الرواية المغربية الآن
تتناول هذه الدراسة، كما يوحي بذلك عنوانها، راهن الرواية المغربية، في محاولة لرصد أبرز مظاهر تطورها، على مختلف المستويات، الكمية والكيفية، الفنية والفكرية إلخ. بعد مرور أزيد من نصف قرن على أرجح تاريخ مفترض لولادتها الحقيقية (*). لبلوغ هذه الغاية، كان لا بد إذن، من العودة قليلا إلى الوراء لدراسة أعمال المرحلة السابقة، باعتبارها خلفية ضرورية لفهم حاضر الرواية المغربية، وتجلية حقيقة تطوراتها الراهنة، مما يؤكد قوة التلاحم القائم بين هاتين المرحلتين،لدرجة تصبح معها كل محاولة تحقيبية مجرد إجراء منهجي فقط. وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن دراستنا هذه ستنقسم منهجيا لقسمين كبيرين، مختلفين ومتداخلين، يخصص كل واحد منهما للحديث عن مرحلة معينة، على أن تكون البداية طبعا بالمرحلة السابقة (الماضي)، ننتقل بعدها، للحديث بتفصيل عن مختلف مقومات المرحلة الحالية (الحاضر)، وما عرفته من تطورات. لكن قبل ذلك، لابد من تقديم ثلاث ملاحظات، أعتبرها ضرورية لتوضيح طبيعة هذه الدراسة وضبط حدودها المعرفية، تفاديا لكل لبس محتمل: الأولى: أن هذه الدراسة ستنصب، بحكم طبيعتها، على مختلف الظواهر العامة البارزة في راهن الكتابة الروائية المغربية، غير غافلة عما يمكن أن يتولد عن ذلك من ضياع اضطراري لبعض الاستثناءات والخصوصيات الدقيقة المتأبية على الملاحقة خارج نطاق الدراسة النصية المحايثة. الثانية: أننا حصرنا نطاق الدراسة، لأسباب عديدة، في دائرة الرواية المغربية المكتوبة بالعربية وحدها، دون غيرها من الروايات الأخرى، المكتوبة باللغات الأجنبية أو اللهجات المحلية. رغم معرفتنا العميقة بالصعوبات الكبيرة التي يطرحها مثل هذا الإجراء. والثالثة والأخيرة: أننا اعتمدنا المعيار الزمني للفصل إجرائيا بين مختلف مراحل الرواية المغربية، رغم ما قد يحدثه ذلك أحيانا من نتائج سلبية متولدة أساسا عن صعوبة الربط الآلي الدقيق بين ما هو تاريخي وما هو أدبي. فماذا عن واقع الرواية المغربية في الفترة السابقة؟. أولا: الرواية المغربية سابقا: ونعني بها الفترة الفاصلة بين تاريخ صدور أول عمل روائي مغربي تأسيسي، وتاريخ صدور أول عمل روائي تجريبي (*). وتنقسم داخليا، حسب نوعية أعمالها وأهدافها، لمرحلتين فرعيتين، مختلفتين ومتداخلتين: أ/ المرحلة التأسيسية: وتمتد من تاريخ البداية مفترضة للكتابة الروائية المغربية، لمنتصف الستينيات، وبالضبط لسنة (1967)، تاريخ صدور رواية (جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي. وأسميناها بالتأسيسية، لأن مجمل الأعمال المنضوية تحتها، وعددها حوالي (28) عملا، يطغى عليها هاجس إرساء قواعد ممارسة روائية مغربية، تسد خصاص الموروث الثقافي المغربي في هذا المجال، وتحاول محو آثاره المعرفية السلبية. على أنه إذا كان هناك شبه إجماع حول تاريخ نهاية هذه المرحلة، فإن بدايتها ظلت، مع ذلك، محط خلاف قوي بين الباحثين. فمنهم من أرجعها لسنة (1957)، تاريخ صدور(في الطفولة)(1) لعبد المجيد بنجلون، ومنهم من ذهب لما هو أبعد، وربطها بتاريخ صدور (الزاوية)(2) للتهامي الوزاني سنة (1942)، أو (الرحلة المراكشية)(3) لابن المؤقت سنة (1924). ومهما يكن الأمر، فالمؤكد، في جميع الحالات، أن ظهور الرواية العربية بالمغرب عرف تأخرا ملحوظا مقارنة بتاريخي ظهورها في الشرق والغرب، وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أنه تأخر مضاعف، جعل من الأعمال الروائية الشرقية والغربية نماذج تحتدى، كما يشير لذلك المديني: (بالنسبة للرواية المغربية تبدو الورطة أكبر، ما دامت تمثل العطب المزدوج، عطبها الخاص المتعلق بنشأتها، وعطب تقليدها للرواية المشرقية التي قلدت بدورها رواية الغرب، المبدع الحقيقي، بلا منازع، للرواية العصرية)(4). لهذا كان طبيعيا أن تتصف أغلب أعمال هذه المرحلة ب: (الإذقاع الفني والمحاكاة الحرفية لبعض النماذج المشرقية المتجاوزة)(5) . كما هو الحال بالنسبة(لأمطار الرحمة) لعبد الرحمان المريني، و(غدا تتبدل الأرض) لفاطمة الراوي، و(بوتقة الحياة) للبكري السباعي، و(إنها الحياة) لمحمد البوعناني. مما جعل الذاكرة الثقافية الوطنية تسقط من مخزونها أغلب أعمال هذه المرحلة، باستثناء عناوين خمسة، نسوقها حسب ترتيبها الكرونولوجي، وهي: (الزاوية) للتهامي الوزاني(1942). (في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون (1957). (سبعة أبواب) لعبد الكريم غلاب (1965). (دفنا الماضي) لعبد الكريم غلاب (1966) و(جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي(1967). باعتبارها أعمالا تمتلك قيمة فنية تمثيلية عالية، تؤهلها لإعطاء صورة واضحة ودقيقة عن ملامح الكتابة الروائية المغربية آنذاك. ملامح يمكن تلخيصها في الجوانب التالية: أولا ـ امتزاج الروائي بالسير ذاتي: لعل أبرز ما يشد انتباه الباحث في أعمال هذه المرحلة التأسيسية الهامة، من مراحل الكتابة الروائية المغربية، وربما في غيرها أيضا، طغيان ظاهرة امتزاج الروائي بالسير ذاتي، بحيث لا يكاد يخلو عمل من الأعمال الخمسة السابقة من بعض آثار هذا المكون الخاص على المستوى الحكائي، وما موضوع (في الطفولة) و(سبعة أبواب) سوى دليل قاطع على ذلك (*). ظاهرة تستدعي البحث عن الأسباب الثاوية خلفها لمعرفة ما إذا كانت مؤشرا على ما يطبع البدايات عادة من خلط أجناسي، ينم عن سوء فهم لخصوصية الكتابة الروائية، أم إفرازا موضوعيا يرتبط بمعطيات المرحلة التاريخية المذكورة. علما بأنها ظاهرة عامة تتجاوز نطاق ما هو قطري محلي، لتطول البدايات الروائية الشرقية والغربية على حد سواء: (اتخاذ السيرة الذاتية شكلا للتعبير عن الذات وعلاقتها بالمجتمع، ليس ظاهرة قاصرة علينا، فنحن نجدها واضحة وقوية في الإنتاج المصري خلال العشرينات الأولى، من القرن الماضي)(6). بدليل (زينب) لهيكل، و(الأيام) لطه حسين، و(حياتي) لأحمد أمين، وغيرها. مما يؤشر على تماثل كبير في شروط وملابسات البدايات الروائية في المركز(الغرب والشرق) والمحيط (المغرب). يستوجب البحث عن أسباب ذلك في القواسم المشتركة العامة، أكثر من جوانب التميز الخاصة. وأغلب الظن أن معرفة عميقة بالخصوصيات الإبداعية لهذا الجنس الأدبي في ارتباطها بالسياق السوسيو ثقافي العام، ستفيد حتما في كشف العديد من أسرار هذا الوضع المثير، كما يشير بذلك عبد الله العروي: (الواقع أن رواج النوع الروائي كان على حد سواء نتيجة تأثير فني وعلامة لذاتية متحررة بغتة، لذلك فقد عرفت الرواية شكلا واحدا هو شكل السيرة الذاتية، إلى حد أن الرواية الفنية ظلت خلال زمن طويل مرادفا لرواية السيرة الذاتية)(7)، مما يسمح باستنتاج أن بداية الكتابة الروائية المغربية كانت محكومة تاريخيا بما يمكن نعته بتضخم الأنا، لدرجة لم يجد معها الروائيون آنذاك بدا من تجربتهم الشخصية موضوعا أساسيا للحكي: (في مرحلة أحس خلالها المتعلمون والمثقفون بأهميتهم، فراحوا يستكشفون ذواتهم، ويعكفون على تفسير أنا هم المتضخمة، وعلى تحديد العلاقة بينهم وبين مجتمعهم المتحرك في اتجاه واحد)(8) . ثانياـ حضور الآخر: الخاصية الثانية المميزة لأعمال هذه المرحلة تتمثل في حضور الآخر/ الغرب، بأشكال مختلفة، كطرف أساسي فاعل في معادلة الصراع الحكائي، كما يجسد ذلك، بشكل صارخ، مضمون سيرة عبد المجيد بنجلون (في الطفولة): (ففيها يتحدث الكاتب بضمير المتكلم عن طفولته، هادفا إلى إرضاء رغبة نفسية في تسجيل ذكرياته الحبيبة كطفل عاش في بيئتين متناقضتين: أنجلترا والمغرب)(9)، حضور يجد سنده الموضوعي في الخصوصية التاريخية لهذه المرحلة المعروفة وطنيا وقوميا بكثرة