.
إن إلحاحنا على الفائدة البايولوجية التي يجب أن تتوخاها كل أخلاق إنسانية يجعل النظرة العربية إلى الأخلاق نظرة غائية هدفها الأخلاق لا الإنسان. والمجتمع العربي يحتاج اليوم إلى أن يوسع دائرة اعتباراته، فيدخل الأخلاق الايجابية في دائرة الضرورات وينحي الأخلاق السكونية عن المركز. إن المودة والكرم والرحمة والإقدام والعمل والثبات واللطف صفات أجدر بالعناية والاحترام من الصفات السلبية التي ذكرناها. ومن المؤسف أن يمضي المجتمع في اعتبارها ضرباً من الترف الخلقي لا تدخل في المقاييس الأساسية. فإن في هذا تجزيئية تعزل الأخلاق عن الحياة، فتقيّم الفضائل والرذائل تقييماً يجعل الفرد يعتاض عن تحقيق الخيرتحقيقاً إيجابياً ويقنع نفسه بخيال الشرف السلبي الذي يظنه يغني عن كل صفة أخرى. ذلك أنه لايسرق ومن ثم فهو نزيه، وهو لا يكذب فهو إذن صادق، وهو لا يشكو فهو صبور، وهكذا يحصل الفرد العربي على التخلق دون أن يكلفه هذا جهداً. وهذا هو النقد الأكبر الذي نوجهه إلى نظامنا الأخلاقي، فهو نظام يفصل بين الأخلاق وموضوعها.
4
وإذا انتقلنا إلى موضوع المرأة صادفنا التجزيئية في مظاهر أكثر تنوعاً وتعدداً. فالموضوع كله قائم على تجزئة للمجتمع تقسمه إلى نساء ورجال. وقد جرت العادة على أن نتحدث عن مشاكلنا الأدبية والسياسية والاجتماعية مصنفة ونعزل من بينها مشكلة خاصة نسميها المرأة، وكأن المشاكل الأخرى هي مشاكل الرجال فحسب. وهكذا نرى الصحف والإذاعات تخصص زوايا مبتذلة صغيرة تتناول فيها الأشياء التي تفترض ألا شيء سواها يهم النساء كالأزياء وتسلية الضيوف والمجاملة وشؤون المنزل وغير ذلك مما لا تخلو منه حياة الإنسان دون أن يكون عنصراً تقوم عليه الحياة.
وقد أدت هذه التجزيئية إلى مشكلة تقسيم العمل بين الرجل والمرأة. فإنه تقسيم استندنا فيه إلى الجنس لا إلى الكفايات الطبيعية والميول، فما دامت المرأة امرأة فهي ملزمة بأن تقصر نشاطها على العمل المنزلي مهما كانت ملكاتها الفطرية واتجاهاتها. ولقد كان لهذا التقسيم نتائج عاطفية واجتماعية عميقة في سلوك المراة وأخلاقها، وذلك لسبب بسيط هو أن الأعمال المنزلية لا تستنفد من القوى العقلية والنفسية التي يملكها الإنسان إلا جزءاً يسيراً محدوداً، فهي تكاد لا تزيد على أن تكون نشاطاً يدوياً محضاً يمرّن جهات قليلة من وظائف الجسم الكثيرة المعقدة. ومن ثم فهو لا يستنفد من كل ما ركب في المرأة من طاقة إنسانية محتشدة. وهذا ليس تبذيراً لا يبرره شيء فحسب، وإنما هو أيضاً مصدر خطر على كيان المرأة بما يسببه لها من تفاوت في مستوياتها الوظيفية.
وتنتج عن هذه التجزئة الوظيفية ثلاث نتائج نلمسها واضحة في حياة المرأة  العربية. وأول نتيجة أن جهة خاصة من المرأة تنمو بينما تتوقف الجهات الأخرى. ويبرر هذا على شكل ركود ملحوظ في القوى الذهنية والعاطفية...أما النشاط الذهني فنحن نتفق على أنه نادر بين نسائنا المعاصرات حى يكاد الرجل المتوسط يعدّه شذوذاً حين يظهر. وأما النشاط العاطفي فلعلنا لن نتفق حوله. فالرأي الشائع هو أن المرأة تملك عواطف غريزة مكتملة، إلا أنها لا تملك أفكاراً، وهذه العواطف في نظرهم تغني غناء كاملاً عن الذهن الذي لا تستعمله المرأة. وقد ساعد الفنانون على انتشار هذه الفكرة عندما صوروا الأمومة وحناياها وغير ذلك.
