حـول "الشعــر والمجتمــع"

سلمى خضراء جيوسي (روما)

 لقد شعرت بمتعة شديدة عندما طالعت مقال الآنسة نازك الملائكة حول اجتماعية الشعر في العدد الأخير من الأديب الغراء، غير أني أؤكد للشاعرة المحبوبة أن حملتها كانت قاسية جداً.
إني أعيش في أوربا منذ نحو أربع سنوات وإني أؤكد لكم أن المغتربين من العرب من مهاجرين أو أعضاء السلك السياسي العربي، هم من أكثر الناس شعوراً بأحوال الشرق العربي المترجرجة ومن أشدهم حماساً وطموحاً ورغبة في التحسين العملي الحاسم، ذلك لأنهم يقابلون ويقارنون، ويسألون ويسألون ويكتشفون لأنفسهم شهراً بعد شهر ويوماً بعد بوم نقاط الضعف في حاضر أمتهم وفي سياسة قادتها وفي أوضاعها الغريبة الشاذة.
ورغم أني تمتعت بقراءة مقال الآنسة نازك إلا أني اختلف معها في بعض النقاط اختلافاً بينته هذا الرسالة المقتضبة.
إن هذه الدعوة إلى اجتماعية الشعر التي تحدثت عنها الآنسة نازك (عدد يوليو 1953 من الأديب) ليست معقدة ولا خطرة على الشعر إلى الدرجة التي تصفها وتحذرنا منها. بل إني أراها على غاية من البساطة، فهي نداء إلى الشعراء أن يكرسوا جزءاً من مجهودهم الفني، صغيراً كان أم كبيراً، لخدمة قوميتهم ومجتمعهم. ذلك لأن العرب أمة من أكثر الأمم تأثراً بالشعر، بل أستطيع أن أقول إن الشعر هو أكثر الفنون تأثيراً على نفسيتهم ومشاعرهم، فليس عجباً أن نتحول برجائنا إلى الشعراء أن يحاولوا شعراً يرفع معنويات هذه الأمة ويساعدها هو أن تسترجع شيئاً من ثقتها بنفسها التي فقدتها مع ما فقدت ويدخل في محسوسياتها المبهمة معاني الحرية الخالصة وحب الانطلاق والسمو بالناس للعظمة القومية والشعور فالمقدرة والكفاءة والشوق إلى تحقيق الأهداف الوطنية النبيلة.
ولو نظرنا في حقل الطب لوجدنا علماء يقومون بأبحاثهم لاكتشاف علاجات جديدة فعالة لأمراض الإنسانية الفتاكة مبتدئين بأكثرها انتشاراً وخطراً. وكذلك جميع العلماء، يعملون أبداً لتقدم الإنسانية محاولين دائماً تحسين ما ضعف من أركان المدينة مستجيبين بالدرجة الأولى لمطالب الشعوب واحتياجاتها. فلم لا ينحو الأدباء والفنانون منحى العلماء ويكونون مثلهم في الاستجابة لنداءات أمتهم عندما تحتاجهم هذه الأمة.
وتقول الآنسة نازك وهل من المعقول أن ينصرف جيل كامل من القراء إلى اتجاه بعينه دون أن تكون هنالك أسباب بيتية وتاريخية موجبة به!!!
وهذا غريب حقاً فالأسباب البيتية والتاريخية أكبر وأوضح من أن أعددها أنا، وإن أي إنسان مثقف ثقافة سياسية عصرية صحيحة لا يسعه إلا أن ينتفض خوفاً على مستقبل هذه الأمة القريب فهي تجتاز الآن مرحلة من أعسر المراحل التي مرت بها أي أمة في التاريخ الحديث وأوضاعها الغريبة الشاذة الخطرة تستوجب أن تجند لها الجماعات الواعية، كل الجماعات الواعية، لا ساستها وزعماؤها فقط كما تقول الآنسة نازك، جميع أسلحتها وقواها: وعلى رأس هذه الجماعات المتنورة الشعراء، للسبب الذي ذكرته سابقاً بالضبط.