المصادمات الحضارية وتنوع مظاهرها (الاستعمار، المطالبة بالاستقلال، التحدي الحضاري، والمثاقفة). وهو ما يفسر، في الوقت ذاته، الحضور القوي لهذه الموضوعة الحكائية في معظم الكتابات الروائية المشرقية أيضا: (إن التساؤل عن علاقة الأنا العربي بالآخر الغربي، يكاد يتلاحق بمستويات مختلفة منذ عصفور من الشرق إلى قنديل أم هاشم ـ و الحي اللآتيني و موسم الهجرة إلى الشمال ـ، كأنضج وعي يطرح أنا التحدي في مقابل أنا الانبهار، التي عبرت عنها الروايات السابقة)(10) . ثالثا اعتماد قواعد الكتابة الروائية الكلاسيكية: أما على المستوى الفني المجسد لملامح الكتابة الروائية في هذه المرحلة، فيلاحظ أن أغلبها يستمد رصيده من مقومات الرواية الكلاسيكية، المعروفة بهيمنة الحكاية، والاهتمام الكلي بالحبكة الروائية، بالإضافة للمحافظة المطلقة على خطية السرد، واعتماد السارد الكلي المعرفة، فضلا عن كثافة تدخلاته المباشرة(11) ، وهو أمر طبيعي جدا في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الرواية المغربية، نظرا لحداثة الجنس الأدبي من جهة، وجسامة المسؤولية الأدبية الملقاة على كاهل هؤلاء الرواد، في غياب تقاليد روائية قومية، من جهة ثانية. لذلك نعتقد أن مثل هذه المآخذ لن تنال، بأي حال من الأحوال، من القيمة التاريخية العالية لهذه الأعمال. ب/ المرحلة الواقعية: وتمتد طبعا من نهاية المرحلة السابقة لمنتصف السبعينيات تقريبا، وتتميز سياسيا بحصول المغرب على الاستقلال سنة (1956)، ودخوله مرحلة الجهاد الأكبر لمحو آثار التخلف والاستعمار. خصوصا بعد الآمال العريضة التي علقها المغاربة على هذا الحدث السياسي الهام طوال مرحلة الجهاد الأصغر. بحيث أصبح معادلا موضوعيا لبلورة كافة الأهداف التنموية الأخرى، يقول محمد عزيز الحبابي في هذا الصدد: (فاجأني على الخصوص تطرف بعض المواطنين في تأويلاتهم الطوباوية للعهد الجديد، وكان لسان حالهم يقول: لقد حصلنا على الاستقلال.. يكفي الآن أن ندير خاتم سليمان)(12). أهداف ظل معظمها، للأسف الشديد معلقا لأسباب عديدة ومختلفة. مما انعكس في شكل إحباط كبير أصاب فئات شعبية واسعة. شعرت معه وكأنها استغفلت حين قاتلت من أجل قضية ربحها غيرها(13). فاحتدم الصراع المغربي/ المغربي، بين الفئات المستفيدة من الوضع الجديد والفئات المحرومة، خصوصا بعد انتهاء شروط التحالف الاستراتيجي المرحلي السابق ضد المستعمر الأجنبي، وظهور الخلافات المجمدة سابقا على السطح من جديد: (فإذا كان شعار الاستقلال هو العنوان الذي شخص متطلبات تلك الفترة، فإن الأمور اتخذت مجرى آخر عقب ذلك، جعل التحالف المؤقت التكتيكيـ يسفر عن الاختيارات الحقيقية لكل طبقة على حدة)(14) . إذا أضفنا لذلك كله، الآثار السلبية الفادحة المترتبة عن هزيمة(1967) النكراء، وما أحدثته من رجة عنيفة في كيان جميع الشعوب العربية. أمكننا فهم سر اعتماد هذا التاريخ نقطة تحول جذري في مسار الكتابة الأدبية المغربية عامة. وهو ما انعكس على الكتابة الروائية المغربية، التي وجدت ضالتها المنشودة في الواقعيةـ، باعتبارها الاتجاه الإبداعي الكفيل بتحقيق الرهانات التاريخية المطروحة، كما تعكس ذلك بجلاء أعمال محمد زفزاف، عبد الكريم غلاب، مبارك ربيع، ومحمد شكري: (فقد توجه الكتاب الجدد إلى موضوعات مجتمعهم الجديد، واستأُثرت قضايا مرحلتهم التاريخية باهتمامهم، فعبروا عن فكر الطبقة الشعبية وإيديولوجيتها، وصوروا الجهل والفقر والمرض والتخلف والفساد، كما رصدوا مظاهر التجديد في الحياة الاجتماعية وآزروها)(15) . لذلك فلا غرابة إذا ما تميزت أعمال هذه المرحلة بمجموعة من السمات، الفنية والفكرية، الخاصة، نجملها في الجوانب التالية: تكريس هيمنة السياسي على الثقافي. طغيان الكتابة الأطروحية. إعلاء الجوانب الفكرية على الفنية. إعطاء الأولوية لوظيفة الأدب على حساب طبيعته. حضور بعض القضايا القومية(كقضية فلسطين مثلا). الاهتمام بالتاريخ المغربي الحديث والمعاصر كموضوعة روائية أساسية. الحضور القوي لبعض الظواهر الاجتماعية السلبية السائدة. ظهور البطل الإشكالي. إسناد البطولة لمثقفي البورجوازية الصغيرة والمتوسطة. استخدام اللغة البسيطة الخالية تقريبا من كل ملامح البيان العربي الكلاسيكي. اعتماد الحوافز الموضوعية قواعد ثابتة في تحريك الأحداث الروائية، واستبعاد الصدف والمفاجآت المعمول بها سابقا. كل هذا طبعا إلى جانب استمرار حضور موضوعي السيرة الذاتية والغرب، ولو بدرجة أقل،عما كان عليه الحال سابقا، مما يؤكد ملاحظتنا السالفة بخصوص رفض الأدب الخضوع لصرامة التحقيب السياسي والتاريخي. على أنه إذا كانت السمات السابقة تعكس أبرز ملامح الوضع الاجتماعي والسياسي لتلك المرحلة، فلاشك أيضا أن هذا الوضع كانت له سلبيات كثيرة على مسار الكتابة الروائية المغربية. لعل أهمها، على الإطلاق، إعاقته تطور الجوانب الفنية بموازاة الجوانب الفكرية. والحيلولة، بالتالي، دون تحقيق تطور منسجم ومتوازن لهذا الجنس الإبداعي المستحدث في التربة الوطنية، كما لاحظ ذلك الأستاذ العروي: (إن الذين كانوا يدرسون في كل مناسبة سوسيولوجية المضمون، لم يفكروا لحظة واحدة في رسم ولو أولي ـ لسوسيولوجية الشكل)(16). وبذلك ظلت الممارسة الروائية المغربية خاصة، والعربية عامة، تعاني تبعات ولادتها القسرية، في شكل تمزق مأساوي فظيع، بين شكل روائي غربي ومضمون حكائي عربي: (فكيف يستطيع الروائي العربي أن يدفع في شكل مستورد محتواه أو فضاءه المحلي أو الخصوصي، والحال أن الشكل الأوروبي ليس نسجا خارجيا، أو مجرد رداء فضفاض يسع كل مجال)(17). خصوصا أن جهود رواد المرحلة التأسيسية السابقة، لم تتجاوز مهمة ملء الخانة الروائية الفارغة في التراث العربي القديم، عن طريق تقليد النماذج الغربية. قبل أن تنهمك بعدها في معمعة الصراع الإيديولوجي المحموم، معتمدة نفس الأشكال والتقنيات التعبيرية المستوردة. مؤجلة بذلك فرصة البحث عن أشكال سردية ملائمة لواقعنا المغربي، وخصوصياته الثقافية والحضارية إلى ما بعد منتصف السبعينيات، تاريخ بداية المرحلة الراهنة. فهل سيتحقق حلم الروائيين المغاربة: (في بلوغ سن الرشد الإبداعي)(*)، على حد تعبير الأستاذ عبد الكريم غلاب؟. ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في القسم الثاني والأخير من هذه الدراسة. ثانيا: الرواية المغربية حاليا: وتمتد هذه المرحلة زمنيا من تاريخ صدور أول رواية تجريبية إلى اليوم.وتتميز سياسيا بالعديد من الأحداث الهامة، الداخلية والخارجية. كان لها الأثر الكبير في تغيير مسار الأدب والفكر المغربيين، وتحويله بعيدا عما كان عليه في السابق. فعلى المستوى الداخلي تزامنت بداية هذه المرحلة وحدث المسيرة الخضراء سنة (1975)، لتحرير الصحراء، واستعادة الأقاليم الجنوبية المغتصبة من طرف الاستعمار الإسباني. حدث ساهم، إلى حد كبير، في تحقيق المصالحة الوطنية، واستعادة الأمة المغربية لصلابتها المعهودة في مواجهة التحديات الخارجية. مما مهد الطريق واسعا أمام مسلسل الإصلاحات الديموقراطية، لتدشين (مغرب جديد). يطبعه التوافق الوطني العام حول مجموعة من المبادىء الأساسية لدخول (مرحلة التناوب)، وتحقيق الإصلاحات الدستورية والتشريعية المستعجلة لإخراج البلاد من الأزمة الخانقة التي وصلتها في ظل السياسات اللآشعبية السابقة: (لقد طرحت قضية الصحراء كمسألة وطنية، بسبب الطرح الذي قالت به جزائر بومدين، ووقع حولها وفاق وطني، فحصل بالفعل نوع من التصالح بين القوى السياسية العاملة في البلاد وانفتح جهاز الدولة على عناصر خارجة عنه)(18). أما على المستوى الخارجي، فقد شهدت بداية انهيار المعسكر الشرقي، بكل ما