حوار مع بدر الديب
بدر الديب أحد الذين شكلوا طليعة أدبية في مصر في الأربعينات، نشر كتابه الأول (حروف الحاء) بعد مرور أربعين عاماً علي تأليفه، وقال محمود أمين العالم عن هذا الكتاب: «إن حرف الحاء يمثل قيمتين أساسيتين تعدان إضافة عميقة أصيلة إلي أدبنا العربي المعاصر كله، أما أولى هاتين القيمتين، فتتمثل في تجاوزه وتخطيه للنهج البلاغي السردي القديم، أما القيمة الثانية فهي هذا الغني الوجداني والعرفاني والمعرفي الذي تحتشد وتذخر به الخبرة الحية الحارة لمقطوعات حرف الحاء». وصدر لبدر الديب في العامين الماضيين كتب عدة: (السين والطلسم)، و(تلال من غروب)، و(المستحيل والقيمة)، و(أقسام وعزائم)، و(إعادة حكاية حاسب كريم الدين).
هنا حوار معه تحدث فيه عن تجربته في الأربعينات وما بعدها:
* ما الأسباب التي أدت إلي تأخير ظهور كتاب (حرف الحاء) أربعين عاماً؟
ـ أعتقد أن السبب الرئيسي هو عدم وجود سبل للنشر متاحة، وهذا مازال قائماً إلي الآن، لست حريصاً علي النشر، إلا إذا كان المحبون لما أكتب هم الذين تحمسوا ودفعوا بالكتاب إلي المطبعة، في الأربعينات كان النشر يتطلب أنواعاً من السلوك الاجتماعي والاقتصادي كنت أرفضها، مثل التعرف علي من لهم السيطرة علي وسائل النشر، أو الاندماج في مدرسة أو مجموعة فكرية معينة، أو مجاملة الآخر حتى يجاملك بالمثل، هذا كله ابتعدت عنه ومازلت. عدم نشر (حرف الحاء) كان مرتبطاً بضرورات أخري غير فنية، لكنه هو في حد ذاته كان مكتملاً، وكنت أعتقدـ وهذا سبب لي قدراً كبيراً من الألم ـ أن ما يبدي لي من فهم كان غير كامل. كان هناك قدر كبير من التعجل في تلقي هذا الكتاب، في روايتي الأخيرة (أجازة تفرع) كتب الفنان بطل الرواية مشاعره تجاه نقاده وجمهوره، فهم في أحيان يقولون كلمات عظيمة، بل يستخدمون كلمات الفنان من دون أن يفهموا، أو يتظاهروا بالفهم حتى لا يغضب.
*عم ينتج عدم الفهم هذا؟
ـ ناتج عن عدم الاشتراك في الألف باء، حينما أتكلم لغة لا تعرفها، كيف تفهم حرف الحاء، كيف تفهم بأن له مصادر لم تقرأها، وأهدافاً لم تفهم.
في نص «كان وكأن» كان الحلم كبيراً جداً لتكوين نظرية جمالية ضخمة عن تاريخ الفن والتاريخ الواقع، والتي تستحيل فيها كل كان إلي كأن، وكل كأن إلى كان، بمعني أن يصبح التشبيه جزاءاً من الواقع المطروح، والواقع يطرح تشبيهه بالضرورة. قضية كبيرة، الذي تحقق منها قليل، بعد أن انتهيت من كتابتها كنت أتمني أن يشاركني أحد، ولو وجدت هذا لكنت وهبتها حياتي، وفي الكتاب نصوص أخري تطرح قضايا مشابهة، صحيح أنها كانت تخطيطات أوسع جداً مما تحقق، لكن لا يوجد فن يحقق كل ما تريد تحقيقه، ولولا ذلك لما كتب فن، أننا نعيد ما طرح، ولا أعتقد أن هناك شيئاً حديثاً، وكلمة حداثة تعني العجز.
* ما مفهوم الحديث لديك؟
ـ الحديث استخراج ما كان قائماً، وإدراكك لقيمته وحقيقته، فالكتابة إعادة صياغة لما هو قائم، لذالك نراه جديداً لأنه أصبح مستقلا عما يربطه بالواقع من وشائج تخفيه وتجعلك لا تدركه.
* ألا تصبح مشكلة عدم الفهم غربية مع وجود تيارات طليعية في الفنون المختلفة في الأربعينات؟
ـ لم أنضم إلي الحركة السوريالية في ذلك الوقت، وكنت غير راض عن المضمون السياسي لها، ورأيت أنهم يستخدمون الفن ولا يصنعونه.
