شعرية الصمت!
في مناسبة رحيل هارولد بنتر
ترجمة: صبحي حديدي ذات يوم، وخلال مقابلة على إذاعة الـ BBC، وجّه كنيث تينان نقداً إلى هارولد بنتر لأنه لا يتناول الأفكار ولا يستزيد في كشف شخصياته، فردّ بنتر بأنه إنما كان يسعى إلى دفع شخصياته نحو "الحافة القصوى لحيواتهم، حيث يعيشون في وحدة بالغة". واهتمام بنتر ليس منصباً على "البروليتاريا المناضلة" الخاصة بالواقعيين الإشتراكيين، ولا حتى على فكرة مجردة عن "الإنسان"، بل هو بالأحرى يبحث عن التجربة الملموسة للكائن البشري. شخصياته لا يُعثر عليها خلف المتاريس ولا خلف وشاح السلطة. إنهم أفراد وحيدون خائفون نكصوا إلى عزلة حجراتهم ليتأملوا. إنهم ملوك ومستشارون، ولكن دون امتيازات. إنهم جميعاً، تحت الجلود، مخلوقات ترتعد هلعاً من الصمت الذي يكتنف وجودها. وفي مناسبة أخرى شرح بنتر وجهة نظره كما يلي: "أنا مهتمّ بالناس في المقام الأوّل: أريد أن أقدّم للجمهور بشراً أحياء، جديرين بذلك الاهتمام لأنهم في حالة وجود أساساً، ولأنهم موجودون، وليس بسبب من أيّة حكمة أخلاقية قد يستمدّها الكاتب منهم"(1). وبذلك ينبغي أن تنبثق تجربتنا الدرامية من إقرارنا بالمخلوقات الزميلة لنا، وليس بسبب من إجماعنا على ما يحدث أن تؤمن أو لا تؤمن به تلك المخلوقات. والمؤلف عايش حلم المسرحية مرّات لا تحصى، قبل أن يحوّلها أخيراً إلى شكل ومادّة. في البدء يدخل الجمهور إلى حلم المسرحية ببراءة مقارنة، لكنه سرعان ما يبدأ في العثور داخل تلك المسرحية على نتف وأجزاء من حياة المرء الشخصية. والعثور داخل الأحلام المنفصلة على نقاط تماسّ كهذه هو منتهى الإتصال الجمالي. وأخيراً، ليست هنالك حكمة وعظية يمكن استنباطها من مسرحيات بنتر، ولا توجد خريطة طريق في علم الواجبات الأخلاقية تقودنا في أرجاء عمله، وتذكّرنا أنّ الحلم الذي نحلمه له صفة جماعية. أطروحة هذه السطور هي أنّ موهبة بنتر الدرامية الخاصة تكمن في موهبة الألسن، والقدرة على الإصغاء وإعادة إنتاج صوت الصمت. مسرحياته تكشف عن تبادل إيقاعي بين الصوت والصمت، هو الذي يتولى الإيصال حين لا يُفترض في الإيصال أن يكون ممكناً. وفي كتابه "تاريخ الشكل في الأدب الألماني" شرح كلوبستوك كيف أنّ "الكيفية غير المبنية على الكلمات تتحرّك في القصيدة مثل الآلهة في معارك هوميروس، فلا يبصرها إلا القلّة". ولعلّ إسهام بنتر الأعظم هو اكتشاف تلك الكيفية في لغتنا، وإحياء ما أسماه ريلكه "اللغة حيث تنتهي اللغة". وأما إسهام بنتر الخاصّ فهو أن يسند ألسنياً ذلك النوع من التوترات التي لاح أنها تحرّك شخصياته من الداخل. الجملة المتشظية، والعبارة المتروكة معلّقة، والوقفة غير الملائمة، تصبح كلها مظاهر خارجية لقلق داخلي، ولرَيْبة أعمق. والصدام التنافري للغة في "البوّاب"، مثلاً، لا يؤشر فحسب على الصدام الذي ينشأ بين شخصية وأخرى، بل كذلك في داخل كل شخصية. وجهود الكلام المرتبكة التي تعقب هذه المواقف تشير إلى حاجة ماسة عند الشخصيات للتعريف بذواتها. فإذا جازت إعادة صياغة تعريف كلاوزفيتز للحرب، فإنّ اللغة تصبح استمراراً للتوتر بوسائل أخرى. وهايدغر يذكّرنا أنه في مناسبات كهذه تبدو اللغة مَلَكة تمتلك الإنسان، لا العكس. غير