يحمله ذلك من دلالات عميقة على فشل الإيديولوجية الاشتراكية في تحقيق الآمال العريضة المعلقة عليها في معظم أرجاء المعمورة. كما شهدت تطورات معرفية كبيرة همت مختلف حقول الدراسة الأدبية، خصوصا بعد الثورة اللسانية، وما واكبها من اهتمام، غير مسبوق، بالجوانب الفنية للنصوص الأدبية، بعيدا عن كل الاعتبارات الخارجية الغريبة عن حقل أدبية الأدب (*) . ولابد هنا من الإشادة بالدور الهام الذي لعبته الجامعة المغربية في إشاعة المفاهيم النقدية الحديثة، وتقريبها من عموم المثقفين، عن طريق الترجمة المباشرة للمصادر الغربية، دون ما حاجة للوساطة المشرقية، كما كان الأمر سابقا. في ظل هذه الشروط السوسيو ثقافية وغيرها(*)، ظهرت على السطح تصورات أدبية جديدة تدعو لتحديث الكتابة الروائية المغربية، والبحث عن آليات مغايرة تتلاءم وخصوصية المرحلة الراهنة(*). مما انعكس في شكل سمات، فنية وفكرية، شكلت، في مجموعها، أبرز مقومات أعمالنا الروائية الحالية، من أهمها: 1. الرواية والتأمل الذاتي: فقد دخل الحكي دائرة اهتمام الروائي، وأصبحت الرواية تسائل نفسها ووسائلها، بعدما كانت، إلى وقت قريب، تهتم بموضوعاتها فقط، معتبرة، ما سواها، من آليات الحكي وطرقه، معطيات جاهزة، متعالية عن كل تفكير. وقد اتخذ هذا التحول الإيجابي، مظاهر عديدة و مختلفة، تتوزع بحكم مواقعها لمستويين: أ/ مظاهر داخل نصية: تتميز جميعها بتواجدها النصي، رغم انقسامها الداخلي، من الناحية النوعية، لمجموعتين: * مظاهر صريحة صائتة: وتشمل كل خطاب مباشر يتخذ طريقة الحكي موضوعا له، كالمقاطع الميتا سردية، وحوارات السارد والشخصيات، أو السارد والكاتب.. إلى غير ذلك مما نجد أمثلة عديدة له في مجموعة من النماذج الروائية المغربية الحديثة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (امرأة النسيان/ أريانة/ وفاس..لو عادت إليه). * مظاهر ضمنية صامتة: يمكن ملامستها، بشكل غير مباشر، من خلال توظيف مجموعة من التقنيات السردية الحديثة، الغريبة نسبيا عما هو مألوف في أعمالنا الروائية السابقة. مما ينم عن اهتمام غير مسبوق بطرق الحكي أيضا. عوض الاقتصار على موضوعاته فقط، كما كان الأمر سابقا. حقيقة يمكن الوقوف عليها من خلال جوانب عديدة أبرزها التطور الملموس المسجل في هندسة بناء النصوص الروائية الجديدة، في ارتباطها العميق ببنية العناوين الداخلية. ب/ مظاهر خارج نصية: وتتمثل في جملة من النصوص الموازية (paratextes)، بمختلف أنواعها (شهادات، حوارات، أو مقدمات شخصية..إلخ)، يضمنها أصحابها أبرز انشغالاتهم الإبداعية، وفي مقدمتها البحث عن أشكال سردية جديدة. علما بأن تعاملنا مع هذه النصوص ينبغي أن يكون حذرا، وأن لا يتجاوز حدود الاستئناس فقط. نظرا لكونها مجرد تعبيرات عن نوايا شخصية، لا أقل ولا أكثر. 2. الكتابة الروائية والتخييل: الخاصية الثانية المميزة لأغلب الأعمال الروائية المغربية الحديثة، تتمثل في اعتمادها المخيلة مصدرا أساسيا للعملية الإبداعية، عوض الاكتفاء باستنساخ الواقع كما كان الأمر سابقا، خصوصا بعد عجز اللغة البين عن مواكبة دقة إنجازات الصورة في هذا المجال، يقول العروي في هذا الصدد: (أرى شخصيا أن قصة الواقع، بعد ظهور السينما والتلفزة، وظهور البحث السوسيولوجي، لم يعد لها ما يبررها، قصة الواقع لم يبق لها أي دور، فلا يمكن للكاتب أن يصور الواقع أكثر مما تصوره السينما، إذن، لا بد أن يبحث القصاص عن موضوع خاص به)(19). موقف لا يعتبر، في تقدير أصحابه هروبا من الواقع، بقدر ما هو وسيلة جديدة للاقتراب منه أكثر(*). عن طريق تحويل الفعل الحكائي من مجرد نقل حرفي محايد لقضايا خارجية، لممارسة داخلية تهتم أساسا بإ براز موقف الذات (أو الذوات) الناقلة لها أيضا. فيما يمكن وصفه بـ (تذويت الحكي)، والانتقال لكتابة (رواية الشعور)(20) عوض رواية الحواس. بكل ما يترتب عن ذلك من تحجيم لحقيقة هذه المحكيات، وتحويلها من محكيات مطلقة متعالية عن كل نقاش، لمحكيات عادية نسبية تستوجب المناقشة والمساءلة على المستويين الفردي و(أو) الجماعي، الخاص و(أو) العام. وهو ما اتخذ شكل هيمنة واضحة للخطاب الذاتي التأملي في أعمال المديني والتازي، وللحوار الموضوعي الثنائي، أو المتعدد الأطراف، في أعمال العروي، برادة، وشغموم. فضلا عن انعكاساته الواضحة على مجموعة من الجوانب السردية الأخرى، يكفي أن نذكر منها بالمناسبة: * هيمنة السرد الذاتي بمختلف أنواعه (الفردي، المتعدد، والمتنوع). * تنويع الرؤيات السردية. * التداعي السردي وتشغيل الذاكرة. * تكسير خطية السرد. * تعدد المحافل السردية. * تداخل الأزمنة الحكائية وتشابكها. * توظيف الأحلام والكوابيس. * تقليص حضور السارد الكلي المعرفة. * تداخل الخطابات، والأجناس الأدبية. * توظيف التناص. * هيمنة الهذيان. والاستغناء عن النقط. * تنويع المحكيات وتداخلها. * تعدد الأصوات. * تعالق النصوص (شخصية كانت أو غيرية). * شعرنة الخطاب الروائي. * انفتاح النص الروائي. * تعليق النهايات الحكائية. * استغلال التراث. * توظيف الأساطير. * تراجع الاهتمام بالحكاية. * توظيف العجائبي. * وتنويع الصيغ السردية إلى غير ذلك من الآليات الحكائية الأخرى الهادفة لتكسير القوالب القديمة، وتوسيع هامش تحرك القارىء للمساهمة بفعالية أكثر في إغناء الممارسة الروائية والدفع بها نحو آفاق أرحب. 3. الاهتمام بالموضوعات الخاصة: ونقصد بذلك التحول الملحوظ على مستوى الموضوعات الحكائية، وانتقالها من موضوعات ذات طبيعة (جماهيرية) عامة (الاستقلال، الاستعمار، الفقر، المساواة، الديمقراطية، العدالة، التخلف، الحرية الصراع الطبقي.. إلخ)، لموضوعات (فردية) خاصة، تتناول الهموم الشخصية اليومية للإنسان المغربي، وما يعانيه من فراغ داخلي مهول، جراء هيمنة القيم المادية، وتحكمها في توجيه علاقاته الاجتماعية، محولة إياه لإنسان بلا عواطف، يعيش وسط مجتمع أشبه ما يكون بغابة موحشة كبيرة، تفتقر لأبسط شروط الحياة الإنسانية، من محبة وإخاء، وتسامح وتعاون، إلى غير ذلك مما يمكن وصفه بمحاولة (أنسنة الخطاب الروائي)، وتسخيره لمعالجة قضايانا الحقيقية الخاصة، بعيدا عن بهرجة الموضوعات العامة، التي تظل، رغم طابعها الجماهيري، بعيدة كليا عن ملامسة جوهر جراحنا الحميمية. وهكذا بدأنا نقرأ عن موضوعات جديدة، ظلت، إلى يوم قريب، خارج دائرة اهتمام الخطاب الروائي الواقعي، المسكون، حتى النخاع، بالقضايا الجماعية الكبرى، متأثرا في ذلك، إلى حد كبير، بهيمنة السياسي على الثقافي. لذلك يمكن اعتبار هذا التحول مؤشرا قويا على بداية استعادة الفعل الثقافي لمبادرته، وحريته في تناول موضوعات جديدة، تبدو ظاهريا مختلفة، لكنها تظل، في العمق، متجانسة، توحدها الرغبة في مصالحة الإنسان المغربي مع نفسه ومجتمعه. سواء عن طريق تعرية مظاهر الخلل في علاقاتنا العامة والخاصة، (امرأة النسيان/ خميل المضاجع/ شجر الخلاطة/ الأناقة/ أريانة/ وغيلة)، أو من خلال محاولة إنقاذ بعض اللحظات المشرقة في ذاكرتنا، الجماعية و(أو) الفردية، المهددة زمنيا بالنسيان (مثل صيف لن يتكرر/ والقاهرة تبوح بأسرارها)، ومكانيا بالتدمير(غيلة/ فاس لو عادت إليه/ خفق أجنحة/ وزهرة الآس). بالإضافة طبعا للكتابة الروائية السجنية، في ولادتها الثانية، مع أعمال عبد القادر الشاوي(*). الهادفة، بحكم طبيعتها ومراميها، لخلق أجواء صحية جديدة. 