أرواح تصرخ في (حديث شخصي)
في أواسط السبعينيات،وعندما كان الراحل الكبير الشاعر صلاح عبد الصبور رئيس تحرير مجلة الكاتب، قابلني صديقي الفنان الشاب صلاح عناني، وكان متهللا، ولم أفهم سبب تهلله إلا عندما ابلغني بأنه سيرسم قصة "رشدى حمامو" لبدر الديب، وكان فرح عناني يتسم بطفولة عارمة وطازجة، وشعرت من خلال هذا الفرح أن "رشدى حمامو" وبدر الديب يشكلان قيمة كبيرة، حيث ان عنوان القصة ـ في حد ذاته ـ مثير وغريب تماما.. إذ ما معنى "رشدي حمامو"... وفكرت طويلا في العنوان قبل ان تنشر القصة، وعندما نشرت القصة في مجلة الكاتب تلتها قصة "مقابلة صحفية" ثم تم نشر هاتين القصتين مع قصتين مع قصتين تاليتين هما "ترتيب الغرف" و "أوراق زمردة أيوب" في كتاب واحد عام 1981، أيقنت أن "بدر الديب" جوهرة مجهولة في القص المصري والعربي، وكما يقول شكري عياد: (اذا جهله الكثيرون فليس هذا ذنبه، بل ذنب حياتنا الثقافية التي تسلمها المهرجون).. ويستطرد (بدر الديب لم يكف عن الكتابة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وإذ لم ينشر من كتاباته إلا اقلها كما وشأنا).... وبالفعل بدر الديب لم يكف عن الكتابة ولكنه لم يكن متكالبا على النشر، وعندما دفع بكتابه هذا "حديث شخصي" الى الهيئة المصرية العامة للكتاب، ظل الكتاب في أقبية الهيئة لمدة أربع سنوات، وهذا كفيل بأن يدفع أي كاتب مبدع بالابتعاد عن مثل هذه المؤسسات، فما بالنا وهذا الكاتب هو بدر الديب الذي يعتز بنفسه وبقلمه أيما اعتزاز، ويكفي بأن هناك كتابات ظهرت منشورة بعد كتابتها بعقود مثل "حرف الحاء" و"السين والطلسم"، وبعض الأشعار التي نشرها على نفقته الخاصة.. وما يخصنا هنا هو "حديث شخصي".. التي تنطوي على أربع قصص كما أسلفنا وهى "رشدي حمامو" و "ترتيب الغرف" و "مقابلة صحفية" و" أوراق زمردة أيوب" ورغم أن الأخيرة نشرها فيما بعد كعمل مستقل، إلا أنها لا تفقد الخيط المتصل بينها وبين القصص الثلاثة الأخرى، ويكتب بدر الديب في مقدمة "زمردة أيوب" التي نشت مستقلة عن دار شرقيات عام 1994: (معظم من قرأوا الرواية في طبعتها الأولى ضمن كتاب "حديث شخصي" الذى أصدرته هيئة الكتاب، قد عبروا عن إحساسهم بأن "أوراق زمردة أيوب" قد ظلمت لأنها لم تنشر مستقلة، وعلى الرغم من أنى مازلت أدرك معنى قراري الأول من نشرها كجزء من رباعية "حديث شخص" التي ضمت أوراق لثلاث شخصيات أخرى، إلا أنني مع إصرار عدد من الأصدقاء الدين عبروا عن حرصهم على نشرها)... وأود أن أطرح سؤالا وسطيا فحواه بأن كل نص من النصوص الأربعة، يشتبك مع الأخر، ويتقاطع معه في عناصر شبه مشتركة وفي ذات الوقت هناك ما يعطى كل نص استقلاله، وخصوصيته ـ أيضا ـ عن الآخر، ويكاد النص الأخير "أوراق زمردة أيوب" أن يستأثر بتمام هذه الخصوصية، من حيث كثافة العالم، وغرائبيته، وشدة هيمنة الشعور بالذنب عند الشخصية الرئيسية والأولى (زمردة أيوب)، بالإضافة إلى كثرة أشكال الحياة الطقوسية المتشعبة والمنبثة في كافة جسد النص، وأنا اعني تعبير "جسد النص" بحذافيره، حيث انه ينطوي كل عنصر فيه على وظيفة تكاد أن تكون تقليدية، ولكن عند اجتماع هذه العناصر تجعل من النص جسدا متماسكا ورشيقا، لا يسمح لنفسه بالتداعي الحر، رغم التشريق والتغريب في شتى الأمور، ورغم العديد من القضايا المطروحة في النص، إلا انه يحتفظ بهذا الألق الذي يضئ بعضه بعضا... ويشد بعضه بعضا... بداية فالنصوص الأربعة تأتي على هيئة نوع من البوح الشخصي.. فدوما هناك شخص رئيسي يحكي، ويتذكر، ويحلم، ويأمل، ودوما هناك أزمة أو سر يتضح رويدا رويدا عبر تتالي الصفحات، ويظهر هذا السر/ الأزمة متخفيا في عبارات حادة او ناعمة، وعبر هذه الأزمة أو هذا السر تنكشف مساحة هائلة من الدوائر الأخرى، وما هذه الأزمة إلا مناسبة لطرح أزمات أخرى صغيرة أو كبيرة تتضافر لتشكل عماد النص، وكينونته، وماهيته.... في "رشدي حمامو" هذا النص الذي يتصدر المجموعة تبدو الأزمة ـ بداية ـ في مجرد الاسم كما يصرح الشخص في مستهل القصة، (كان اسمي الذي التصق بي طول حياتي، هو "رشدي حمامو"، وليس من شك أن قول التصق بي قد يثير حديثا او كلاما، أو على الأقل تفكيرا، لكن هل يثير حقا؟...) ويسترسل السارد ـ هكذا ـ في طرح مشكلة الاسم، ويقلبه على عدة وجوه، ويمحص فكرة التصاق الاسم بالشخص، للدرجة التى يصبح فيها الاسم ـ عموما ـ مشكلة حقيقية تستدعي تأليف قصة حوله، وعلى كل يقرر السارد المضي في هذا التداعي الواعي، الذي لا يترك القصة ان تسترسل دون ضبط، ويخرج من قصة الاسم وتداعياته، ليعود مرة أخرى فيطرحها على وجوه عدة فيقول: (إن التفكير في أن ابدأ بالحديث عن الاسم في هذه القصة هو نتيجة للخلفية الرياضية التى تلقنتها وتعلمت من خلالها)، ويستطرد السارد في ربط علاقة بين الاسم ـ أي اسم ـ والرياضة، ويوضح: (وأنا أرجو ألا يتصور أحدا أنني أتخفى وراء الرياضة لتقرير معنى أدبى)... إذا ماذا يريد الكاتب من وراء ذلك، هل يريد أن يخلق قصة تشويق تشد القارئ؟؟ ورغم أنه ينجح في ذلك... إلا أنه ينفيه ويقرر: (ببساطة أردت أن اكتب هذه القصة لحياتي أو لاسمي لأنني وجدت أنها مفيدة لي).. وينطلق من خلال هذه المقدمة الرياضية أو التشويقية، لتأمل بعض ما مضى من حياته، ويصف او يرصد بعض السمات التي وجدها في نفسه عبر تأمله لذاته الوظيفية، هذه الذات التي غرقت في أعمال روتينية، وينفي عن نفسه عدة أشياء مثل انه لا يصنع السياسة، ولا يريد آن يتورط فيها، وسنلاحظ أن بدر الديب يطرح تلك الفرضية على طول القص في الأحاديث الأربعة، ورغم انه ينفى هذه الصناعة، إلا انه يقتحمها من زوايا مختلفة، مثل(لقد كثر هذه الأيام الأحاديث عن ساسة الانفتاح، وعن دلالتها السياسية والاجتماعية)... و تنتقل القصة من كل هذه الطروحات ليتأمل السارد حياته مع زوجته، ويرصد بعض محطاته معها: (لقد تزوجت بعد حصولي على الدكتوراه مباشرة وأهم من كل تفاصيل الزواج، ان زوجتي الطبيبة وصاحبة العيادة المشهورة للأطفال في سليمان باشا، قد تركتني وتركت مصر لتعمل بالتدريس والطب).. وهنا ينفتح قوس آخر يسترسل فيه الكاتب ليدخل بنا إلى حياته الزوجية، لا ليأخذنا إلى قصة تعليمية أو إرشادية، كما يكتب، شكري عياد في تذييله النقدي، بل ليمزج بين التأملي والكوني مع السردي الجزئي، هنا نشخص حياة الراوي كاملة، وتظهر نتوءات الحياة كلها، رغم انه بدأ سردها من مجرد اسمه الغريب والشاذ؟ ليلقي بنا في دوامة كونية محكمة البناء وشيقة، لينهي قصته بـ:(عندما انضمت زوجتي بجسدها وبذكرياتها إلى مفازات الجليد، وأصبحت وحدي تماما اشتعل فجأة هذا النور الغريب الذي دفعني إلى كل هذه الكتابة والوقفة أمام الاسم، وما أوسع الصمت وأطول التساؤل أمام الاسم الثابت المكون من عنصرين، وقد أصبح في المفازة نورا ونقطة بداية لا يتجاوزها حتى الفن)... ولم يكن القارئ يتوقع أن تنتهي القصة هكذا، وهذا الربط الفيزيائي بين الاسم وكل هذه التأملات والسرود والحكايات ليثبت لنا أن كل شيء صالح لكي يكون منطلقا للكتابة السردية.. و تتسع هذه الرؤية الفنية في القصة التالية، أو حديث الشخص الثاني، فها هي امرأة تحكي، أو تهذي وربما تعرف، وهنا يختلط الوعي واللاوعي، والسردي الذي يعني بالتفاصيل، والتأملي الذي يهتم بالأبعاد والكونية للحياة، وفورا تدخلنا الراوية إلى عالمها سريعا، ودون أي تمهيدات وصفية فتقول: (لم لكن أتصور أن حياتي.. أقصد نفسي، ستتغير كل هذا التغيير بعد أن قتلته، ليس هناك حقا حياة بعد ذلك، لكن هناك تلك اللحظات والأيام قبل الإعدام الذي انتظره).. هكذا يجد المرء نفسه أمام الشخصية والحدث، وموضوع الحدث مرة واحدة، ورغم أن التفاصيل والتأملات كلها تبنى على الفرضية الأولى، أو مقدمة القصة، إلا أن الأحداث لا تخلو من المفاجآت المذهلة، والتي تحمل قصصا وحكايات تبدو ـ في مظهرها ـ مسلية، لكننا نكتشف من خلالها أن الحياة كم هي معقدة، وكم هي شائكة، وغير سوية... ودوما ليست على ما يرام، رغم الأوهام التي تمنحها دوما لنا على منعطفات كثيرة، زان لم تمنحنا هذه الأوهام لاخترعناها نحن، وزيناها، ووضعناها هدفا لنا طوال الطريق، حتى تتوالى الانكسارات، ولا نقتنع في البداية، إلا أن تحكم هذه الانكسارات قبضتها وتفتك بالمرء تماما... هذا مات حدث مع سميحة عبد العظيم، نزيلة الزنزانة رقم 333 والمتهمة بقتل زوجها، وحادث القتل جاء عبر أحداث أخرى كثيرة، ومقدمات متعددة، بعضها عفوي وطبيعي، وبعضها الآخر شبه متعمد، فسميحة عبد العظيم كانت تعمل عند خالتها في محل تطريز، وكانت تبتلع كثيرا من الإهانات، وعمليات سلب عرضها وجهدها، ورغم أنها تبذل مجهودات فنية كبيرة، إلا أن الخالة تمارس عليها كافة انواع القهر، وتفكر سميحة بعد تعديلات في الخطط ان تستقل بنفسها، فدبرت شقة في باب اللوق، واستقلت بنفسها هي وأمها، بعد أن أرشدت الزبائن الى مكانها الجديد، وهنا يظهر الأخ بقوة وبدر الديب لا يعطي الأحداث دفعة واحدة