على أننا لو رجعنا إلى قواعد النمو العضوي لوجدنا أن من غير المقبول منطقياً أن تنمو جهة معينة في حياتنا الإنسانية دون الجهات الأخرى. والعاطفة ليست منفصلة عن الفكر لتنمو منعزلة عنه، وذلك لأنه يديرها كما يريد الجسم كله. ومعنى هذا أن المرأة إن كانت لا تملك ذهناً مرناً نامياً فلا مجال لأن تملك مشاعر متكاملة، فالتفكير والشعور كلاهما محصول اجتماعي فيزيولوجي ومن ثم فهما ينموان معاً، وحين يتوقف أحدهما ويشل يتعرض الآخر إلى التجربة نفسها.
والحق أن المرأة في حالتها الحاضرة لا تملك عواطف ناضجة، فهي مفلسة في الجهة الشعورية إفلاسها في الجهة العقلية. إن العاطفة ليست كمية ثابتة تمنحها  الطبيعة للفرد وإنما هي كتلة تنتظر النمو والاتساع والنضج. إنها تكبر مع الإنسان وتخضع لنوع من التربية الدقيقة المتصلة. ولهذا نجد أن الإنسان المثقف يملك من العواطف أضعاف ما يملك الجاهل. لا بل إن رجل الشارع ليس مكتمل العواطف على الإطلاق، وإنما هو رجل عاطفي فحسب. ونقصد بالعاطفية هنا أنه يملك ما يملكه كل مخلوق حي من استجابات شعورية لمواقف معينة. وهو كثيراً ما يلوح عاطفياً بحكم العادة الجارية التي تحتم نوعاً من الاستجابة لنوع من المواقف. وهذا شيء غير العاطفة المكتملة بالمعنى الاجتماعي الواسع. فالاكتمال العاطفي حالة عالية معقدة من الانفعال يعرفها الناضجون فحسب. إنها نموّ روحي يجعل الإنسان يحس  بعواطف غنية تجاه الأشياء فينفعل للجمال، ويتذوق الحب الرفيع، ويحس بالنفور من القبح والجور والتناقض، ويضحك من أعماق قلبه وقت الضحك، كما يبكي في حرارة في حالات الحزن، وتعتريه الحماسة والشوق والقلق المبهم وغير ذلك من الانفعالات التي هي مزية إنسانية تميز المثقف الناضج عن الجاهل الفج. فأين هذا الاكتمال الشعوري في حياة المرأة؟ كل ما هناك إنها شعورية بالمعنى الفظ الذي شرحناه، وهذا هو الموقف الذي تمليه عليها الظروف الاجتماعية.
ألا ينتهي بنا هذا إلا أننا ونحن نقصد أن نقصر المرأة على حياة الشعور قد جعلناها دون قصد تتوقف عن النمو الشعوري؟ وهكذا باتت ضيقة حتى في نطاق الأمومة التي نعلم كلنا أنها عند المراة الشرقية تستحيل إلى عائق يعرقل استقلال الأطفال العاطفي ويصيبهم باختلال نفسي مزمن، بدلاً من أن تكون ينبوع توجيه حنون وإرشاد مبدع.
إن هذا النقص في تربية المرأة النفسية ملموس في بعض المظاهر الأخلاقية التي تتصف بها ويظنها أكثر الناس طبيعة فيها. من ذلك مثلاً الشعور بالحسد، وهو ينشاً عن ضحالة عاطفية تشل قابلية الحماسة والاعجاب في الإنسان. وهذا لأن القدرة على الحماسة مزية يملكها الناضجون عاطفياً، وهي تحميهم من أن يحسدوا الآخرين. إن اعجابنا بالصفات الجميلة في الآخرين هو الذي يعصمنا من أن نحسدهم فإذا كنا لا نملك عواطف نصرفها في الاعجاب كان لابد أن نشعر بالحسد. والمعروف أن المرأة تتصف بالغرور، وربما كان هذا صحيحاً، فإن فجاجتها العاطفية تبرره. فالمغرور هو كذلك انسان لا يتحمس، ومن ثم فهو لا يستطيع إدراك مظاهر الجمال والاكتمال في الآخرين فيظن أنه أكمل الناس. والحق أن الغرور كالحسد في أنه مظهر من مظاهر النقص العاطفي.