4. إقامة علاقة تشاركية مع القارىء: السمة الرابعة والأخيرة المميزة للكتابة الروائية المغربية الحديثة، مقارنة بنظيراتها السابقة، تتمثل في علاقتها التشاركية الجديدة مع القارئ، باعتباره طرفا أساسيا فاعلا في العملية الإبداعية، عكس ما كان عليه الحال في المرحلة الأولى، حيث كان دوره يقتصر، في أحسن الأحوال، على استيعاب رسالة الكاتب وتمثلها. مما اعتبر استهتارا بالكتابة والقراءة، على حد سواء. و بالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن المراهنة الزائدة على مشاركة القارئ الإيجابية في العملية الإبداعية، غالبا ما أفضت، في ظل الشروط السوسيو ثقافية السلبية المعروفة، لنتائج سلبية، تمثلت أساسا في تفاقم أزمة القراءة، واستفحالها لتشمل الفئات المثقفة أيضا، بعدما كانت في السابق محصورة في الأميين فقط. مما يستوجب التفكير في إيجاد آلية (آليات) تعبيرية جديدة، من شأنها إعادة مد الجسور شبه المقطوعة بين الروائيين والقراء، دون التفريط طبعا في رهانات التحديث. كي لا تتحول روايتنا لخطاب نخبوي يتداوله المتخصصون وحدهم. ومع ذلك، فلابد من الاعتراف بأن الرواية المغربية شهدت في هذه المرحلة الأخيرة تحولات كمية وكيفية هامة، تمثلت في ارتفاع رقم إصداراتها السنوية، وما رافقه من تلوينات فنية كبيرة، أضفت على مشهدنا الروائي العربي ثراء لافتا يتجاوز حداثة سنه بكثير، مما يبشر بمستقبل واعد في هذا المجال. كلية الآداب/ مكناس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ */ نقصد به سنة (1957)، تاريخ صدور: في الطفولة، لعبد المجيد بنجلون. */ أحمد المديني: زمن بين الولادة والحلم (رواية)، دار النشر المغربية، 1976. 1/ أنظر: أحمد المديني: في الأدب المغربي المعاصر. سلسلة دراسات تحليلية، دار النشر المغربية، 1985، ص: 42. 2/ أنظر: أحمد اليبوري: (تكون الخطاب الروائي)، مجلة آفاق، عدد: 3/4، سنة: 1984، ص: 14. ـ عبد القادر الشاوي: (الزاوية، الحكاية والكتابة). ضمن كتاب: الرواية المغربية بين السيرة الذاتية واستيحاء الواقع. دار النشر المغربية.1985، ص: 12. 3/ أنظر: محمد عزام: وعي العالم الروائي. دراسات في الرواية المغربية. منشورات اتحاد الكتاب العرب. 1990، ص: 78. 4/ أحمد المديني: مرجع مذكور، 1985، ص: 40. 5/ محمد برادة: (الأسس النظرية للرواية المغربية المكتوبة بالعربية). ضمن كتاب: الرواية المغربية. لعبد الكبير الخطيبي، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط. 1971. ص: 147/148. */ يقول محمد عزام معلقا على هذه الخاصية،في كتاب مذكور(1990)، الصفحة: 22: (الواقع أن معظم الروايات المغربية، وعلى الخصوص روايات البدايات، هي روايات سير ذاتية بشكل أو بآخر، حيث غالبا ما ينهل كاتبها من تجربته، محاولا الاستفادة من ماضيه كما هو، أو محورا بصياغة فنية، تختلف من كاتب لآخر). 6/ محمد برادة: مقالة مذكورة، الصفحة: 141. 7/ أنظر: عبد الله العروي: الإيديولوجية العربية المعاصرة. ترجمة: محمد العيتاني. دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى، 1970، ص: 155. 8/ محمد برادة: مقالته المذكورة، ص: 141/142. 9/ محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 32. 10/ سعيد علوش: دراسة بعنوان: (الواقع والمتخيل والمحتمل). ضمن كتاب: الرواية العربية واقع وآفاق. دار ابن رشد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1981، ص: 203. 11/ محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 222. 12/ محمد عزيز الحبابي: مقالة بعنوان: ( الرواية وصراع الأجيال)، منشورة بمجلة آفاق، عدد:3/4، سنة:1984، ص: 123 13/ محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 13. 14/ إدريس الناقوري: المصطلح المشترك. دار النشر المغربية، 1977، ص: 30. 15/ محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 77. 16/ عبد الله العروي: مرجع مذكور، 1970، ص: 268. 17/ أحمد المديني: دراسة بعنوان: (الخطاب الروائي العربي، الخطاب المستحيل). منشورة بمجلة الطريق، عدد:3/4، سنة:1981، ص: 73. */ أنظر: عبد الكريم غلاب: (الرواية حياة متكاملة). مجلة آفاق، عدد:3/4، سنة: 1984، ص: 106. 18/ عبد الله العروي: في حوار: (التحديث والديموقراطية)، مجلة آفاق المغربية، عدد: 3/4، سنة: 1992، الصفحة: 160/161. */ يقول رومان ياكبسون في هذا الصدد: (إن موضوع علم الأدب، ليس هو الأدب، وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا). ـ أنظر: الشكلانيون الروس: نظرية المنهج الشكلي. ترجمة: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى، 1982، ص: 35. */ نذكر منها على الخصوص علاقتنا التاريخية الملغزة بالمشرق، وما تضمره من صراع خفي حول الريادة الثقافية العربية، يشكل قوة دفع معنوية حقيقية خفية لمضاعفة الجهود المبذولة على مختلف المستويات، خصوصا بعدما استنفذ المشرق/ المركز، أو كاد، كل جهوده في المراحل التاريخية السابقة، وأصبح مطمئنا لما حققه من تقدم، مما يعطي الهامش العربي، ممثلا في المغرب، وغيره من الدول الأخرى، فرصة تاريخية لتحقيق طموحاته القومية المشروعة. يقول الأستاذ عبد الله العروي في نفس الحوار السابق، المنشور بمجلة آفاق المغربية، عدد: ¾، سنة: 1992، الصفة: 167: (أتأمل ما حصل في مصر، وكيف تراجعت فيها الحركة الثقافية إلى ما نرى اليوم، وأفتكر أحيانا أن السبب قد يكون التمادي في الطمأنينة عند المصريين، كما لو كانوا يقولون: نحن هنا منذ خمسة آلاف سنة، فلن يلحقنا ضرر، هذا الاطمئنان في نظري خدعة، وأية خدعة، إلا أن الأمر يختلف فيما يتعلق بالمغرب، سأقول الآن قولة قد تغضب كثيرا من إخواننا خارج المغرب، وهي تعبر عن عقيدة ركزتها في نفسي التربية الوطنية. أعتقد أنه يوجد مستوى في وعي المغاربة تتجمع فيه بواعث المطالبة بالمزيد من الإنجاز، أشعر شعورا غامضا وعميقا أن المغربي لا زالت له مطالب يقدمها إلى التاريخ. فهو ينتظر المزيد، ويريد المزيد، ويطالب بالمزيد. فهو غير راض على ما حقق في القرون الماضية، لا يقول مثل المصري: قد وصلت من الإنجاز إلى حد لا يمكن أن أتصور تجاوزه والتفوق عليه. وهذا الفرق في النفسانية واضح لكل من عاش في البلدين. المغربي، بعكس ذلك، يعتقد أنه قد ينجز أكثر مما أنجز في الماضي، ربما لأنه لم يشارك بالقدر الكافي في العملية السياسية، فالعطاء المغربي، المساهمة المغربية، الإبداع المغربي، كل ذلك في سجل المستقبل، لا في لوح الماضي. هذه قناعتي، أحكم على كثير من الأمور عندنا بالتفاهة وبالتقليد وبالمجانية وبالتقادم، ولكني أنتهي دائما بالدعوة إلى العمل والإنجاز، إلى الانفتاح على المستقبل، انطلاقا من ذلك الشعور الغامض بأن الوعد لم يتحقق كله بعد). */ أنظر: محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 228/229. 19/ عبد الله العروي: حوار بعنوان: (عبد الله العروي: الأفق الروائي)، منشور بمجلة الكرمل، عدد:11، سنة: 1984، الصفحة: 176/177. */ يقول الحبيب الدائم ربي في مقالة بعنوان: (الكتابة ـ التناص وأفق التخييل في (امرأة النسيان)، منشورة بمجلة الآداب البيروتية، العدد: 5/6، سنة: 2003، الصفحة: 93: (إن التخييل ليس بالضرورة فعلا متساميا على الواقع ومفارقا له، وإنما هو جزء من مكوناته، إنه واقع تشيده الكتابة بواسطة اللغة، لربما صار الواقع المشيد عبر اللغة أشد رسوخا من بعض العناصر المادية). 20/ عبد الله العروي: (الأفق الروائي)، حوار منشور بمجلة الكرمل، العدد: 11، سنة: 1984، الصفحة: 177. */ يشار هنا بالمناسبة إلى أن الكتابة السجنية بالمغرب عرفت ولادتها الأولى مع عبد الكريم غلاب في: سبعة أبواب، منشورات دار المعارف المصرية، 1965. قبل أن تعود ثانية للمشهد الروائي المغربي، بعد عقدين من الزمن، وبالضبط سنة 1986، تاريخ صدور (كان وأخواتها) لعبد القادر الشاوي، مع فارق كبير في نوعية السجان وحيثيات الاعتقال طبعا.