ولكنه يأتي بالحدث والشخصية في الأوقات المناسبة، والتي تليق بالمستويات الدرامية التي تتقلب فيها القصة، فحين تذهب وتنشط في شقة باب اللوق، يتلمظ الأخ، ويبدأ في إطلاق مواهبه المحرمة، فيسلب أقمشة عبر طرق غير شرعية، وفي يوم يصطحب صديقا له، وتقع سميحة في قصة حب مع هذا الصديق، ويتزوجها، ويعيد هذا الزوج قصة السيطرة عليها، ومحاولة الاستيلاء على مقدرات العمل، ويسلبها سلطتها، لمجرد انه حل زوجا وحبيبا، وبعد أن يدخل الأخ السجن، ينفرد الزوج بسميحة وبأمها، ويقع الخلاف، وتبدأ في إعداد خطة لتدميره، وتدميره حتى ينتهي الأمر بها إلى الزنزانة رقم 333، التي تحاول فيها بقدر الإمكان إنهاء اعترافاتها، او مذكراتها، وتجد بين الحين والآخر حوارا يدور بينها وبين السجانة تحية، وخلال هذه الاعترافات تعرف عددا من أشكال السرد أو الحكي أو البوح، هناك شكل استرجاع الأحداث عندما تقول مثلا: (إنني مازلت اذكر تلك الليلة وقد سهرنا نأكل ونتحدث حتى الرابعة صباحا تقريبا، فانا لم أحب في تلك الليلة، ولكنني عرفت الكثير عنه، وعرفت فيه قدرات عجيبة تشع من عينيه ومن جسده كله)... ثم نعرف تقنية الأمل:(ما اغرب هذا الجسد، لقد تعودت طول حياتي ان أخاف وان أشفق على نفسي من الرغبة احتراسا من أن افقد. وهكذا تخرج الرواية من زمن ماضي بعيد الى زمن ماضي قريب، يكاد تقريبا ان يلخص الحياة كلها، ثم تفاجئنا الرواية بالحاضر الذي تعيش فيه، حتى نقتنع تماما بأن الحياة كلها مجرد زنازين متغيرة، فمن زنزانة شبرا التي تخضع فيها سميحة لابتزاز واستغلال الخالة، الى زنزانة باب اللوق التي تستسلم لطمع وجشع الأخ، ثم هيمنة وسيطرة واستنزاف الزوج، ثم هذه الزنزانة الحقيقية التي تأخذ أرقاما متشابهة وهو 333، وكأنه يشي بتشابه الزنازين، وان لم تأخذ هذا المسمى، حتى تفاجأ في النهاية أن سميحة تنتحر، ويبدأ التحقيق من جديد مع الشاويش تحية، ومع أوراق سميحة، لندرك ان الحياة دورات شبه متكررة، وشبه متشابكة، وشبه حلقات درامية يسلم بعضها بعضا... هناك ـ دوما ـ في الأحاديث الأربعة شعور يهيمن على الراوي، وهو شعور بذنب ما، تختلف أشكاله وأسبابه، لكنه ذنب، يظل يؤرق الراوي، على اختلافه بين حديث وآخر، ويظل يتصاعد من حديث لحديث، وتكاد مسألة الذنب ان تظهر كرائحة خفيفة في الحديث الأول، لكنها تبدأ تظهر بقوة نسبية مع الحديث الثاني، في إحساس سميحة به عندما قتلت زوجها، وفي دوائر ذنبية صغيرة تظهر بعقل الذنب الأكبر، اما في الحديث الثالث، فنجد نصر الشربيني يحاسب نفسه على أشياء ينظر لها الآخرون يشكل مألوف، للدرجة التي تدفعه لاستنكار اسمه يقول:(لست أدرى لماذا أسماني أبي "نصر" لم لعرف في حياتي نصرا كبيرا واحدا، ولم يرتبط ميلادي بأي نصر كبير).. وهكذا يظل الراوي يطرح الاسم على وجوه عدة، حتى يثبت ان الاسم ليس له علاقة بمعناه، وأن الدليل على ذلك هذه الحياة الفاشلة، انه يعمل صحفيا ويضطر نصر الشربيني أن يسرد لنا أو لنفسه حياته كاملة، ويستعيدها منذ ان ولد عام 1925اى بعد انتصار 1919 ورغم ذلك فنصر ينجب بنتا ويسميها انتصار!!، وهذا يعني الجري وراء محو لعنة الاسم، أو حقيقة المعنى الكامن في حياته، ويركز بدر الديب في كل هذه الأحاديث على فكرة ان الحياة كلها تنكشف تماما عند منعطف معين، أو عند أزمة ما، وتظل هذه الأزمة ضاغطة على الأحداث كلها... وفي هذه القصة، أو الاعترافات، أو الحديث الشخصي، نجد أن الأزمة هنا تكمن فى زواج انتصار بالدكتور، ورجل الأعمال الشهير والعالم كمال مجدي، أما الذنب فيتلخص في أن نصر الشربيني والد انتصار هو الذي كان واسطة العقد بينهم، ورغم انه لا يدرى كيف تسلسلت الأحداث هكذا، مع أن كل المؤشرات كانت تدل على ذلك، وفحوى الأزمة ان الدكتور كمال مجدي العالم الكبير وصاحب الأعمال الشهير يكبر انتصار بضعف عمرها، ويحدث الزواج، رغم انفه، وهو يفكر في المسارات الطبيعية من جهة، ولكن ابنته وزوجته واولاده يعتبرونها فرصة لا تعوض، وتظل التداعيات تتراكب حدثا بعد حدث، حتى تأتي الدعوة المعلنة بعقد القران له، وهو يظل يستعيد ويسترجع كل ما حدث، لا لاستعادته فحسب، بل لتأمله، ولوصفه في اي سياق مفهوم، ولكنه في النهاية بعد كل هذه المحاولات للفهم، لا يفهم... وتضغط أشكال التفكير على نصر... وتختتم الاعترافات بموته إذ تأتي جملة صارمة تقول:(في اليوم التالي نشرت جريدة... خبرا بصورة على عمود في الصفحة الأولى تنعي الصحفي الكبير نصر الشربيني اثر