ونحن نستطيع أن نعلل سائر الأخلاق التي تنسب إلى المرأة بمثل هذا. فالعناد والتردد والخوف وسوء الظن ليست كلها إلا نتاج لتوقف النمو النفسي. إن إدراكنا لهذه الفكرة ضروري إذا نحن أردنا أن نحل تأزم حياتنا الاجتماعية، وذلك لأنها تجعل الأخلاق محصولاً اجتماعياً تعمل فيه أسباب من الواقع، دون أن نلجأ إلى فكرة الطبيعة. ولن يبدأ الإصلاح إلا إذا نزعنا هذه (الجبرية) الأخلاقية وانتظرنا من المرأة أن تسلك السلوك الذي يليق بها.
والنتيجة الثانية لتوزيع العمل هي مانسميه بظاهرة التعويض. إن الينوع المتدفق حين يوضع في وجه تياره سدّ مانع يغير اتجاهه وينسرب إلى أرض جديدة. وهذا ما يحدث للمرأة عندما نقسرها على أن تبدد طاقاتها العقلية والنفسية نقسرها أيضاً على أن تبحث عن منفذ جديد يستوعب هذه التيارات المحبوسة التي لابد أن تتدفق.
لقد وجدت الطاقة في الجسم البشري لتنبجس لا لحبس، ومن ثم فهي حين تجد الباب مغلقاً تضطر الجسم إلى إحداث نشاط آخر يعوض الطاقة المشلولة، فيخلق اتجاهاً جديداً يبذل فيه جانباً من حيويته التي يضر خزنها بالجسم. ويبدو هذا التعويض في حياة المرأة على صور كثيرة وأبرزها الأناقة المسرفة. إن هذه الجهة المتضخمة من حياة المرأة لا يمكن أن تبرر في قوانين الحياة، لأنها تستند إلى تضخيم مصطنع لزاوية واحدة من زوايا الجسم الإنساني. فالملابس لا تتصل بالمنابع الرئيسة للحياة لأنها لا تزيد عن أن تكون نشاطاً صغيراً يستدعي مقداراً قليلاً من الجهد العضلي والعقلي والعاطفي.
إننا نجهل أن كثيراً من الناس يعتقدون أن الطبيعة الأنثوية تحتم على المرأة أن تعتني بملابسها هذه العناية المفرطة، لأن اللباس في رأيهم وسيلة جذب للجنس الثاني، ولو تأملنا قليلاً لتوصلنا إلى أن الطبيعة أحكم من أن تترك أمر الجذب الجنسي للملابسات الخارجية. فهي تجهز الإنسان بكل الجاذبية التي يحتاج إليها في حياته. إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يلبس ملابس...والقطة ليست محرومة من الجاذبية مع أنها لا تجعد شعرها ولا تحمل حقيبة ولا تذهب إلى الخياطة. ونحن نستنتج من هذا أن علاقة الأناقة بالجاذبية علاقة غير مباشرة، ومن ثم فالمرأة لا تستفيد كثيراً من أناقتها المسرفة إلا إذا استثنينا العامل التعويضي.
أما ثالث النتائج التي نشأت عن تقسيم العمل فهو أن المرأة قد فقدت ثقتها بقدرتها العقلية والنفسية نتيجة لاستمرارها على أداء الأعمال اليدوية البسيطة. ونحن لا ننسى أن هذه الأعمال التي خصت بها المرأة مازالت أعمالاً يحتقرها الرجل الشرقي ويأنف من تأديتها، ولو أردنا أن نكون نزيهين لاتفقنا على أنها أعمال تافهة، ومن ثم فإن اقتصار المرأة عليها قد أدى تدريجياً إلى ان تهبط قيمتها في عيني الرجل. ثم تعقد الموقف ففقدت ثقتها بنفسها.