تتناول هذه الدراسة، كما يوحي بذلك عنوانها، راهن الرواية المغربية، في محاولة لرصد أبرز مظاهر تطورها، على مختلف المستويات، الكمية والكيفية، الفنية والفكرية إلخ. بعد مرور أزيد من نصف قرن على أرجح تاريخ مفترض لولادتها الحقيقية (*). لبلوغ هذه الغاية، كان لا بد إذن، من العودة قليلا إلى الوراء لدراسة أعمال المرحلة السابقة، باعتبارها خلفية ضرورية لفهم حاضر الرواية المغربية، وتجلية حقيقة تطوراتها الراهنة، مما يؤكد قوة التلاحم القائم بين هاتين المرحلتين،لدرجة تصبح معها كل محاولة تحقيبية مجرد إجراء منهجي فقط. وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن دراستنا هذه ستنقسم منهجيا لقسمين كبيرين، مختلفين ومتداخلين، يخصص كل واحد منهما للحديث عن مرحلة معينة، على أن تكون البداية طبعا بالمرحلة السابقة (الماضي)، ننتقل بعدها، للحديث بتفصيل عن مختلف مقومات المرحلة الحالية (الحاضر)، وما عرفته من تطورات. لكن قبل ذلك، لابد من تقديم ثلاث ملاحظات، أعتبرها ضرورية لتوضيح طبيعة هذه الدراسة وضبط حدودها المعرفية، تفاديا لكل لبس محتمل:
الأولى: أن هذه الدراسة ستنصب، بحكم طبيعتها، على مختلف الظواهر العامة البارزة في راهن الكتابة الروائية المغربية، غير غافلة عما يمكن أن يتولد عن ذلك من ضياع اضطراري لبعض الاستثناءات والخصوصيات الدقيقة المتأبية على الملاحقة خارج نطاق الدراسة النصية المحايثة.
الثانية: أننا حصرنا نطاق الدراسة، لأسباب عديدة، في دائرة الرواية المغربية المكتوبة بالعربية وحدها، دون غيرها من الروايات الأخرى، المكتوبة باللغات الأجنبية أو اللهجات المحلية. رغم معرفتنا العميقة بالصعوبات الكبيرة التي يطرحها مثل هذا الإجراء.
والثالثة والأخيرة: أننا اعتمدنا المعيار الزمني للفصل إجرائيا بين مختلف مراحل الرواية المغربية، رغم ما قد يحدثه ذلك أحيانا من نتائج سلبية متولدة أساسا عن صعوبة الربط الآلي الدقيق بين ما هو تاريخي وما هو أدبي. فماذا عن واقع الرواية المغربية في الفترة السابقة؟.
أولا: الرواية المغربية سابقا: ونعني بها الفترة الفاصلة بين تاريخ صدور أول عمل روائي مغربي تأسيسي، وتاريخ صدور أول عمل روائي تجريبي (*). وتنقسم داخليا، حسب نوعية أعمالها وأهدافها، لمرحلتين فرعيتين، مختلفتين ومتداخلتين:
أ/ المرحلة التأسيسية: وتمتد من تاريخ البداية مفترضة للكتابة الروائية المغربية، لمنتصف الستينيات، وبالضبط لسنة (1967)، تاريخ صدور رواية (جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي. وأسميناها بالتأسيسية، لأن مجمل الأعمال المنضوية تحتها، وعددها حوالي (28) عملا، يطغى عليها هاجس إرساء قواعد ممارسة روائية مغربية، تسد خصاص الموروث الثقافي المغربي في هذا المجال، وتحاول محو آثاره المعرفية السلبية.
على أنه إذا كان هناك شبه إجماع حول تاريخ نهاية هذه المرحلة، فإن بدايتها ظلت، مع ذلك، محط خلاف قوي بين الباحثين. فمنهم من أرجعها لسنة (1957)، تاريخ صدور(في الطفولة)(1) لعبد المجيد بنجلون، ومنهم من ذهب لما هو أبعد، وربطها بتاريخ صدور (الزاوية)(2) للتهامي الوزاني سنة (1942)، أو (الرحلة المراكشية)(3) لابن المؤقت سنة (1924).
ومهما يكن الأمر، فالمؤكد، في جميع الحالات، أن ظهور الرواية العربية بالمغرب عرف تأخرا ملحوظا مقارنة بتاريخي ظهورها في الشرق والغرب، وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أنه تأخر مضاعف، جعل من الأعمال الروائية الشرقية والغربية نماذج تحتدى، كما يشير لذلك المديني: (بالنسبة للرواية المغربية تبدو الورطة أكبر، ما دامت تمثل العطب المزدوج، عطبها الخاص المتعلق بنشأتها، وعطب تقليدها للرواية المشرقية التي قلدت بدورها رواية الغرب، المبدع الحقيقي، بلا منازع، للرواية العصرية)(4).
لهذا كان طبيعيا أن تتصف أغلب أعمال هذه المرحلة ب: (الإذقاع الفني والمحاكاة الحرفية لبعض النماذج المشرقية المتجاوزة)(5) . كما هو الحال بالنسبة(لأمطار الرحمة) لعبد الرحمان المريني، و(غدا تتبدل الأرض) لفاطمة الراوي، و(بوتقة الحياة) للبكري السباعي، و(إنها الحياة) لمحمد البوعناني. مما جعل الذاكرة الثقافية الوطنية تسقط من مخزونها أغلب أعمال هذه المرحلة، باستثناء عناوين خمسة، نسوقها حسب ترتيبها الكرونولوجي، وهي:
(الزاوية) للتهامي الوزاني(1942). (في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون (1957). (سبعة أبواب) لعبد الكريم غلاب (1965). (دفنا الماضي) لعبد الكريم غلاب (1966) و(جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي(1967).
باعتبارها أعمالا تمتلك قيمة فنية تمثيلية عالية، تؤهلها لإعطاء صورة واضحة ودقيقة عن ملامح الكتابة الروائية المغربية آنذاك. ملامح يمكن تلخيصها في الجوانب التالية:
أولا ـ امتزاج الروائي بالسير ذاتي: لعل أبرز ما يشد انتباه الباحث في أعمال هذه المرحلة التأسيسية الهامة، من مراحل الكتابة الروائية المغربية، وربما في غيرها أيضا، طغيان ظاهرة امتزاج الروائي بالسير ذاتي، بحيث لا يكاد يخلو عمل من الأعمال الخمسة السابقة من بعض آثار هذا المكون الخاص على المستوى الحكائي، وما موضوع (في الطفولة) و(سبعة أبواب) سوى دليل قاطع على ذلك (*).
ظاهرة تستدعي البحث عن الأسباب الثاوية خلفها لمعرفة ما إذا كانت مؤشرا على ما يطبع البدايات عادة من خلط أجناسي، ينم عن سوء فهم لخصوصية الكتابة الروائية، أم إفرازا موضوعيا يرتبط بمعطيات المرحلة التاريخية المذكورة. علما بأنها ظاهرة عامة تتجاوز نطاق ما هو قطري محلي، لتطول البدايات الروائية الشرقية والغربية على حد سواء: (اتخاذ السيرة الذاتية شكلا للتعبير عن الذات وعلاقتها بالمجتمع، ليس ظاهرة قاصرة علينا، فنحن نجدها واضحة وقوية في الإنتاج المصري خلال العشرينات الأولى، من القرن الماضي)(6). بدليل (زينب) لهيكل، و(الأيام) لطه حسين، و(حياتي) لأحمد أمين، وغيرها. مما يؤشر على تماثل كبير في شروط وملابسات البدايات الروائية في المركز(الغرب والشرق) والمحيط (المغرب). يستوجب البحث عن أسباب ذلك في القواسم المشتركة العامة، أكثر من جوانب التميز الخاصة. وأغلب الظن أن معرفة عميقة بالخصوصيات الإبداعية لهذا الجنس الأدبي في ارتباطها بالسياق السوسيو ثقافي العام، ستفيد حتما في كشف العديد من أسرار هذا الوضع المثير، كما يشير بذلك عبد الله العروي: (الواقع أن رواج النوع الروائي كان على حد سواء نتيجة تأثير فني وعلامة لذاتية متحررة بغتة، لذلك فقد عرفت الرواية شكلا واحدا هو شكل السيرة الذاتية، إلى حد أن الرواية الفنية ظلت خلال زمن طويل مرادفا لرواية السيرة الذاتية)(7)، مما يسمح باستنتاج أن بداية الكتابة الروائية المغربية كانت محكومة تاريخيا بما يمكن نعته بتضخم الأنا، لدرجة لم يجد معها الروائيون آنذاك بدا من تجربتهم الشخصية موضوعا أساسيا للحكي: (في مرحلة أحس خلالها المتعلمون والمثقفون بأهميتهم، فراحوا يستكشفون ذواتهم، ويعكفون على تفسير أنا هم المتضخمة، وعلى تحديد العلاقة بينهم وبين مجتمعهم المتحرك في اتجاه واحد)(8) .
