حـول "مـزالـق النقــد المعــاصـر"

عيسى الناعوري

في العدد الماضي من الأديب الأغر كتبت الصديقة الشاعرة الآنسة نازك الملائكة مقالاً تحت عنوان "مزالق النقد المعاصر"، فاسترعى انتباهي دفاعها المتحمس للأدب كشيء يقصد لذاته، لا دخل للنقد في توجيهه أو تحديد سبله ومراميه.  وأنا أرجو أن تغفر لي الأخت الكريمة جرأتي في هذا الرد على آرائها النقدية ومفاهيمها الأدبية، فهي إنما تكتب لتقرر حقائق تعتقدها وتناضل دونها. فلتسمح لنا بدورنا تقرير الحقائق التي نعتقدها ونناضل دونها. والحياة هي التي تقرر بقاء أصلح الآراء وأثبتها على محك الحياة نفسها.
لست أدري لماذا تصر الأديبة الشاعرة الناقدة على أن تحشر الأدب حشراً في نطاق الذات، ولا تخرجه لتجعله شيئاً عاماً للحياة وللناس، فهي تقول في مقالها الأخير: "إن المهمة الأدبية للناقد تبقى مقيدة بالقصيدة من وجهتها الجمالية والتعبيرية، في دراسة موضوعية خالصة، يلاحظ خلالها هيكل القصيدة العام، ويقف عند أداة التعبير، فيدرس مدى اتساقها مع جو القصيدة والعاطفة التي تسيطر عليها، ويدرس الوزن واللمسات الموسيقية، وأثر القافية...إلخ".
المهم أن الشاعرة الناقدة، تطلب إلينا أن ننظر في الجسم الماثل أمامنا لنرى تناسق تكوينه، بدون نظر فيما إذا كان تمثالاً جامداً أم إنساناً حياً، وإذا كان إنساناً حياً فيكفي أن ننظر في جمال صورته، وتناسق تكوينه، بدون أن نعرف إذا كان يحمل في داخله روح ملاك أم روح شيطان.
نظرة قشورية، لا عمق فيها، ولا حياة، ولا لذة، ولا جمال. فهل هذه غاية النقد الأدبي؟!
ثم تقول الشاعرة: "كل ما يهم الناقد أن يلاحظ كفاءة القصيدة للتعبير عن الموضوع دون أن يناقش صلاحية الموضوع من الوجهة الاجتماعية والتاريخية".
الحقيقة التي أريد أن أختصر الطريق إليها هي أن الكاتب أو الشاعر إذا كان يكتب لنفسه ولهدهدة عواطفه، وتصوير أحاسيسه الذاتية وحدها، فخير له أن يطوي إنتاجه لنفسه، فيتلذذ بقراءته متى شاء وكيفما شاء، بدون أن ينغص عليه أحد لذته ومتعة روحه. ولكن الصحيح أنه لا ينشر ما ينتجه من شعر أو نثر، في الكتب أو الصحف، إلا لأنه يريد أن يقرأه الناس، وهو يعرف أن الناس سيدفعون ثمن الكتاب أو الصحيفة قبل أن يقرأوها، تماماً كما يفعلون حينما يريدون الحصول على الطعام أو اللباس أو الحاجات الضرورية الأخرى التي تباع في الأسواق.
والحقيقة الواقعة أن الناس لا يدفعون ثمناً لشيء لا يفيدهم، أو يشعرون بأن لهم فيه حصة: نفعاً أو شيئاً من شعورهم، أو مشاركة في إحساسهم العام.
فأنا مثلاً كمواطن مستهلك لا أشتري شفرة حلاقة، أو فرشاة أسنان، أو جورباً أو صابونة، إلا لكي استخدمها في حاجاتي اليومية، ولست أدفع ثمن حبة بندورة أو برتقالة أو رغيف خبز لمجرد كونها جميلة، ولكني أشتريها لأقتات بها، ومثل هذا تماماً حالي مع الكتاب أو الصحيفة.
أرجو أن لا تتأفف الأخت الشاعرة أو تتقزز، فتعتقد أنني "ابتذلت" الشعر وأهنته بإنزالي إياه إلى صف الصابون والفرشاة وشفرة الحلاقة وحبة البندور، فلا مفر من مجابهة الواقع الذي يرينا أننا ندفع الثمن "نقوداً جامدة" لكل هذه الأشياء على السواء، وإذن فقيمتها من حيث هي بضاعة تباع وتشترى، واحدة. ولو كان القارئ يدفع ثمن ما يقرأ "عواطف" و"كلاماً جميلاً" فحسب، لاكتفينا بأن ينتج لنا الشعراء والكتاب عواطف وكلاماً جميلاً، بدون غاية وبدون هدف، فمثل هذا الترف الفكري والفني لم يتهيأ له مجتمعنا بعد، ولا هو في حاجة إليه، وهو مازال غارقاً في الجهل والمشاكل المعقدة إلى ما فوق أذنيه.
ولتقل لي الأخت الكريمة، ما حاجتي، أنا القارئ، إلى دفع ثمن كتاب أو ديوان شعري يكتبه صاحبه ولو بحروف من ذهب وبخيالات من جنائن الفردوس أو عبقر.. ليحدثني فيه عن صبواته وعربدات شهواته، وسهراته مع صواحبه، والقمر الذي كان يغازل النجوم فوق، والغصون التي كان النسيم يعبث بخصلات شعرها في هدأة الليل، وهو في غمرة الهوى والفتون...ووو...