أن هدف "استمرار التوتر" قد لا يكون دائماً تبادل المعلومات. فعلى النقيض، تذهب بعض شخصيات بنتر إلى الإطالة بمقدار ما، بغية تفادي تعرّف الآخرين إليها. والأصوات التي تتبادلها هذه الشخصيات هي فعل إعاقة، ومناوشة هدفها تحاشي المواجهة الأكبر. وبنتر يصف هذه الإستراتيجية على النحو التالي: "الإتصال بين البشر مفزع في حدّ ذاته، إلى درجة أنّ البشر يستعيضون عنه بالكلام المتقاطع، وبمواصلة الحديث عن أشياء أخرى، بدل تلك التي في صلب وشائجهم"(2). وأحد مصادر المراوغة حول التواصل يمكن أن يُستمدّ من المستويات المتعارضة للمعرفة أو الذكاء. ففي "حفلة عيد الميلاد"، مثلاً، يستطيع ماكان وغولدبرغ التشويش على ستانلي بسبب تلميحهما الدائم إلى قوى غير معروفة، أو أحداث خافية لكنها ذات مغزى. أو يستطيع ميك، في "البوّاب"، البقاء متقدماً على دافيز بسبب ذكائه الأرفع ونباهته. لكنّ مصدر التملص الأهمّ يصنعه فزع الشخصية من أنّ انكشافها، أو الإفصاح عن دخيلتها، يجعلها تحت رحمة أولئك الذين يعرفونها. دافيز، مثلاً، لن يعترف البتة بالكثير حول سيدكب، الأمر الذي سيكشف أوهامه. ولهذا فإنّ كلّ ما سيقوله، أياً كانت أهميته، يظلّ جزءاً من محاولته الأعرض للوقوف على تفاصيل حيوية تخصّ الآخرين، والإبقاء على أسراره هو حبيسة نفسه. وحين نتفحص خطوط الحوار الفردية التي استجمعها بنتر، فإننا قد لا نلحظ مغزى خاصاً فيها. إنها تبدو لغة بشر عاديين ذوي مشاغل عادية. ولكننا إذا تفحصنا الشذرات ذاتها ضمن السياق الإجمالي للمسرحية، فإننا سنكتشف أنها تتخذ فحوى مضافاً. نبدأ، على سبيل المثال، في اكتشاف المرجعيات المتقاطعة التي تحيك نسيجاً تلميحياً، هو النسيج الذي سيخدم بدوره في تكوين سياق لحوادث أخرى كانت، سوى هذا، معزولة. ورغم أنّ "حقيقة" حوار ما قد تبدو قابلة للنفي أو المساءلة بفعل "حقيقة" حوار آخر، فإنّنا مع ذلك ندرك وجود إيقاع حاذق وراء الحوار التلاسني للشخصيات، هو الإيقاع الذي لم يكن جلياً في البدء. والمحظوظون الذين أتيح لهم أن يشاهدوا زيرو موستيل وبرغس مريديث يؤديان "في انتظار غودو"، صُعقوا من توازن واتزان السطور، ذات السطور التي بدت ميتة غير مترابطة على الصفحة المطبوعة. الظاهرة نفسها تتكرر حين تضجّ الحياة في حوار بنتر على الخشبة. والإنتباه ذاته الممنوح للتفاصيل، والذي بدا تافهاً في سيرورة القراءة، يسفر على الخشبة عن صعود وهبوط في مقدار التشويق. الوقفات تجبر الجمهور والشخصيات، معاً، على اعتبار الإستجابة المتوفرة ممكنة. والوقفات، بالتالي، ليست فارغة بل طافحة بالترقبات الباحثة عن التحقق. والجمال الحاذق في لغة بنتر اليومية ينبع من قدرتها في أن تحكي لنا المزيد عن الشخصيات التي تستخدم تلك اللغة، أكثر من قدرتهم هم أنفسهم على إخبارنا. ومثل كلّ الشعراء الغنائيين يبدأ التزام بنتر الأوّل من "كيف" يكون التواصل، وليس من "عمّ" يدور. وإذا بدت تلك اللغة الدنيوية غامضة مصابة بالفزع، فهذا لأنّ حيوات الناس الذين يستخدمون لغة مستنفدة هي بدورها غامضة مصابة بالفزع. والواقعيّ يشرع عادة في استخدام لغة المشاع فينجح في إعادة إنتاج ما يظنّ أنه لغة المشاع. المفارقة أنّ نجاح بنتر في توليف آذاننا على