* ما الذي تقصده باستخدام الفن وصناعته؟
ـ قد يستخدم الفن لدعوة سياسية أو لإثارة الجماهير،أما صناعته ففي المحافظةعلي استقلاله ثم يأتي القارئ بعد ذلك ليفعل به ما يشاء، لذلك لا أفهم كيف يمكن للفن أن يعبّر عن الأمة. الفن أساساً يعبر إلي واقع خاص مستقل، وعندما تري الأمة أنه يعبر عنهاتتبناه، لكن إذا أراد الفنان أن يعبر عن الأمة، فالأفضل له أن يكون زعيماً أو خطيباً، أو يعيد تنظيم المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. أعرف أن ما أقوله مستحيل ولا نستطيع أن نصل إلي استقلالية كاملة للعمل الفني عن الواقع. وأعرف أن مزالق الفن ومطامع الفنان وعيوبه السيكولوجية تظهر، لكن ليس معني هذا أن لا نسعى إليه وندركه، أن لا يكون طريقنا هو صناعة الفن، العمل الفني غير المستحيل ليس عملا فنياً، وبقدر ما يبعد الفن عن المستحيل بقدر ما يبعد عن الفن، كثيراً ما أقرأ أعمالاً فنية ثم أهملها، لأن إدراكي لما فيها يكون مكشوفاً وبسيطاً، بحيث لا تصبح ضرورة فنية بل ضرورات استخدام يقصد بهاشيءآخر ولا يقصد بها إقامة العمل الفني المتكامل المستقل الذي يدافع عن كينونته.
* ما الذي تعنيه بالضرورات الفنية؟
ـ كل عمل فني يتكون من عناصر فكيف تربط بينها؟ ترتبط بضرورة الفعل والاسم، والعرف لانتظامها بصيغة معينة في جملة من الجمل، وإذا لم يكن الكاتب الذي تدرسه واعٍ بهذا فهو يخرف أو مريض يجب بعثه إلي محلل نفساني، لا أعرف المجاملة في النقد، ولم أكتب نقداً إلا لشيء أحببته حباً مفرطاً، لا أعتقد بكتابة نقد لإصلاح الكتاب والقراء والنقاد، هذا عمل يتم في المدرسة أو الجامعة، فالنقد هو التوقف أمام إدراك استقلال واكتمال العمل الفني وغير ذلك كلام ليس له معني وتفريعات، ولا يدخل في مفهومي أن يتحدث ناقد من خلال العمل الفني عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أو تاريخ اللغة، هذه علوم يستفاد بها في النقد، ولكنها ليست موضوعه، قضية النقد الأولي هي استقلالية وكينونة هذا العمل الفني واكتماله وضروراته الداخلية، إذا استطعت أن تكشف ضروراته الداخلية فأنت ناقد.
* أشرت في البداية إلي مصادر لكتاب "حرف الحاء" ما هي؟
ـ كتابات المتصوفة، علي الرغم أنني لم أعرف النفري إلا من ثلاث أو أربع سنوات، ما عدا ذلك كنت حسن المعرفة بالمتصوفة وبخاصة الرسالة القشيرية، وأري أنها أعظم كتب الأدب العربي، وما تجده من اهتمام عندي بالحروف إنما بتأثير من ابن عربي، هنالك أيضاً الخبث الفني والصناعة الفنية العبقرية لمقامات الحريري، ولها تحية خاصة في كتاب "حرف الحاء"، والإنجيل والتوراة اللذان ظلا معي حتى الآن، و "حرف الحاء" ملئ بإشارات إنجيلية لم تفهم بعد، وجزء آخر من المصادر هو مجموعة الشعراء الرمزيين الفرنسيين الذين بدأوا قبل مالارميه وفاليري ومنهم رامبو وبودلير وشخصية مجهولة باستمرار هي لوتريامون الذي أعطاني الشجاعة لأكتب، والجزء الآخر من المصادر هي الفلسفة، هذه هي المصادر الحقيقية لـ "حرف الحاء" لذلك أقول أن ما فيه من حداثة إعادة قراءة للأصول، هي محاولة لعصرنه التراث.
* ماذا تعني بعنصرية التراث؟
ـ ضبط ضرورات الواقع الذي نشأ فيه التراث واكتشافها. لماذا كان امرؤ القيس يقول هذا الكلام؟ لابد أن نجيب عن هذا السؤال وإلا لما فهمنا، فمعاصرة التراث تعني الإلمام بكل تفاصيل الواقع الذي انعكس أو الذي استخدم فيه بما في ذلك المنظر الخارجي الذي تراه العين، والمنظر اللمسي الذي تلمسه اليد، ونوع القيم المستخدمة في الشعر، صحيح أن هناك دراسات تحاول هذا لكنها سطحية لا تعطينا الصورة الصحيحة، هذا لا ينطبق فقط علي الشعر الجاهلي بل علي كل التراث، من مثلاً يعرف كيف يقرأ كتاب تاريخ بغداد للبغدادي؟ أنا قرأت هذا الكتاب علي الأقل أربع مرات، وأعتقد أنه من أعظم الكتب، وكان عندي حلم أن اكتب رواية أسمها "سقف بغداد".