ثانياـ حضور الآخر: الخاصية الثانية المميزة لأعمال هذه المرحلة تتمثل في حضور الآخر/ الغرب، بأشكال مختلفة، كطرف أساسي فاعل في معادلة الصراع الحكائي، كما يجسد ذلك، بشكل صارخ، مضمون سيرة عبد المجيد بنجلون (في الطفولة): (ففيها يتحدث الكاتب بضمير المتكلم عن طفولته، هادفا إلى إرضاء رغبة نفسية في تسجيل ذكرياته الحبيبة كطفل عاش في بيئتين متناقضتين: أنجلترا والمغرب)(9)، حضور يجد سنده الموضوعي في الخصوصية التاريخية لهذه المرحلة المعروفة وطنيا وقوميا بكثرة المصادمات الحضارية وتنوع مظاهرها (الاستعمار، المطالبة بالاستقلال، التحدي الحضاري، والمثاقفة). وهو ما يفسر، في الوقت ذاته، الحضور القوي لهذه الموضوعة الحكائية في معظم الكتابات الروائية المشرقية أيضا: (إن التساؤل عن علاقة الأنا العربي بالآخر الغربي، يكاد يتلاحق بمستويات مختلفة منذ عصفور من الشرق إلى قنديل أم هاشم ـ و الحي اللآتيني و موسم الهجرة إلى الشمال ـ، كأنضج وعي يطرح أنا التحدي في مقابل أنا الانبهار، التي عبرت عنها الروايات السابقة)(10) .
ثالثا اعتماد قواعد الكتابة الروائية الكلاسيكية: أما على المستوى الفني المجسد لملامح الكتابة الروائية في هذه المرحلة، فيلاحظ أن أغلبها يستمد رصيده من مقومات الرواية الكلاسيكية، المعروفة بهيمنة الحكاية، والاهتمام الكلي بالحبكة الروائية، بالإضافة للمحافظة المطلقة على خطية السرد، واعتماد السارد الكلي المعرفة، فضلا عن كثافة تدخلاته المباشرة(11) ، وهو أمر طبيعي جدا في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الرواية المغربية، نظرا لحداثة الجنس الأدبي من جهة، وجسامة المسؤولية الأدبية الملقاة على كاهل هؤلاء الرواد، في غياب تقاليد روائية قومية، من جهة ثانية. لذلك نعتقد أن مثل هذه المآخذ لن تنال، بأي حال من الأحوال، من القيمة التاريخية العالية لهذه الأعمال.
ب/ المرحلة الواقعية: وتمتد طبعا من نهاية المرحلة السابقة لمنتصف السبعينيات تقريبا، وتتميز سياسيا بحصول المغرب على الاستقلال سنة (1956)، ودخوله مرحلة الجهاد الأكبر لمحو آثار التخلف والاستعمار. خصوصا بعد الآمال العريضة التي علقها المغاربة على هذا الحدث السياسي الهام طوال مرحلة الجهاد الأصغر. بحيث أصبح معادلا موضوعيا لبلورة كافة الأهداف التنموية الأخرى، يقول محمد عزيز الحبابي في هذا الصدد: (فاجأني على الخصوص تطرف بعض المواطنين في تأويلاتهم الطوباوية للعهد الجديد، وكان لسان حالهم يقول: لقد حصلنا على الاستقلال.. يكفي الآن أن ندير خاتم سليمان)(12). أهداف ظل معظمها، للأسف الشديد معلقا لأسباب عديدة ومختلفة. مما انعكس في شكل إحباط كبير أصاب فئات شعبية واسعة. شعرت معه وكأنها استغفلت حين قاتلت من أجل قضية ربحها غيرها(13). فاحتدم الصراع المغربي/ المغربي، بين الفئات المستفيدة من الوضع الجديد والفئات المحرومة، خصوصا بعد انتهاء شروط التحالف الاستراتيجي المرحلي السابق ضد المستعمر الأجنبي، وظهور الخلافات المجمدة سابقا على السطح من جديد: (فإذا كان شعار الاستقلال هو العنوان الذي شخص متطلبات تلك الفترة، فإن الأمور اتخذت مجرى آخر عقب ذلك، جعل التحالف المؤقت التكتيكيـ يسفر عن الاختيارات الحقيقية لكل طبقة على حدة)(14) .
إذا أضفنا لذلك كله، الآثار السلبية الفادحة المترتبة عن هزيمة(1967) النكراء، وما أحدثته من رجة عنيفة في كيان جميع الشعوب العربية. أمكننا فهم سر اعتماد هذا التاريخ نقطة تحول جذري في مسار الكتابة الأدبية المغربية عامة. وهو ما انعكس على الكتابة الروائية المغربية، التي وجدت ضالتها المنشودة في الواقعيةـ، باعتبارها الاتجاه الإبداعي الكفيل بتحقيق الرهانات التاريخية المطروحة، كما تعكس ذلك بجلاء أعمال محمد زفزاف، عبد الكريم غلاب، مبارك ربيع، ومحمد شكري: (فقد توجه الكتاب الجدد إلى موضوعات مجتمعهم الجديد، واستأُثرت قضايا مرحلتهم التاريخية باهتمامهم، فعبروا عن فكر الطبقة الشعبية وإيديولوجيتها، وصوروا الجهل والفقر والمرض والتخلف والفساد، كما رصدوا مظاهر التجديد في الحياة الاجتماعية وآزروها)(15) .
لذلك فلا غرابة إذا ما تميزت أعمال هذه المرحلة بمجموعة من السمات، الفنية والفكرية، الخاصة، نجملها في الجوانب التالية:
تكريس هيمنة السياسي على الثقافي. طغيان الكتابة الأطروحية. إعلاء الجوانب الفكرية على الفنية. إعطاء الأولوية لوظيفة الأدب على حساب طبيعته. حضور بعض القضايا القومية(كقضية فلسطين مثلا). الاهتمام بالتاريخ المغربي الحديث والمعاصر كموضوعة روائية أساسية. الحضور القوي لبعض الظواهر الاجتماعية السلبية السائدة. ظهور البطل الإشكالي. إسناد البطولة لمثقفي البورجوازية الصغيرة والمتوسطة. استخدام اللغة البسيطة الخالية تقريبا من كل ملامح البيان العربي الكلاسيكي. اعتماد الحوافز الموضوعية قواعد ثابتة في تحريك الأحداث الروائية، واستبعاد الصدف والمفاجآت المعمول بها سابقا.
كل هذا طبعا إلى جانب استمرار حضور موضوعي السيرة الذاتية والغرب، ولو بدرجة أقل،عما كان عليه الحال سابقا، مما يؤكد ملاحظتنا السالفة بخصوص رفض الأدب الخضوع لصرامة التحقيب السياسي والتاريخي.
على أنه إذا كانت السمات السابقة تعكس أبرز ملامح الوضع الاجتماعي والسياسي لتلك المرحلة، فلاشك أيضا أن هذا الوضع كانت له سلبيات كثيرة على مسار الكتابة الروائية المغربية. لعل أهمها، على الإطلاق، إعاقته تطور الجوانب الفنية بموازاة الجوانب الفكرية. والحيلولة، بالتالي، دون تحقيق تطور منسجم ومتوازن لهذا الجنس الإبداعي المستحدث في التربة الوطنية، كما لاحظ ذلك الأستاذ العروي: (إن الذين كانوا يدرسون في كل مناسبة سوسيولوجية المضمون، لم يفكروا لحظة واحدة في رسم ولو أولي ـ لسوسيولوجية الشكل)(16). وبذلك ظلت الممارسة الروائية المغربية خاصة، والعربية عامة، تعاني تبعات ولادتها القسرية، في شكل تمزق مأساوي فظيع، بين شكل روائي غربي ومضمون حكائي عربي: (فكيف يستطيع الروائي العربي أن يدفع في شكل مستورد محتواه أو فضاءه المحلي أو الخصوصي، والحال أن الشكل الأوروبي ليس نسجا خارجيا، أو مجرد رداء فضفاض يسع كل مجال)(17). خصوصا أن جهود رواد المرحلة التأسيسية السابقة، لم تتجاوز مهمة ملء الخانة الروائية الفارغة في التراث العربي القديم، عن طريق تقليد النماذج الغربية. قبل أن تنهمك بعدها في معمعة الصراع الإيديولوجي المحموم، معتمدة نفس الأشكال والتقنيات التعبيرية المستوردة. مؤجلة بذلك فرصة البحث عن أشكال سردية ملائمة لواقعنا المغربي، وخصوصياته الثقافية والحضارية إلى ما بعد منتصف السبعينيات، تاريخ بداية المرحلة الراهنة. فهل سيتحقق حلم الروائيين المغاربة: (في بلوغ سن الرشد الإبداعي)(*)، على حد تعبير الأستاذ عبد الكريم غلاب؟. ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في القسم الثاني والأخير من هذه الدراسة.
ثانيا: الرواية المغربية حاليا: وتمتد هذه المرحلة زمنيا من تاريخ صدور أول رواية تجريبية إلى اليوم.وتتميز سياسيا بالعديد من الأحداث الهامة، الداخلية والخارجية. كان لها الأثر الكبير في تغيير مسار الأدب والفكر المغربيين، وتحويله بعيدا عما كان عليه في السابق. فعلى المستوى الداخلي تزامنت بداية هذه المرحلة وحدث المسيرة الخضراء سنة (1975)، لتحرير الصحراء، واستعادة الأقاليم الجنوبية المغتصبة من طرف الاستعمار الإسباني. حدث ساهم، إلى حد كبير، في تحقيق المصالحة الوطنية، واستعادة الأمة المغربية لصلابتها المعهودة في مواجهة التحديات الخارجية. مما مهد الطريق واسعا أمام مسلسل الإصلاحات الديموقراطية، لتدشين (مغرب جديد). يطبعه التوافق الوطني العام حول مجموعة من المبادىء الأساسية لدخول (مرحلة التناوب)، وتحقيق الإصلاحات الدستورية والتشريعية المستعجلة لإخراج البلاد من الأزمة الخانقة التي وصلتها في ظل السياسات اللآشعبية السابقة: (لقد طرحت قضية الصحراء كمسألة وطنية، بسبب الطرح الذي قالت به جزائر بومدين، ووقع حولها وفاق وطني، فحصل بالفعل نوع من التصالح بين القوى السياسية العاملة في البلاد وانفتح جهاز الدولة على عناصر خارجة عنه)(18).