بالطبع لا يمكن أن نطلب من كل الشعراء أن يكرسوا كل مجهوداتهم إلى طرق المواضيع الوطنية، تماماً كما فسرته الآنسة نازك من أن الشاعر هو إنسان ذو مجموعة ملونة من المشاعر والأحاسيس عرضة لأن تتأثر بأشياء قد لا تمت إلى الوطنية بشيء، وفي حال تأثره المعين بأمر من الأمور فإن كتابته للشعر أمر طبيعي يجب أن لا يناقش عليه، أما أن يكرس ديوانه أو مجموعة أو مجهود سنين من العمر في شعر لم يتأثر بعضه بحال من الأحوال بالمعتركات الاجتماعية والسياسية التي تغلي مراجلها داخل بلاده فإن هذا من الشذوذ الإنساني ومن الانعزالية والذاتية ومن التهرب من واقع البيئة التي تقول الآنسة نازك إنه يمثلها إجباراً لا اختياراً، وما يمثل بالحقيقة إلا بيئته الخاصة المحصورة أشد الحصر المنعزلة في برجها العاجي عن خضم المجتمع الكبير.
وقد لا يجيء انعزال الشاعر هذا عن نقص في عواطفه الوطنية الكامنة وإنما يعود إلى تربيتنا الوطنية تشربناها منذ نعومة أظفارنا، تلك التربية التي هي من ثمار الثقافة المقصودة التي تعمد أن يزرعها الغرب في نفوسنا في عهد الانتداب. إننا جميعاً نعتقد أننا نحب بلدنا وأمتنا، ولكن الجزء الأكبر منا لا يعرف كيف يجب أن يحبها وكم يجب أن يحبها، وأنا لا أقول هذا عن حكم طائش بل بعد مراقبة طويلة مقصودة لمشاعر الوطنية عند بعض الأمم الأخرى. إن كل ايطالي إذا تكلم عن بلده لمعت عيناه ببريق الفخر البالغ درجة الغرور، فجمالها وزهرها وشبابها وأطعمتها وأخلاق أهلها وكل شيء لها أفضل ما في العالم على الإطلاق، وكل ايطالي يشعر هذا ويصرح به لاسيما عامة الشعب الذين لا يمكنهم أن يقبلوا جدلاً في هذه الأمور قطعياً على خطأ الكثير منها. وقد رأيت أهالي فينا في بجرنزغ  سهرات الهويرغر  المشهورة، يغنون أغانيهم الغزلية الجميلة بفينا ولا ينهونها إلا وهم ينشجون. رجالهم ونساؤهم، وهذا دأبهم دائماً. وكذلك الألمان فإذا اجتمعوا في سهرة فكم يشتركون جميعهم بأناشيدهم الوطنية المبدعة كلاماً، المؤثرة أنغاماً وتراهم ينقلبون إلى أشخاص عاطفيين بصورة لا يمكن تخيلها عنهم. وهذا ما ترمي إليه الدعوة على الشعر أن يكون له اللفظ القوي الذي يدفع بالأمة للطموح والثقة بالنفس لا لليأس والدموع، وأن تكون معانيه عالية سامية توحي بالعظمة وبحب المجد.
أما الأسلوب والبناء والأخيلة وقوة العاطفة وبراعة الحبك والتشبهات إلخ...فهذه أمور تدخل في نطاق النقد الفني التي لا تتعرض له الدعوة ولا أظن أنها تدعيه.