من يحاول أن يقرأ تاريخ بغداد سيجد نفسه تائهاً منفصلاً عنه لأنه لم يعاصره ولا توجد له فهارس منضبطة أو شروح أو معاجم ومصادره غير معروفة، نحن نتهم المستشرقين في حين أنهم حاولوا أن يعاصروا تراثناوظللنا نحن نقول هذا تراثنا ملكنا ولم نفعل شيئاً، ونصل إلي الحماقة عندما نردد كلاماً مثل الأصالة والمعاصرة، هل يمكن لإنسان ألا يعاصر واقعه؟ مهما تنكر الإنسان للواقع ورفضه فهو يعاصره وهو جزء من معاصرته، نستخدم الأصالة والمعاصرةبمفهوم ساذج، إذا كان والدي لصاً ألا يظل والدي؟ أيهما أفضل؟ أن أعرف أنه هكذا أم أن أخفي هذا الجزء من التاريخ؟ إن هذا مرتبط بما يسمي تهذيب التراث، تجب دراسة التراث كما هو بكل ما فيه لأن هذه هي أصالته وعليك أن تعاصره.
* علي رغم تجديدك في الشكل لا زلت تذكر في كتاب "تلال من غروب" هذا القول "الكأس بما نضع فيها وليس بشكلها أو مادتها" ألا تري أنك تجعل هنا الشكل مجرد تابع للمضمون؟
ـ لم أعتبر نفسي متمرداً أو ثائراً في أي لحظة من اللحظات، أنا أعتبر نفسي خاضعاً وراضخاً كالفنان في روايتي الأخيرة الذي يقول: "يجب أن يتهم نفسه أنه يحسب نفسه دائماً فريداً، ولكن ليس التفرد ميزة بل هو ما يعانيه، وهو يعلم أن أحداً ليس مثله، ولكن الحقيقي أن عمله في جزئياته لا مثيل له...".
ما أريد قوله أنني أثناء كتابتي "حرف الحاء" لم أكن أعتقد أنني أثور، لكنني أحسست أنني أحمل رسالة، لا أرفض شعراً قديماً جيداً، ولكن أعتقد أن المعاني والتجربة الإنسانية المعاصرة ضاق عنها العروض.
* هل ينطبق هذا علي العروض فقط؟
ـ لا......كل الأشكال الفنية التقليدية بمعني أن ظل أحكي حكاية، مثلما يفعل نجيب محفوظ، أنا لا أعتبر هذا ألان فناً، وقد قلت هذا لنجيب عندما كنت ألقاه في ندوته في كازينو الأوبرا، لا شك أنني أعرف عظمة نجيب محفوظ وأقدرها. لكنني أعتقد أن في أعماله الكثير مما هو منفصل عن الفن، وسأطرح سؤالاً: ما الفرق بين السيناريوهات التي كتبها محسن زايد لأعمال نجيب وبين رواياته؟ وأيهما أكثر تأثيراً؟ لا شك أن محسن زايد أكثر تأثيراً، لأنه التصق بالجماهير مباشرة وعرف كيف يقدم التشويق وحذف كل الزوائد من رواياته والذي بقي في تلك الأفلام هو ما بقي من نجيب محفوظ، أن الجملة التي ذكرتها في سؤالك أقصد فيها البعد عن استخدام التشكيل الثابت الجاهز.
* هذا يذكرني بما كتبته في كتاب "تلال من غروب" "ارفعوا الأيدي عن الكلمة وارفعوا العروض عن النغمة واقبلوا القول بلا قافية".
ـ بالضبط، وسأضرب مثلاً علي أهمية هذا الكلام بأبي العلاء المعري في قصيدته "غير مجد في ملتي واعتقادي" أن ما أراده أبو العلاء أضخم وأكبر من هذا ولكن العروض قتله، الثابت الجامد في "نوح باك ولا ترنم شادي" قتل التجربة الشخصية فإذا كان يحدث لأبي العلاء فما بالك الآن؟
* وهل حقق الشعر الحديث كل ما تطمح إليه؟
ـ أعتقد أن المقدمة التي كتبتها لديوان "الناس في بلادي" لصلاح عبد الصبور تستحق القراءة أكثر من مره. تنبأت فيها بأنه سيصبح شاعراً كبيراً، وأوضحت الأسباب التي دعته إلي الكتابة في هذا الشكل والأصول الأساسية لها، ودعوته إلي إعادة قراءة الشعر الجاهلي والأموي... الخ كان من الضروري أن يحدث هذا الكسر في العروض، لكن ما أراه أن شعر التفعيلة لم يحقق ما كان يرجي منه، لأنه لم يعبر عبوراً حقيقياً إلي المسرح وان ما سمي بالمسرح الشعري ما هو إلا قصائد وليس مسرحاً.
* من إحدى سمات كتابتك أنك تجسد الأفكار المجردة في مشاهد يومية ولحظات عادية، إلي حد ينوء النص بتلك الأفكار؟
ـ هذا نقد جيد، وأظن أنه من العيوب الأساسية في عملي، وليس تكبراً، أو غروراً، أعتقد بالفعل أنني أحمل الأشياء الخارجية أكثر مما تتحمل، لكن هذا ما أريده وما ذكرته موجود منذ "حرف الحاء" حتى روايتي الأخيرة، فالواقع ينبض بدلالة وبقيمة أكبر بمراحل، مما تراه العين العادية.
"نشر هذا الحوار في جريدة الحياة عام1992"