إصابته بسكتة قلبية في فندق بشاطئ جليم) تكاد تكون القصة عادية لولا أن الراوي أو الشاهد يدخل بنا في مسارب كثيرة، ليس عمودها الأساسي هو القصة الإطار، أو الذنب الذى يشعر به الراوي، ولكننا نشهد ونقرأ ما يلفت نظرنا بقوة، هو الصراع الذي يدور بين شخصين مختلفين، نصر الشربيني وكمال مجدي، عبر انتصار... والاسم هنا لا يعني الا هزيمة نصر الشربيني، الذي يعيش في أثواب الماضي، و لم يستطع أن يستوعب ما حدث، فكتب عليه وعلى أفكاره وعلى خريطته في الحياة بالموت. والمحو، والإزالة من الوجود تماما، انه صراع قوي، وصراع إرادات، وليس صراع أشخاص، ولكن تتشابك العناصر في نسيج قصصي ممتع... تتحول فكرة الذنب بكل أشكالها وثقلها في الحديث الرابع، وربما الأهم وهو "أوراق زمردة أيوب" وتتكثف رموزها، ويضطر الكاتب ان يستعين بالتراث القبطي، والكتاب المقدس، ويفرد ملحقا خاصا في الطبعة المستقلة، لشرح هذه الرموز، ويدلي برأيه في هذا الملحق فيكتب فى نهاية الرواية، وفي مقدمة الملحق: (حرصت على أن أضيف عددا من الهوامش على النص، فأنا ضد أعداد الهوامش لعمل فني ما، فان هذه الهوامش يعني تبيان مصادره ومراجعه امر بطول.. وكنت أود أن أضع هوامش مطولة على كثير من شخصيات الإنجيل التي جاء ذكرها في الأوراق.. والتي لعبت دورا هاما في تشكيل الشخصية وتحديد أبعادها).. وازعم أن بدر الديب لجأ لمسالة الهوامش، حتى تنفتح مغاليق النص المتعددة، ومساريه المسدودة، والتي لا يستطيع القارئ أن يضيئها إلا بفهم بعض علاماتها التاريخية الواردة في الكتاب المقدس، أو التراث القبطي، على المشار أن هذا التراث المكبل ومفيد بفكرة الذنب والاعتراف في أعلى صورهما، وأظن أن "أوراق زمردة أيوب" وحدها تحتاج إلى دراسة نقدية توازى صفحاتها صفحات الرواية ذاتها، وما هذه الأوراق إلا اعتراف مطول عن ذنب جسيم تدلي به "زمردة أيوب" ليس أمام محكمة القس المقدسة، بل أمام التاريخ كله، وأمام المجتمع، وأمام الله، وأمام نفسها، فلم يكن الذنب يقتصر على الخطيئة التي ارتكبتها زمردة مع كريم عبد القادر، بل يتعدى ذلك إلى قضايا أخرى، فالابن دانيال قد ضاع منها، وهذه خطيئة ثانية ترتبت على الخطيئة الأولى ورغم أنها تردد: (لقد عشت بعيدة عن مصر سنوات طويلة، ولكن مصر دائما كانت هناك) بالطبع نلمح هنا جملة البابا شنودة: (مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا).. والخطيئة هنا لم تكن خطيئة دينية بلأنها خطيئة وطنية، إنها ترك البلاد تحت ضغوط كثيرة للذهاب إلى أمريكا، "فالزن على الودان أقوى من السحر" وهي استجابت لهذا السحر فذهبت بابنها إلى أمريكا، والذى راح يتشرب مناخا آخر وثقافة أخرى، وتنبت فيه بذرة تعصب، وبعض مشاعر انفصالية، وعندما تعود الى مصر تبدأ السلطات في مطاردتها وتشديد الحصار عليها وفرض الحراسة، وفي هذه "الليلة السوداء" كما وصفتها تفيدة الشخصية الثانية في الرواية، ومساعدة زمردة، ووصيفتها، وهي التي تعينها على كل شيء في الحياة، يدخل كريم عبد القادر ضابط البوليس ويجري بعض إجراءات تفتيشية، وهنا تحدث بداية الأزمة، المأساة، والتي ستنتج عنها العلاقة الآثمة بين الطرفين، هذا الانجراف الكاسح نحوه سيولد خضوعا له يوما بعد يوم، إنها تكتشف نفسها من خلاله، ترتدي له أبهى الثياب، تعطيه كل مفاتيح حياتها الروحية والجسدية، وتشهد حياتها معه أزهى تجلياتها، هنا يتعانق الفعل المذنب مع البهجة المطلقة، نتيجة الحرمان المطلق إلى عانته مع الزوج الراحل، والزواج التعسفي، هذا الزواج الذي لم يفجر أى طاقة عندها، ان ذنوبها تترتب على سلوك وقسوة آخرين وذنوبها رغم ذلك لا تنمحي، ولا تجد لها مبررا، ويدور الحوار بينها وبين تفيدة وبين أشعار إميلي ديكنسون، ولكن لا جدوى، ويتغلغل الإحساس بالذنب مع توغل وتغول واستفحال المرض العضوي، هذا المرض الذي يولد طاقة عصبية تجعلها مرتبكة طوال الوقت على كل المستويات، ويجعلها تنتقل بين بيت الأسرة في الزيتون وبين بيت الزوجية في دميرة.... انها تعيش أشكالا من العذاب الذي لا يطاق ولا يحتمل، ولا من منقذ ولا من مغيث، حتى الاستغاثة بمسيرة دميانة، وبأقوالها لا تجدي،حتى تسلم الروح تحت سقوف واطئة تماما.... هنا يتعانق كل شيء لاستكمال المأساة التي تتصاعد، حتى تصل إلى ذروتها في أوراق زمردة أيوب ونكون قد امتلأنا بزخم روحي وإنشادي وتطهري تماما. وأن الشخصيات كلها تكاد أن تصرخ، حتى تتخلص الروح البريئة من هذه الأجساد المذنبة.