وبعدين... مع هؤلاء السابحين في متاهات النجوم، وفي أبراج الضباب، والشعب من حولهم ينتحر بآلامه، وهو يقتات بالتراب، ويتجرع الدماء ويفترش الثرى... وهم لا يخرجون عن محيط أنانيتهم وأهوائهم العاتية؟!
ألا ترى الصديقة الشاعرة أنه خير لي، أنا القارئ، أن أشتري بثمن الكتاب أو الصحيفة من هذا الطراز رغيف خبز، أو حبة بندورة إذا كنت جائعاً أو أشتري جورباً أو شفرة حلاقة أو صابونة، فاستخدمها لحاجاتي الضرورية، ما دمت لا أجد في الكتاب أو الصحيفة ما يولد في نفسي أملاً، أو يبعث فيها تعزية، أو يخلق فيها عزماً، أو يقودني إلى عمل جميل جدي؟ وما حاجتي إلى أن أنفق المال والوقت لأقرأ هراء، وأشبع كلاماً فارغاً؟؟
نرجو أن تنزل معنا الشاعرة إلى الشارع، ففيه الشعر والأدب كله: في أكواخ الفقراء، في خيام اللاجئين، وفي وجوه العمال المتعطلين، والأطفال المحرومين من المدارس، والمتسولين الذين لا يجدون مستشفى ولا طبيباً ولا دواء، في القرى التي لا تصل إليها الطرق المعبدة، فتنحبس عن الاتصال بالمدن وبالحياة طوال الشتاء، والتي تفتك في أهلها الأمراض والأوبئة لإهمال دوائر الصحة والشؤون الاجتماعية لها، في المستنقعات والبرك التي يسرح فيها البعوض ويمرح، ويحمل العدوى. هو وغبار الطرقات والأحياء المهملة، إلى الصدور والعيون، فيذهب براحتها وصفائها. في هذه كلها، وفي خيرات الأرض العربية وكنوزها التي تتخم بها بطون السادة والغرباء، بينما يحرم الشعب العربي من تعب يديه وعرق جبينه فيها، في الأراضي المهملة وكلها خير وبركة لا يستثمرها أحد. في كل شيء في هذه البلاد السيئة الحظ، المنكوبة بأهلها وبحكوماتها وبأدبها وأدبائها. في هذا كله وفي غيره. مما لايتسع المجال لذكره، ينبع الأدب الذي نريده والذي لا نريد غيره.
نرجو أن تنزل معنا الشاعرة إلى الشارع لتشاهد وتستوحي، أما بروج الغمام فليس فيها سوى الخواء اللامحدود، وسوى الهروب من الحياة والواقع، والأديب الذي يهرب من الحياة والواقع ينصرف عن أدبه وعنه أهل الحياة والواقع، هؤلاء يعيشون بأعصابهم ودمائهم ودموعهم. إن هؤلاء في حاجة إلى أيدينا لسندهم، وإلى عقولنا لتهديهم وتقودهم. ولن ينفعهم أن نكتب لهم شعر العواطف الذائبة، ونقدم لهم الصحون الذهبية الفارغة ونقول لهم: كلوا واشبعوا من بريقها الجميل!
الأديب منا هو لأبناء الشعب كأم العصافير تهبط أمامها من العش إلى الأرض لتعلمها كيف تستعمل أجنحتها بأمان وتهبط مثلها، ثم تقفز أمامها على مهل لعلمها كيف تقفز، وتنقر الحبوب والديدان أمامها ثم تلقيها لها على الأرض لتعلمها كيف تلتقطها بمناقيرها، وتغمس منقارها بالماء، ثم ترفعه في الفضاء لتعلمها كيف تشرب، ولا تبتعد عنها في قفزها وطيرانها، لتطمئن إلى سلامتها.
فإذا لم نكن نحن والأدباء أمهات عصافير الشعب، فخير لنا أن ننطوي على ذواتنا في الظلام إلى أن نموت في عزلتنا، لأن النور لم يخلق لأعيننا.
وإذا كان الأديب هو قائد الشعب ومعلمه، فإن الناقد هو الذي يحمل المشعل ويضع المنهاج لينير للأديب طريق القيادة، فهو إذن على عكس ما تقول الشاعرة مطالب بأن يحدد للأدب أهدافاً، ويرسم سبلاً، ويقوم سيراً لئلا ينحرف ويضل. والناقد الواعي المخلص أدرى بالمزالق والوعور، وإن لم يكن أدرى وأوعى لأدواء المجتمع التي تتطلب الطب والعناية، فهو على الأقل مشجع ودافع، وهو على الحالين مطالب بأن يقوم وينبه إلى كل انحراف في أهداف الأدب، وخروج على مفاهيمه "الاجتماعية" والشعبية، فهذه وظيفته. أما أن يقف حاملاً مقياسه بيده ليقيس تناسق الأبيات الشعرية، وينظر في قيمها الجمالية والتعبيرية، ثم يمد صوته على طريقة أهل الكيف عندما يطربون: "الله!!..." فتلك وظيفة لا نريدها له، على الأقل في مجتمعنا الحاضر، وفي زماننا الحاضر.
وللأخت الشاعرة تقديري وتحياتي واحترامي.
الأديب، س12، ج6، بيروت، يوليو 1953.