أما على المستوى الخارجي، فقد شهدت بداية انهيار المعسكر الشرقي، بكل ما يحمله ذلك من دلالات عميقة على فشل الإيديولوجية الاشتراكية في تحقيق الآمال العريضة المعلقة عليها في معظم أرجاء المعمورة. كما شهدت تطورات معرفية كبيرة همت مختلف حقول الدراسة الأدبية، خصوصا بعد الثورة اللسانية، وما واكبها من اهتمام، غير مسبوق، بالجوانب الفنية للنصوص الأدبية، بعيدا عن كل الاعتبارات الخارجية الغريبة عن حقل أدبية الأدب (*) .
ولابد هنا من الإشادة بالدور الهام الذي لعبته الجامعة المغربية في إشاعة المفاهيم النقدية الحديثة، وتقريبها من عموم المثقفين، عن طريق الترجمة المباشرة للمصادر الغربية، دون ما حاجة للوساطة المشرقية، كما كان الأمر سابقا.
في ظل هذه الشروط السوسيو ثقافية وغيرها(*)، ظهرت على السطح تصورات أدبية جديدة تدعو لتحديث الكتابة الروائية المغربية، والبحث عن آليات مغايرة تتلاءم وخصوصية المرحلة الراهنة(*). مما انعكس في شكل سمات، فنية وفكرية، شكلت، في مجموعها، أبرز مقومات أعمالنا الروائية الحالية، من أهمها:
1. الرواية والتأمل الذاتي: فقد دخل الحكي دائرة اهتمام الروائي، وأصبحت الرواية تسائل نفسها ووسائلها، بعدما كانت، إلى وقت قريب، تهتم بموضوعاتها فقط، معتبرة، ما سواها، من آليات الحكي وطرقه، معطيات جاهزة، متعالية عن كل تفكير. وقد اتخذ هذا التحول الإيجابي، مظاهر عديدة و مختلفة، تتوزع بحكم مواقعها لمستويين:
أ/ مظاهر داخل نصية: تتميز جميعها بتواجدها النصي، رغم انقسامها الداخلي، من الناحية النوعية، لمجموعتين:
* مظاهر صريحة صائتة: وتشمل كل خطاب مباشر يتخذ طريقة الحكي موضوعا له، كالمقاطع الميتا سردية، وحوارات السارد والشخصيات، أو السارد والكاتب.. إلى غير ذلك مما نجد أمثلة عديدة له في مجموعة من النماذج الروائية المغربية الحديثة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (امرأة النسيان/ أريانة/ وفاس..لو عادت إليه).
* مظاهر ضمنية صامتة: يمكن ملامستها، بشكل غير مباشر، من خلال توظيف مجموعة من التقنيات السردية الحديثة، الغريبة نسبيا عما هو مألوف في أعمالنا الروائية السابقة. مما ينم عن اهتمام غير مسبوق بطرق الحكي أيضا. عوض الاقتصار على موضوعاته فقط، كما كان الأمر سابقا. حقيقة يمكن الوقوف عليها من خلال جوانب عديدة أبرزها التطور الملموس المسجل في هندسة بناء النصوص الروائية الجديدة، في ارتباطها العميق ببنية العناوين الداخلية.
ب/ مظاهر خارج نصية: وتتمثل في جملة من النصوص الموازية (paratextes)، بمختلف أنواعها (شهادات، حوارات، أو مقدمات شخصية..إلخ)، يضمنها أصحابها أبرز انشغالاتهم الإبداعية، وفي مقدمتها البحث عن أشكال سردية جديدة. علما بأن تعاملنا مع هذه النصوص ينبغي أن يكون حذرا، وأن لا يتجاوز حدود الاستئناس فقط. نظرا لكونها مجرد تعبيرات عن نوايا شخصية، لا أقل ولا أكثر.
2. الكتابة الروائية والتخييل: الخاصية الثانية المميزة لأغلب الأعمال الروائية المغربية الحديثة، تتمثل في اعتمادها المخيلة مصدرا أساسيا للعملية الإبداعية، عوض الاكتفاء باستنساخ الواقع كما كان الأمر سابقا، خصوصا بعد عجز اللغة البين عن مواكبة دقة إنجازات الصورة في هذا المجال، يقول العروي في هذا الصدد: (أرى شخصيا أن قصة الواقع، بعد ظهور السينما والتلفزة، وظهور البحث السوسيولوجي، لم يعد لها ما يبررها، قصة الواقع لم يبق لها أي دور، فلا يمكن للكاتب أن يصور الواقع أكثر مما تصوره السينما، إذن، لا بد أن يبحث القصاص عن موضوع خاص به)(19).
موقف لا يعتبر، في تقدير أصحابه هروبا من الواقع، بقدر ما هو وسيلة جديدة للاقتراب منه أكثر(*). عن طريق تحويل الفعل الحكائي من مجرد نقل حرفي محايد لقضايا خارجية، لممارسة داخلية تهتم أساسا بإ براز موقف الذات (أو الذوات) الناقلة لها أيضا. فيما يمكن وصفه بـ (تذويت الحكي)، والانتقال لكتابة (رواية الشعور)(20) عوض رواية الحواس. بكل ما يترتب عن ذلك من تحجيم لحقيقة هذه المحكيات، وتحويلها من محكيات مطلقة متعالية عن كل نقاش، لمحكيات عادية نسبية تستوجب المناقشة والمساءلة على المستويين الفردي و(أو) الجماعي، الخاص و(أو) العام. وهو ما اتخذ شكل هيمنة واضحة للخطاب الذاتي التأملي في أعمال المديني والتازي، وللحوار الموضوعي الثنائي، أو المتعدد الأطراف، في أعمال العروي، برادة، وشغموم. فضلا عن انعكاساته الواضحة على مجموعة من الجوانب السردية الأخرى، يكفي أن نذكر منها بالمناسبة:
* هيمنة السرد الذاتي بمختلف أنواعه (الفردي، المتعدد، والمتنوع). * تنويع الرؤيات السردية. * التداعي السردي وتشغيل الذاكرة. * تكسير خطية السرد. * تعدد المحافل السردية. * تداخل الأزمنة الحكائية وتشابكها. * توظيف الأحلام والكوابيس. * تقليص حضور السارد الكلي المعرفة. * تداخل الخطابات، والأجناس الأدبية. * توظيف التناص. * هيمنة الهذيان. والاستغناء عن النقط. * تنويع المحكيات وتداخلها. * تعدد الأصوات. * تعالق النصوص (شخصية كانت أو غيرية). * شعرنة الخطاب الروائي. * انفتاح النص الروائي. * تعليق النهايات الحكائية. * استغلال التراث. * توظيف الأساطير. * تراجع الاهتمام بالحكاية. * توظيف العجائبي. * وتنويع الصيغ السردية إلى غير ذلك من الآليات الحكائية الأخرى الهادفة لتكسير القوالب القديمة، وتوسيع هامش تحرك القارىء للمساهمة بفعالية أكثر في إغناء الممارسة الروائية والدفع بها نحو آفاق أرحب.
3. الاهتمام بالموضوعات الخاصة: ونقصد بذلك التحول الملحوظ على مستوى الموضوعات الحكائية، وانتقالها من موضوعات ذات طبيعة (جماهيرية) عامة (الاستقلال، الاستعمار، الفقر، المساواة، الديمقراطية، العدالة، التخلف، الحرية الصراع الطبقي.. إلخ)، لموضوعات (فردية) خاصة، تتناول الهموم الشخصية اليومية للإنسان المغربي، وما يعانيه من فراغ داخلي مهول، جراء هيمنة القيم المادية، وتحكمها في توجيه علاقاته الاجتماعية، محولة إياه لإنسان بلا عواطف، يعيش وسط مجتمع أشبه ما يكون بغابة موحشة كبيرة، تفتقر لأبسط شروط الحياة الإنسانية، من محبة وإخاء، وتسامح وتعاون، إلى غير ذلك مما يمكن وصفه بمحاولة (أنسنة الخطاب الروائي)، وتسخيره لمعالجة قضايانا الحقيقية الخاصة، بعيدا عن بهرجة الموضوعات العامة، التي تظل، رغم طابعها الجماهيري، بعيدة كليا عن ملامسة جوهر جراحنا الحميمية.
وهكذا بدأنا نقرأ عن موضوعات جديدة، ظلت، إلى يوم قريب، خارج دائرة اهتمام الخطاب الروائي الواقعي، المسكون، حتى النخاع، بالقضايا الجماعية الكبرى، متأثرا في ذلك، إلى حد كبير، بهيمنة السياسي على الثقافي. لذلك يمكن اعتبار هذا التحول مؤشرا قويا على بداية استعادة الفعل الثقافي لمبادرته، وحريته في تناول موضوعات جديدة، تبدو ظاهريا مختلفة، لكنها تظل، في العمق، متجانسة، توحدها الرغبة في مصالحة الإنسان المغربي مع نفسه ومجتمعه. سواء عن طريق تعرية مظاهر الخلل في علاقاتنا العامة والخاصة، (امرأة النسيان/ خميل المضاجع/ شجر الخلاطة/ الأناقة/ أريانة/ وغيلة)، أو من خلال محاولة إنقاذ بعض اللحظات المشرقة في ذاكرتنا، الجماعية و(أو) الفردية، المهددة زمنيا بالنسيان (مثل صيف لن يتكرر/ والقاهرة تبوح بأسرارها)، ومكانيا بالتدمير(غيلة/ فاس لو عادت إليه/ خفق أجنحة/ وزهرة الآس). بالإضافة طبعا للكتابة الروائية السجنية، في ولادتها الثانية، مع أعمال عبد القادر الشاوي(*). الهادفة، بحكم طبيعتها ومراميها، لخلق أجواء صحية جديدة.