والتاريخ يمدنا بأدلة تكفي لأن تجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن احتقار المرأة ليس أصيلاً في المجتمعات العاملة، وإنما هو مظهر انحلال في المجتمعات المتدهورة. وذلك لأن المجتمع الفتي الذي يعمل على بناء كيانه يضطر المرأة إلى أن تشتغل في الميادين كلها: في الحقل وفي المنزل والسوق وفي ساحة الحرب وهذا يمنحها قيمتها الطبيعية (.....) .
ومن ثم فنحن إذا أردنا نساءً مواطنات أكمل عواطف وأقلّ سلبية فلابد لنا أن ندرس موضوع العمل دراسة جدية لا يمازحها الهزل ولا السخرية. إن التوزيع الحالي يحدث تأزماً اجتماعياً مستمراً هذا فضلاً عن أن هناك أسباباً علمية تجعل التوزيع الحاليّ غير مقبول نظرياً.
فمن الوجهة البايولوجية يتضح لنا أن قسر المرأة على العمل المنزلي يضرّ بقواها الفيزيولوجية ضرراً مباشراً. وهذا لأن هذه الأعمال تستند إجمالاً إلى اليدين وحاسة التذوق دون سائر الحواس والأعضاء، فهي لا تنمي ذهناً تركيبياً ولا تتطلب مرونة عاطفية أو تكيفاً نفسياً. ومن ثم فهي، بهذا الاعتبار، ليست خير ما يمكن للجسم الإنساني. ونحن نلحّ على التنبيه إلى أن هذا ليس خسارة فحسب وإنما هو مضرّ. فالطبيعة لا تخلق إمكانيات يسهل على المجتمع أن يعطلها وفق حاجاته الشكلية. وكل طاقة ركبت فينا تتضمن حاجاتها إلى أن تعمل وتنمو وإلا أضرّت بالجسم. يضاف إلى هذا أن تنوع الحاجات الإنسانية يتضمن تنوع القدرات على العمل، ومادامت الطبيعة قد منحت قدرات فهي تحتاج إلى تمرين هذه القدرات. وليس أبغض إلى الحياة من التخصص الكامل الذي يخالف خط النموّ لأنه يضخم قيمة طاقة خاصة ويحدث عزلاً في الوظائف الجسمية. والحق أن مرض التجزيئية يتغلغل إلى أعماق أنفسنا فيصيبنا في صميم حياتنا العضوية.
أما من وجهة علم الاجتماع فإن الاعتراض يتخذ شكلاً آخر. فإذا كان المجتمع قد وجد لحماية الأفراد فكيف يصح أن تُقسر ملايين النساء اللواتي يرغبن في العمل خارج المنزل على العمل في داخله. إننا نكرر القول بأن المجتمع في هذه الحالة يخون أفراده ويتخلى عنهم. فإذا قال رجل الاجتماع المتوسط مجيباً على هذا الاعتراض بان المجتمع يعدّ قبول المرأة لهذا الوضع المزري تضحية نبيلة منها تحقق بها حفظ الأسرة من الانهيار، قلنا أن هذا الجواب الطيب يذكرنا بحكاية ذلك الرجل الذي عاد ذات ليلة إلى منزله وانهمك في البحث تحت المناضد ووراء الأبواب في جهد شديد. ثم ظهر انه يبحث عن مفتاحه، وأنه أضاع المفتاح في الطريق، وكان السبب في بحثه عنه في المنزل أن الطريق مظلم ولا سبيل إلى البحث فيه.
إن نقطة الارتكاز التي يستند إليها رجل الاجتماع المتوسط هي عين النقطة التي يرتكز إليها هذا الرجل، العلاقة واحدة بين إمكانيات المرأة وشكل الأسرة من جهة، وبين المفتاح الضائع ووجود الضياء من جهة أخرى. وليس يخفى أن البحث عن المفتاح ينبغي أن يرتكز إلى عامل المكان دون أن يعتبر الضياء، كما أن توزيع العمل في المجتمع ينبغي أن يرتكز إلى سعادة الأفراد دون أن يعتبر عوامل خارجية كشكل الأسرة.
والحل المعقول أن نعمل على إيجاد الضياء في المكان الذي  ضاع فيه المفتاح لا أن نبحث عن المفتاح في المكان الذي يحتوي على ضياء. أي أن نعمل على إيجاد مجتمع لا تنهار فيه الأسرة إذا كانت المرأة محققة لطبيعتها، لا أن نقسر المرأة على قتل طبيعتها حرصاً على ألاّ تنهار الأسرة.