في أواسط السبعينيات،وعندما كان الراحل الكبير الشاعر صلاح عبد الصبور رئيس تحرير مجلة الكاتب، قابلني صديقي الفنان الشاب صلاح عناني، وكان متهللا، ولم أفهم سبب تهلله إلا عندما ابلغني بأنه سيرسم قصة "رشدى حمامو" لبدر الديب، وكان فرح عناني يتسم بطفولة عارمة وطازجة، وشعرت من خلال هذا الفرح أن "رشدى حمامو" وبدر الديب يشكلان قيمة كبيرة، حيث ان عنوان القصة ـ في حد ذاته ـ مثير وغريب تماما.. إذ ما معنى "رشدي حمامو"... وفكرت طويلا في العنوان قبل ان تنشر القصة، وعندما نشرت القصة في مجلة الكاتب تلتها قصة "مقابلة صحفية" ثم تم نشر هاتين القصتين مع قصتين مع قصتين تاليتين هما "ترتيب الغرف" و "أوراق زمردة أيوب" في كتاب واحد عام 1981، أيقنت أن "بدر الديب" جوهرة مجهولة في القص المصري والعربي، وكما يقول شكري عياد: (اذا جهله الكثيرون فليس هذا ذنبه، بل ذنب حياتنا الثقافية التي تسلمها المهرجون).. ويستطرد (بدر الديب لم يكف عن الكتابة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وإذ لم ينشر من كتاباته إلا اقلها كما وشأنا).... وبالفعل بدر الديب لم يكف عن الكتابة ولكنه لم يكن متكالبا على النشر، وعندما دفع بكتابه هذا "حديث شخصي" الى الهيئة المصرية العامة للكتاب، ظل الكتاب في أقبية الهيئة لمدة أربع سنوات، وهذا كفيل بأن يدفع أي كاتب مبدع بالابتعاد عن مثل هذه المؤسسات، فما بالنا وهذا الكاتب هو بدر الديب الذي يعتز بنفسه وبقلمه أيما اعتزاز، ويكفي بأن هناك كتابات ظهرت منشورة بعد كتابتها بعقود مثل "حرف الحاء" و"السين والطلسم"، وبعض الأشعار التي نشرها على نفقته الخاصة.. وما يخصنا هنا هو "حديث شخصي".. التي تنطوي على أربع قصص كما أسلفنا وهى "رشدي حمامو" و "ترتيب الغرف" و "مقابلة صحفية" و" أوراق زمردة أيوب" ورغم أن الأخيرة نشرها فيما بعد كعمل مستقل، إلا أنها لا تفقد الخيط المتصل بينها وبين القصص الثلاثة الأخرى، ويكتب بدر الديب في مقدمة "زمردة أيوب" التي نشت مستقلة عن دار شرقيات عام 1994: (معظم من قرأوا الرواية في طبعتها الأولى ضمن كتاب "حديث شخصي" الذى أصدرته هيئة الكتاب، قد عبروا عن إحساسهم بأن "أوراق زمردة أيوب" قد ظلمت لأنها لم تنشر مستقلة، وعلى الرغم من أنى مازلت أدرك معنى قراري الأول من نشرها كجزء من رباعية "حديث شخص" التي ضمت أوراق لثلاث شخصيات أخرى، إلا أنني مع إصرار عدد من الأصدقاء الدين عبروا عن حرصهم على نشرها)... وأود أن أطرح سؤالا وسطيا فحواه بأن كل نص من النصوص الأربعة، يشتبك مع الأخر، ويتقاطع معه في عناصر شبه مشتركة وفي ذات الوقت هناك ما يعطى كل نص استقلاله، وخصوصيته ـ أيضا ـ عن الآخر، ويكاد النص الأخير "أوراق زمردة أيوب" أن يستأثر بتمام هذه الخصوصية، من حيث كثافة العالم، وغرائبيته، وشدة هيمنة الشعور بالذنب عند الشخصية الرئيسية والأولى (زمردة أيوب)، بالإضافة إلى كثرة أشكال الحياة الطقوسية المتشعبة والمنبثة في كافة جسد النص، وأنا اعني تعبير "جسد النص" بحذافيره، حيث انه ينطوي كل عنصر فيه على وظيفة تكاد أن تكون تقليدية، ولكن عند اجتماع هذه العناصر تجعل من النص جسدا متماسكا ورشيقا، لا يسمح لنفسه بالتداعي الحر، رغم التشريق والتغريب في شتى الأمور، ورغم العديد من القضايا المطروحة في النص، إلا انه يحتفظ بهذا الألق الذي يضئ بعضه بعضا... ويشد بعضه بعضا...
بداية فالنصوص الأربعة تأتي على هيئة نوع من البوح الشخصي.. فدوما هناك شخص رئيسي يحكي، ويتذكر، ويحلم، ويأمل، ودوما هناك أزمة أو سر يتضح رويدا رويدا عبر تتالي الصفحات، ويظهر هذا السر/ الأزمة متخفيا في عبارات حادة او ناعمة، وعبر هذه الأزمة أو هذا السر تنكشف مساحة هائلة من الدوائر الأخرى، وما هذه الأزمة إلا مناسبة لطرح أزمات أخرى صغيرة أو كبيرة تتضافر لتشكل عماد النص، وكينونته، وماهيته....