وتقول الآنسة نازك أن "التاريخ لم يرو أن أدب أمة من الأمم قد غير اتجاهه وفق دعوة عامدة نادت بها الصحافة". وبالحقيقة إن التاريخ روى، ففي روسيا الشيوعية نجد أن الإنتاج الأدبي والفني والسنمائي قد تحول جله إلى الناحية الشعبية؛ فقد أيقن الأقطاب أن الدعاية للشعب نفسه أمر فائق الأهمية وعملوا على تغذيتها مباشرة عن طريق الخطب والصحافة والإيحاء من خلال القطع الفنية والشريط السينمائي. فشعرهم وقصصهم السينمائية وأغانيهم الشعبية ومسرحياتهم، كل هذه الأمور، ترمي إلى التمجيد الوطني وهي تتحدث وتردد كثيراً أغاني السلام العالمي، لكي تقنع الشعب أن دولة السوفيت لا تريد إلا السلام، السلام العالمي الخالد حتى خلقت جيلاً من الشباب يثق ثقة عمياء بحكومته وبأنها لا تريد الحرب وأنها دولة عظيمة، إلخ.
وهم بالطبع لا يرون شيئاً عن سياستها الخارجية والحرب الباردة التي شلت بها الكثير من امكانيات العالم الحر. ولست أورد هذا المثل إلا للدلالة فقط أنه من الممكن إنسانياً وبسيكولوجياً تحويل الجهد الفني في أمة، أي أمة نحو هدف معين، سيما إذا كان هذا الهدف وطنياً وسيما إذا كان، كما يكون الحال عندنا، هدفاً نبيلاً سامياً والحاجة إليه ملحة وماسة.
أما الأحوال الفردية والمناظر الجميلة التي قد توحي للشاعر بشعره في كثير من المرات فإنها أمور طبيعية وكما قلت قبلاً يجب أن لا يناقش عليها أبداً. وهي كثيراً ما تكون صوراً رائعة تترك لنا شعراً بديعاً خالداً فمن الشطط والشذوذ إغفالها واستنكارها. وإني وجدت أن الإنسان يتذكر عادة من شعر شاعر ما كان أكثر اتصالاً بالإنسانية عامة منه بحياة الشاعر الخاصة الخاصة.
وهذا يشمل أيضاً الأمثلة الشعرية المروية عند كل الأمم وكذلك الشعر الذي يصف المحركات العاطفية التي أثرت ومازالت تؤثر في كل إنسان لا في الشاعر وحده، وكأن الإنسان يقرأ صدى لتجاربه العاطفية وأحاسيسه. ولهذا فقد كان الشعر الوطني الذي هو أحد مواضيع الشعر الإنساني العام من أخلد ما أنتجته أقلام الشعراء عند كل الأمم.

ومهما قويت قيمة الفن للفن بمعزل عن موضوعه ومهما جملت القطعة الفنية ولنقل الشعرية بحد ذاتها، فإن قيمتها الكبرى ليست عند جماهير القراء، لاسيما في أمتنا نحن، بل عند الخاصة الخاصة من محبي الشعر والأدب الذين يحسنون تذوق الجمال في القطعة الفنية المكرسة للفن. ومن العبث الإنكار أن عددهم في أمتنا قليل، حتى بين المثقفين منا، وإن الشاعر العربي الذي يتغاضى عن هذه الحقيقة يخسر حب الجماهير لأدبه وتذوقهم لشعره. وأنا أقول إنه قد يكون مقدساً لهذا المذهب الفني إلى درجة لا يهتم معها بآراء الجمهور الأكبر ممن يقرأون الشعر وله الخيار في ذلك بالطبع.
هذا وإني إذ أدعو فحول شعرائنا إلى شعر يسير بالشعب نحو تعشق بلده وأمته والتعصب المنطقي لمصالحه وحقوقه والطموح نحو الشمس، آمل بالوقت نفسه أن لا يخلو شعرهم من غزل رقيق أو شوق حنون أو ذكرى جميلة أو "وصف وردة" أو "منظر حصاد" أو "ذكريات نزهة عائلية مرحة على رمال جزيرة". ولصاحب الأديب الذي أعده علماً من أعلام الأدب والشعر، ومثلاً أعلى للإنسان المثقف ثقافة عصرية كاملة، أقدم اعجابي واحترامي وتقديري الشديد.
الأديب, س12، ج9، بيروت، سبتمبر 1953.