إن البحث عن المفتاح في الضياء أمرٌ مستحيل يتجاهل أن للبحث غاية، كما أن التضحية بالمرأة حرصاً على شكل الأسرة يتجاهل الغرض من الأسرة. وهذا لأن صاحب المفتاح الضائع وهو يبحث عنه في الضياء لن يعثر عليه على الإطلاق كما أن المجتمع الذي يضحي بالمرأة من أجل راحة الأسرة لن يصل إلى راحة الأسرة.
5
رأينا في الفصول السابقة ما أدت إليه التجزيئية من متاعب ومشاكل للفرد العربي. فقد أحدثت فصلاً قاطعاً بين الرجال الذين يملكون أفكاراً بلا عواطف، والنساء اللواتي يملكن عواطف بلا أفكار. وقد رأينا مدى نسياننا لغاية المجتمع الأساسية التي هي (الإنسان) حتى بتنا لا نبني المجتمع من أجل الإنسان وإنما نضحي بالإنسان من أجل شكل قائم من أشكال هذا المجتمع.
ومن ثم فإن أول حل نقترحه أن ننظر إلى الموضوع نظرة موحدة فلا نعتبر الأخلاق موضوعاً مثالياً وإنما نربطها ربطاً مباشراً بحاجاتنا الإنسانية ووظائف أجسامنا. ولا نجعل للشكل القائم للمجتمع قيمة مقدسة بحيث نضحي بالإنسان من أجله، فالإنسان هو القانون الذي ينبغي أن نلاحظه في بناء المجتمع والأخلاق. وبالتالي فإن علمي الأخلاق والاجتماع ليسا علمين نظريين يستمدان أسسهما من مصادر مثالية، وإنما ينبغي أن يمتزجا بعلم الحياة امتزاجاً تاماً.
إن المضمون الحرفي لحكمنا هذا يتضمن الدعوة إلى شكل جديد من أشكال المجتمع ينظم الأخلاق تنظيماً عملياً واقعياً مستمداً من إمكانياتنا الطبيعية. وقد تضعنا هذه الدعوة إزاء مشاكل محرجة، غير أن هذا الإحراج إنما ينشأ في ظل نظامنا الحالي فحسب، وهو نظام يستند في أساسه إلى اختلال كما يمكن أن يستند كرسي يصنعه نجار رديء إلى اعوجاج فادح في أحد قوائمه، بحيث لو أردنا إقامة ساق مستقيمة مكانها لانهار الكرسي كله. وهذا ناشئ عن أن تصميم الكرسي قد أخذ الاعوجاج بعين الاعتبار وعدل بقية القوائم بالنسبة إليه. إن هذه الحالة لا تجعلنا نحكم بأن الاعوجاج شرط أساسي في تصميم كل كرسي، فإن من الممكن أن نصنع كرسياً آخر تكون قوائمه كلها مستقيمة. ومن ثم فإن الانهيار إنما يقع في حالة الكرسي المغلوط التصميم فحسب، وهذه حالة تصبح فيها الاستقامة خطرة. إن الاستقامة لا تكون خطرة إلا في وضع غير مستقيم، شأنها في هذا شأن الخير الذي يلوح مخيفاً في وضعنا الحالي.
إننا نود في ختام هذا البحث أن نرفع ولو صوتاً واحداً يطالب بنظام اجتماعي مستقيم، لاينشأ فيه الانهيار عن غير عوامل الانحراف والشذوذ، نريد مجتمعاً نتنفس فيه الطاقة الإنسانية المبدعة وتخصب وتمرع، مجتمعاً يرتبط فيه القانون والأخلاق والعمل جميعاً بالحاجة البشرية، فهذا هو المجتمع الأفضل الذي ينبغي أن ننطلع إليه. وإذا كنا لا نأمل أن نبلغه سريعاً، فيكفي أن تشتعل في أعماقنا هذه الثقة العريضة الراسخة بأننا سائرون إليه ...
.. ولن يطول الانتظار ...
                            الآداب، س2، ع5، بيروت، أيار 1954