في "رشدي حمامو" هذا النص الذي يتصدر المجموعة تبدو الأزمة ـ بداية ـ في مجرد الاسم كما يصرح الشخص في مستهل القصة، (كان اسمي الذي التصق بي طول حياتي، هو "رشدي حمامو"، وليس من شك أن قول التصق بي قد يثير حديثا او كلاما، أو على الأقل تفكيرا، لكن هل يثير حقا؟...) ويسترسل السارد ـ هكذا ـ في طرح مشكلة الاسم، ويقلبه على عدة وجوه، ويمحص فكرة التصاق الاسم بالشخص، للدرجة التى يصبح فيها الاسم ـ عموما ـ مشكلة حقيقية تستدعي تأليف قصة حوله، وعلى كل يقرر السارد المضي في هذا التداعي الواعي، الذي لا يترك القصة ان تسترسل دون ضبط، ويخرج من قصة الاسم وتداعياته، ليعود مرة أخرى فيطرحها على وجوه عدة فيقول: (إن التفكير في أن ابدأ بالحديث عن الاسم في هذه القصة هو نتيجة للخلفية الرياضية التى تلقنتها وتعلمت من خلالها)، ويستطرد السارد في ربط علاقة بين الاسم ـ أي اسم ـ والرياضة، ويوضح: (وأنا أرجو ألا يتصور أحدا أنني أتخفى وراء الرياضة لتقرير معنى أدبى)... إذا ماذا يريد الكاتب من وراء ذلك، هل يريد أن يخلق قصة تشويق تشد القارئ؟؟ ورغم أنه ينجح في ذلك... إلا أنه ينفيه ويقرر: (ببساطة أردت أن اكتب هذه القصة لحياتي أو لاسمي لأنني وجدت أنها مفيدة لي).. وينطلق من خلال هذه المقدمة الرياضية أو التشويقية، لتأمل بعض ما مضى من حياته، ويصف او يرصد بعض السمات التي وجدها في نفسه عبر تأمله لذاته الوظيفية، هذه الذات التي غرقت في أعمال روتينية، وينفي عن نفسه عدة أشياء مثل انه لا يصنع السياسة، ولا يريد آن يتورط فيها، وسنلاحظ أن بدر الديب يطرح تلك الفرضية على طول القص في الأحاديث الأربعة، ورغم انه ينفى هذه الصناعة، إلا انه يقتحمها من زوايا مختلفة، مثل(لقد كثر هذه الأيام الأحاديث عن ساسة الانفتاح، وعن دلالتها السياسية والاجتماعية)...
و تنتقل القصة من كل هذه الطروحات ليتأمل السارد حياته مع زوجته، ويرصد بعض محطاته معها: (لقد تزوجت بعد حصولي على الدكتوراه مباشرة وأهم من كل تفاصيل الزواج، ان زوجتي الطبيبة وصاحبة العيادة المشهورة للأطفال في سليمان باشا، قد تركتني وتركت مصر لتعمل بالتدريس والطب).. وهنا ينفتح قوس آخر يسترسل فيه الكاتب ليدخل بنا إلى حياته الزوجية، لا ليأخذنا إلى قصة تعليمية أو إرشادية، كما يكتب، شكري عياد في تذييله النقدي، بل ليمزج بين التأملي والكوني مع السردي الجزئي، هنا نشخص حياة الراوي كاملة، وتظهر نتوءات الحياة كلها، رغم انه بدأ سردها من مجرد اسمه الغريب والشاذ؟ ليلقي بنا في دوامة كونية محكمة البناء وشيقة، لينهي قصته بـ:(عندما انضمت زوجتي بجسدها وبذكرياتها إلى مفازات الجليد، وأصبحت وحدي تماما اشتعل فجأة هذا النور الغريب الذي دفعني إلى كل هذه الكتابة والوقفة أمام الاسم، وما أوسع الصمت وأطول التساؤل أمام الاسم الثابت المكون من عنصرين، وقد أصبح في المفازة نورا ونقطة بداية لا يتجاوزها حتى الفن)... ولم يكن القارئ يتوقع أن تنتهي القصة هكذا، وهذا الربط الفيزيائي بين الاسم وكل هذه التأملات والسرود والحكايات ليثبت لنا أن كل شيء صالح لكي يكون منطلقا للكتابة السردية..
و تتسع هذه الرؤية الفنية في القصة التالية، أو حديث الشخص الثاني، فها هي امرأة تحكي، أو تهذي وربما تعرف، وهنا يختلط الوعي واللاوعي، والسردي الذي يعني بالتفاصيل، والتأملي الذي يهتم بالأبعاد والكونية للحياة، وفورا تدخلنا الراوية إلى عالمها سريعا، ودون أي تمهيدات وصفية فتقول: (لم لكن أتصور أن حياتي.. أقصد نفسي، ستتغير كل هذا التغيير بعد أن قتلته، ليس هناك حقا حياة بعد ذلك، لكن هناك تلك اللحظات والأيام قبل الإعدام الذي انتظره).. هكذا يجد المرء نفسه أمام الشخصية والحدث، وموضوع الحدث مرة واحدة، ورغم أن التفاصيل والتأملات كلها تبنى على الفرضية الأولى، أو مقدمة القصة، إلا أن الأحداث لا تخلو من المفاجآت المذهلة، والتي تحمل قصصا وحكايات تبدو ـ في مظهرها ـ مسلية، لكننا نكتشف من خلالها أن الحياة كم هي معقدة، وكم هي شائكة، وغير سوية... ودوما ليست على ما يرام، رغم الأوهام التي تمنحها دوما لنا على منعطفات كثيرة، زان لم تمنحنا هذه الأوهام لاخترعناها نحن، وزيناها، ووضعناها هدفا لنا طوال الطريق، حتى تتوالى الانكسارات، ولا نقتنع في البداية، إلا أن تحكم هذه الانكسارات قبضتها وتفتك بالمرء تماما...