4. إقامة علاقة تشاركية مع القارىء: السمة الرابعة والأخيرة المميزة للكتابة الروائية المغربية الحديثة، مقارنة بنظيراتها السابقة، تتمثل في علاقتها التشاركية الجديدة مع القارئ، باعتباره طرفا أساسيا فاعلا في العملية الإبداعية، عكس ما كان عليه الحال في المرحلة الأولى، حيث كان دوره يقتصر، في أحسن الأحوال، على استيعاب رسالة الكاتب وتمثلها. مما اعتبر استهتارا بالكتابة والقراءة، على حد سواء.
و بالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن المراهنة الزائدة على مشاركة القارئ الإيجابية في العملية الإبداعية، غالبا ما أفضت، في ظل الشروط السوسيو ثقافية السلبية المعروفة، لنتائج سلبية، تمثلت أساسا في تفاقم أزمة القراءة، واستفحالها لتشمل الفئات المثقفة أيضا، بعدما كانت في السابق محصورة في الأميين فقط. مما يستوجب التفكير في إيجاد آلية (آليات) تعبيرية جديدة، من شأنها إعادة مد الجسور شبه المقطوعة بين الروائيين والقراء، دون التفريط طبعا في رهانات التحديث. كي لا تتحول روايتنا لخطاب نخبوي يتداوله المتخصصون وحدهم.
ومع ذلك، فلابد من الاعتراف بأن الرواية المغربية شهدت في هذه المرحلة الأخيرة تحولات كمية وكيفية هامة، تمثلت في ارتفاع رقم إصداراتها السنوية، وما رافقه من تلوينات فنية كبيرة، أضفت على مشهدنا الروائي العربي ثراء لافتا يتجاوز حداثة سنه بكثير، مما يبشر بمستقبل واعد في هذا المجال.
كلية الآداب/ مكناس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ */ نقصد به سنة (1957)، تاريخ صدور: في الطفولة، لعبد المجيد بنجلون. */ أحمد المديني: زمن بين الولادة والحلم (رواية)، دار النشر المغربية، 1976. 1/ أنظر: أحمد المديني: في الأدب المغربي المعاصر. سلسلة دراسات تحليلية، دار النشر المغربية، 1985، ص: 42. 2/ أنظر: أحمد اليبوري: (تكون الخطاب الروائي)، مجلة آفاق، عدد: 3/4، سنة: 1984، ص: 14. ـ عبد القادر الشاوي: (الزاوية، الحكاية والكتابة). ضمن كتاب: الرواية المغربية بين السيرة الذاتية واستيحاء الواقع. دار النشر المغربية.1985، ص: 12. 3/ أنظر: محمد عزام: وعي العالم الروائي. دراسات في الرواية المغربية. منشورات اتحاد الكتاب العرب. 1990، ص: 78. 4/ أحمد المديني: مرجع مذكور، 1985، ص: 40. 5/ محمد برادة: (الأسس النظرية للرواية المغربية المكتوبة بالعربية). ضمن كتاب: الرواية المغربية. لعبد الكبير الخطيبي، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط. 1971. ص: 147/148. */ يقول محمد عزام معلقا على هذه الخاصية،في كتاب مذكور(1990)، الصفحة: 22: (الواقع أن معظم الروايات المغربية، وعلى الخصوص روايات البدايات، هي روايات سير ذاتية بشكل أو بآخر، حيث غالبا ما ينهل كاتبها من تجربته، محاولا الاستفادة من ماضيه كما هو، أو محورا بصياغة فنية، تختلف من كاتب لآخر). 6/ محمد برادة: مقالة مذكورة، الصفحة: 141. 7/ أنظر: عبد الله العروي: الإيديولوجية العربية المعاصرة. ترجمة: محمد العيتاني. دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى، 1970، ص: 155. 8/ محمد برادة: مقالته المذكورة، ص: 141/142. 9/ محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 32. 10/ سعيد علوش: دراسة بعنوان: (الواقع والمتخيل والمحتمل). ضمن كتاب: الرواية العربية واقع وآفاق. دار ابن رشد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1981، ص: 203. 11/ محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 222. 12/ محمد عزيز الحبابي: مقالة بعنوان: ( الرواية وصراع الأجيال)، منشورة بمجلة آفاق، عدد:3/4، سنة:1984، ص: 123 13/ محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 13. 14/ إدريس الناقوري: المصطلح المشترك. دار النشر المغربية، 1977، ص: 30. 15/ محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 77. 16/ عبد الله العروي: مرجع مذكور، 1970، ص: 268. 17/ أحمد المديني: دراسة بعنوان: (الخطاب الروائي العربي، الخطاب المستحيل). منشورة بمجلة الطريق، عدد:3/4، سنة:1981، ص: 73. */ أنظر: عبد الكريم غلاب: (الرواية حياة متكاملة). مجلة آفاق، عدد:3/4، سنة: 1984، ص: 106. 18/ عبد الله العروي: في حوار: (التحديث والديموقراطية)، مجلة آفاق المغربية، عدد: 3/4، سنة: 1992، الصفحة: 160/161. */ يقول رومان ياكبسون في هذا الصدد: (إن موضوع علم الأدب، ليس هو الأدب، وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا). ـ أنظر: الشكلانيون الروس: نظرية المنهج الشكلي. ترجمة: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى، 1982، ص: 35. */ نذكر منها على الخصوص علاقتنا التاريخية الملغزة بالمشرق، وما تضمره من صراع خفي حول الريادة الثقافية العربية، يشكل قوة دفع معنوية حقيقية خفية لمضاعفة الجهود المبذولة على مختلف المستويات، خصوصا بعدما استنفذ المشرق/ المركز، أو كاد، كل جهوده في المراحل التاريخية السابقة، وأصبح مطمئنا لما حققه من تقدم، مما يعطي الهامش العربي، ممثلا في المغرب، وغيره من الدول الأخرى، فرصة تاريخية لتحقيق طموحاته القومية المشروعة. يقول الأستاذ عبد الله العروي في نفس الحوار السابق، المنشور بمجلة آفاق المغربية، عدد: ¾، سنة: 1992، الصفة: 167: (أتأمل ما حصل في مصر، وكيف تراجعت فيها الحركة الثقافية إلى ما نرى اليوم، وأفتكر أحيانا أن السبب قد يكون التمادي في الطمأنينة عند المصريين، كما لو كانوا يقولون: نحن هنا منذ خمسة آلاف سنة، فلن يلحقنا ضرر، هذا الاطمئنان في نظري خدعة، وأية خدعة، إلا أن الأمر يختلف فيما يتعلق بالمغرب، سأقول الآن قولة قد تغضب كثيرا من إخواننا خارج المغرب، وهي تعبر عن عقيدة ركزتها في نفسي التربية الوطنية. أعتقد أنه يوجد مستوى في وعي المغاربة تتجمع فيه بواعث المطالبة بالمزيد من الإنجاز، أشعر شعورا غامضا وعميقا أن المغربي لا زالت له مطالب يقدمها إلى التاريخ. فهو ينتظر المزيد، ويريد المزيد، ويطالب بالمزيد. فهو غير راض على ما حقق في القرون الماضية، لا يقول مثل المصري: قد وصلت من الإنجاز إلى حد لا يمكن أن أتصور تجاوزه والتفوق عليه. وهذا الفرق في النفسانية واضح لكل من عاش في البلدين. المغربي، بعكس ذلك، يعتقد أنه قد ينجز أكثر مما أنجز في الماضي، ربما لأنه لم يشارك بالقدر الكافي في العملية السياسية، فالعطاء المغربي، المساهمة المغربية، الإبداع المغربي، كل ذلك في سجل المستقبل، لا في لوح الماضي. هذه قناعتي، أحكم على كثير من الأمور عندنا بالتفاهة وبالتقليد وبالمجانية وبالتقادم، ولكني أنتهي دائما بالدعوة إلى العمل والإنجاز، إلى الانفتاح على المستقبل، انطلاقا من ذلك الشعور الغامض بأن الوعد لم يتحقق كله بعد). */ أنظر: محمد عزام: مرجع مذكور، 1990، ص: 228/229. 19/ عبد الله العروي: حوار بعنوان: (عبد الله العروي: الأفق الروائي)، منشور بمجلة الكرمل، عدد:11، سنة: 1984، الصفحة: 176/177. */ يقول الحبيب الدائم ربي في مقالة بعنوان: (الكتابة ـ التناص وأفق التخييل في (امرأة النسيان)، منشورة بمجلة الآداب البيروتية، العدد: 5/6، سنة: 2003، الصفحة: 93: (إن التخييل ليس بالضرورة فعلا متساميا على الواقع ومفارقا له، وإنما هو جزء من مكوناته، إنه واقع تشيده الكتابة بواسطة اللغة، لربما صار الواقع المشيد عبر اللغة أشد رسوخا من بعض العناصر المادية). 20/ عبد الله العروي: (الأفق الروائي)، حوار منشور بمجلة الكرمل، العدد: 11، سنة: 1984، الصفحة: 177. */ يشار هنا بالمناسبة إلى أن الكتابة السجنية بالمغرب عرفت ولادتها الأولى مع عبد الكريم غلاب في: سبعة أبواب، منشورات دار المعارف المصرية، 1965. قبل أن تعود ثانية للمشهد الروائي المغربي، بعد عقدين من الزمن، وبالضبط سنة 1986، تاريخ صدور (كان وأخواتها) لعبد القادر الشاوي، مع فارق كبير في نوعية السجان وحيثيات الاعتقال طبعا.