هذا مات حدث مع سميحة عبد العظيم، نزيلة الزنزانة رقم 333 والمتهمة بقتل زوجها، وحادث القتل جاء عبر أحداث أخرى كثيرة، ومقدمات متعددة، بعضها عفوي وطبيعي، وبعضها الآخر شبه متعمد، فسميحة عبد العظيم كانت تعمل عند خالتها في محل تطريز، وكانت تبتلع كثيرا من الإهانات، وعمليات سلب عرضها وجهدها، ورغم أنها تبذل مجهودات فنية كبيرة، إلا أن الخالة تمارس عليها كافة انواع القهر، وتفكر سميحة بعد تعديلات في الخطط ان تستقل بنفسها، فدبرت شقة في باب اللوق، واستقلت بنفسها هي وأمها، بعد أن أرشدت الزبائن الى مكانها الجديد، وهنا يظهر الأخ بقوة وبدر الديب لا يعطي الأحداث دفعة واحدة ولكنه يأتي بالحدث والشخصية في الأوقات المناسبة، والتي تليق بالمستويات الدرامية التي تتقلب فيها القصة، فحين تذهب وتنشط في شقة باب اللوق، يتلمظ الأخ، ويبدأ في إطلاق مواهبه المحرمة، فيسلب أقمشة عبر طرق غير شرعية، وفي يوم يصطحب صديقا له، وتقع سميحة في قصة حب مع هذا الصديق، ويتزوجها، ويعيد هذا الزوج قصة السيطرة عليها، ومحاولة الاستيلاء على مقدرات العمل، ويسلبها سلطتها، لمجرد انه حل زوجا وحبيبا، وبعد أن يدخل الأخ السجن، ينفرد الزوج بسميحة وبأمها، ويقع الخلاف، وتبدأ في إعداد خطة لتدميره، وتدميره حتى ينتهي الأمر بها إلى الزنزانة رقم 333، التي تحاول فيها بقدر الإمكان إنهاء اعترافاتها، او مذكراتها، وتجد بين الحين والآخر حوارا يدور بينها وبين السجانة تحية، وخلال هذه الاعترافات تعرف عددا من أشكال السرد أو الحكي أو البوح، هناك شكل استرجاع الأحداث عندما تقول مثلا: (إنني مازلت اذكر تلك الليلة وقد سهرنا نأكل ونتحدث حتى الرابعة صباحا تقريبا، فانا لم أحب في تلك الليلة، ولكنني عرفت الكثير عنه، وعرفت فيه قدرات عجيبة تشع من عينيه ومن جسده كله)... ثم نعرف تقنية الأمل:(ما اغرب هذا الجسد، لقد تعودت طول حياتي ان أخاف وان أشفق على نفسي من الرغبة احتراسا من أن افقد.
وهكذا تخرج الرواية من زمن ماضي بعيد الى زمن ماضي قريب، يكاد تقريبا ان يلخص الحياة كلها، ثم تفاجئنا الرواية بالحاضر الذي تعيش فيه، حتى نقتنع تماما بأن الحياة كلها مجرد زنازين متغيرة، فمن زنزانة شبرا التي تخضع فيها سميحة لابتزاز واستغلال الخالة، الى زنزانة باب اللوق التي تستسلم لطمع وجشع الأخ، ثم هيمنة وسيطرة واستنزاف الزوج، ثم هذه الزنزانة الحقيقية التي تأخذ أرقاما متشابهة وهو 333، وكأنه يشي بتشابه الزنازين، وان لم تأخذ هذا المسمى، حتى تفاجأ في النهاية أن سميحة تنتحر، ويبدأ التحقيق من جديد مع الشاويش تحية، ومع أوراق سميحة، لندرك ان الحياة دورات شبه متكررة، وشبه متشابكة، وشبه حلقات درامية يسلم بعضها بعضا...
هناك ـ دوما ـ في الأحاديث الأربعة شعور يهيمن على الراوي، وهو شعور بذنب ما، تختلف أشكاله وأسبابه، لكنه ذنب، يظل يؤرق الراوي، على اختلافه بين حديث وآخر، ويظل يتصاعد من حديث لحديث، وتكاد مسألة الذنب ان تظهر كرائحة خفيفة في الحديث الأول، لكنها تبدأ تظهر بقوة نسبية مع الحديث الثاني، في إحساس سميحة به عندما قتلت زوجها، وفي دوائر ذنبية صغيرة تظهر بعقل الذنب الأكبر، اما في الحديث الثالث، فنجد نصر الشربيني يحاسب نفسه على أشياء ينظر لها الآخرون يشكل مألوف، للدرجة التي تدفعه لاستنكار اسمه يقول:(لست أدرى لماذا أسماني أبي "نصر" لم لعرف في حياتي نصرا كبيرا واحدا، ولم يرتبط ميلادي بأي نصر كبير).. وهكذا يظل الراوي يطرح الاسم على وجوه عدة، حتى يثبت ان الاسم ليس له علاقة بمعناه، وأن الدليل على ذلك هذه الحياة الفاشلة، انه يعمل صحفيا ويضطر نصر الشربيني أن يسرد لنا أو لنفسه حياته كاملة، ويستعيدها منذ ان ولد عام 1925اى بعد انتصار 1919 ورغم ذلك فنصر ينجب بنتا ويسميها انتصار!!، وهذا يعني الجري وراء محو لعنة الاسم، أو حقيقة المعنى الكامن في حياته، ويركز بدر الديب في كل هذه الأحاديث على فكرة ان الحياة كلها تنكشف تماما عند منعطف معين، أو عند أزمة ما، وتظل هذه الأزمة ضاغطة على الأحداث كلها... وفي هذه القصة، أو الاعترافات، أو الحديث الشخصي، نجد أن الأزمة هنا تكمن فى زواج انتصار بالدكتور، ورجل الأعمال الشهير والعالم كمال مجدي، أما الذنب فيتلخص في أن نصر الشربيني والد انتصار هو الذي كان واسطة العقد بينهم، ورغم انه لا يدرى كيف تسلسلت الأحداث هكذا، مع أن كل المؤشرات كانت تدل على ذلك، وفحوى الأزمة ان الدكتور كمال مجدي العالم الكبير وصاحب الأعمال الشهير يكبر انتصار بضعف عمرها، ويحدث الزواج، رغم انفه، وهو يفكر في المسارات الطبيعية من جهة، ولكن ابنته وزوجته واولاده يعتبرونها فرصة لا تعوض، وتظل التداعيات تتراكب حدثا بعد حدث، حتى تأتي الدعوة المعلنة بعقد القران له، وهو يظل يستعيد ويسترجع كل ما حدث، لا لاستعادته فحسب، بل لتأمله، ولوصفه في اي سياق مفهوم، ولكنه في النهاية بعد كل هذه المحاولات للفهم، لا يفهم... وتضغط أشكال التفكير على نصر... وتختتم الاعترافات بموته إذ تأتي جملة صارمة تقول:(في اليوم التالي نشرت جريدة... خبرا بصورة على عمود في الصفحة الأولى تنعي الصحفي الكبير نصر الشربيني اثر إصابته بسكتة قلبية في فندق بشاطئ جليم) تكاد تكون القصة عادية لولا أن الراوي أو الشاهد يدخل بنا في مسارب كثيرة، ليس عمودها الأساسي هو القصة الإطار، أو الذنب الذى يشعر به الراوي، ولكننا نشهد ونقرأ ما يلفت نظرنا بقوة، هو الصراع الذي يدور بين شخصين مختلفين، نصر الشربيني وكمال مجدي، عبر انتصار... والاسم هنا لا يعني الا هزيمة نصر الشربيني، الذي يعيش في أثواب الماضي، و لم يستطع أن يستوعب ما حدث، فكتب عليه وعلى أفكاره وعلى خريطته في الحياة بالموت. والمحو، والإزالة من الوجود تماما، انه صراع قوي، وصراع إرادات، وليس صراع أشخاص، ولكن تتشابك العناصر في نسيج قصصي ممتع...
تتحول فكرة الذنب بكل أشكالها وثقلها في الحديث الرابع، وربما الأهم وهو "أوراق زمردة أيوب" وتتكثف رموزها، ويضطر الكاتب ان يستعين بالتراث القبطي، والكتاب المقدس، ويفرد ملحقا خاصا في الطبعة المستقلة، لشرح هذه الرموز، ويدلي برأيه في هذا الملحق فيكتب فى نهاية الرواية، وفي مقدمة الملحق: (حرصت على أن أضيف عددا من الهوامش على النص، فأنا ضد أعداد الهوامش لعمل فني ما، فان هذه الهوامش يعني تبيان مصادره ومراجعه امر بطول.. وكنت أود أن أضع هوامش مطولة على كثير من شخصيات الإنجيل التي جاء ذكرها في الأوراق.. والتي لعبت دورا هاما في تشكيل الشخصية وتحديد أبعادها)..
وازعم أن بدر الديب لجأ لمسالة الهوامش، حتى تنفتح مغاليق النص المتعددة، ومساريه المسدودة، والتي لا يستطيع القارئ أن يضيئها إلا بفهم بعض علاماتها التاريخية الواردة في الكتاب المقدس، أو التراث القبطي، على المشار أن هذا التراث المكبل ومفيد بفكرة الذنب والاعتراف في أعلى صورهما، وأظن أن "أوراق زمردة أيوب" وحدها تحتاج إلى دراسة نقدية توازى صفحاتها صفحات الرواية ذاتها، وما هذه الأوراق إلا اعتراف مطول عن ذنب جسيم تدلي به "زمردة أيوب" ليس أمام محكمة القس المقدسة، بل أمام التاريخ كله، وأمام المجتمع، وأمام الله، وأمام نفسها، فلم يكن الذنب يقتصر على الخطيئة التي ارتكبتها زمردة مع كريم عبد القادر، بل يتعدى ذلك إلى قضايا أخرى، فالابن دانيال قد ضاع منها، وهذه خطيئة ثانية ترتبت على الخطيئة الأولى ورغم أنها تردد: (لقد عشت بعيدة عن مصر سنوات طويلة، ولكن مصر دائما كانت هناك) بالطبع نلمح هنا جملة البابا شنودة: (مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا)..
والخطيئة هنا لم تكن خطيئة دينية بلأنها خطيئة وطنية، إنها ترك البلاد تحت ضغوط كثيرة للذهاب إلى أمريكا، "فالزن على الودان أقوى من السحر" وهي استجابت لهذا السحر فذهبت بابنها إلى أمريكا، والذى راح يتشرب مناخا آخر وثقافة أخرى، وتنبت فيه بذرة تعصب، وبعض مشاعر انفصالية، وعندما تعود الى مصر تبدأ السلطات في مطاردتها وتشديد الحصار عليها وفرض الحراسة، وفي هذه "الليلة السوداء" كما وصفتها تفيدة الشخصية الثانية في الرواية، ومساعدة زمردة، ووصيفتها، وهي التي تعينها على كل شيء في الحياة، يدخل كريم عبد القادر ضابط البوليس ويجري بعض إجراءات تفتيشية، وهنا تحدث بداية الأزمة، المأساة، والتي ستنتج عنها العلاقة الآثمة بين الطرفين، هذا الانجراف الكاسح نحوه سيولد خضوعا له يوما بعد يوم، إنها تكتشف نفسها من خلاله، ترتدي له أبهى الثياب، تعطيه كل مفاتيح حياتها الروحية والجسدية، وتشهد حياتها معه أزهى تجلياتها، هنا يتعانق الفعل المذنب مع البهجة المطلقة، نتيجة الحرمان المطلق إلى عانته مع الزوج الراحل، والزواج التعسفي، هذا الزواج الذي لم يفجر أى طاقة عندها، ان ذنوبها تترتب على سلوك وقسوة آخرين وذنوبها رغم ذلك لا تنمحي، ولا تجد لها مبررا، ويدور الحوار بينها وبين تفيدة وبين أشعار إميلي ديكنسون، ولكن لا جدوى، ويتغلغل الإحساس بالذنب مع توغل وتغول واستفحال المرض العضوي، هذا المرض الذي يولد طاقة عصبية تجعلها مرتبكة طوال الوقت على كل المستويات، ويجعلها تنتقل بين بيت الأسرة في الزيتون وبين بيت الزوجية في دميرة.... انها تعيش أشكالا من العذاب الذي لا يطاق ولا يحتمل، ولا من منقذ ولا من مغيث، حتى الاستغاثة بمسيرة دميانة، وبأقوالها لا تجدي،حتى تسلم الروح تحت سقوف واطئة تماما....
هنا يتعانق كل شيء لاستكمال المأساة التي تتصاعد، حتى تصل إلى ذروتها في أوراق زمردة أيوب ونكون قد امتلأنا بزخم روحي وإنشادي وتطهري تماما. وأن الشخصيات كلها تكاد أن تصرخ، حتى تتخلص الروح البريئة من هذه الأجساد المذنبة.