الأنماط اليومية للخطاب إنما يمكننا من استرداد مستويات الغرابة والغموض الموروثة في التجربة الإنسانية المشاع. فهذا سبيل لواقعيّ يقودنا إلى يقينية الأحشاء، وذاك سبيل لواقعي آخر يقودنا إلى ظاهراتية الروح. النقد الذي وجّه إلى بنتر انصبّ في الواقع على ما لم يفعله، وليس على ما فعله. معظم هذا النقد افتقر على الدوام إلى تحسس الجوهر في ما يفعله بنتر حقاً. ولعلّ أكثر هذا النقد جدية ومنهجية صدر عن فكتور أمند، في خمسة اعتراضات خاصة(3). الأوّل، يساجل أمند، أنّ بنتر يُدخل الرموز ثمّ لا يستكملها (بوذا، في "البوّاب" يمكن أن يصلح مثالاً). صحيح أنّ بنتر يدخل عدداً من اللارموز، أي تلك الرموز التي لا تشارك في الإيصال. ولكن يجب أن نفهم أنّ هذه اللارموز جزء من النظرة الكونية للمسرحية، وهي نظرة كونية انهارت فيها التناقلات وانكسرت الرموز، لكي نستخدم تعبير تيليش. ثانياً، يعتبر أمند أنّ بنتر يفرط في الغموض، وهو نقد مرتبط بالأوّل وتكمن خلفه رغبة في أن يبدو العالم واضحاً، سواء اكان كذلك أم لم يكن. من الصحيح، مع ذلك، أنّ بنتر يطمس، غالباً وعن سابق قصد، بواعث وخلفيات شخصياته. لكنّ السؤال يظلّ ما إذا كان المؤلف يعفّ عن هذا، أم ينفخ الحياة في موقف يكون الغموض أحد عواقبه الطبيعية. الدراما هي أن نطلق إلى الخارج تلك المشاعر الدفينة في الداخل، والمرء يرتاب في أنّ غموض مسرحيات بنتر يعكس محاولة من جانبه للإستجابة بوفاء إلى المجهول في اسم كوننا وطبيعته. وبنتر لن يلجأ إلى حيلة "الإله من الآلة" deus ex machina، ولا إلى إرادة سرية أو ابن عمّ ضائع من أجل كشف النقاب عن الشبكة العنكبوتية للتجربة الإنسانية. انتقاد أمند الثالث قد يكون مبتسراً. ففي ما يخصّ اهتمام بنتر بمسألة الإيصال، هنالك الكثير من الأمور التي يقوم بها المرء في إيصال اللا ـ إتصال. بنتر، حسب أمند، يجازف بتكرار نفسه. وقد يصحّ أنّ المرء لا يستطيع إيصال اللا ـ إتصال على نحو أصيل دائماً، ولكن في وسع المرء أن يستمرّ في إيصال مختلف بواعث أولئك الذين لا يرغبون، او لا يستطيعون، التأثير في الإيصال. وفي الحالتين ينبغي منح بنتر الحقّ في تطوير زمنه وطرازه بنفسه. التهمة الرابعة ضدّ بنتر قد تكون مبررة. يستخلص أمند أن شخصيات بنتر ليست "وضيعة" في تركيبها فحسب، بل هي "وضيعة" في النفس أيضاً. وقد يسأل المرء: وما المشكلة في هذا؟ هل على جميع الشخصيات أن تتحلى بمكانة أرسطية؟ كلا، بالطبع. قد تكون شخصيات سوفوكليس أظهرت الوضعية المأساوية للإنسان في صراعه مع الآلهة. لكن شخصيات بنتر تُظهر لنا مفارقة أن نكون في وضعية حرب مع أنفسنا، في زمن يشهد أفول الآلهة. الكاتبان، سوفوكليس وبنتر، يخدمان جمهورهما جيداً، كلٌّ على طريقته. النقد الأخير الذي يسوقه أمند هو أنّ بنتر صاحب مقاربة سلبية للقِيَم. وخلف هذا الإعتراض تختفي دعوة من أجل القيم "الحقة" والأفكار "الحقة"، أو حتى النوع "الحقّ" من السياسة. لكن بنتر يرفض مبادلة ربحه الجمالي في مقايضة صاخبة على ساحة السوق. ولعلّ من الخير أن يتذكر المرء ملاحظة هرميس ترسميغيستوس بأنّ الأشياء في الأعلى هي صورة عن الأشياء في الأسفل. والفنان الصادق مع رسالته قد يجد من الضرورة، في عصرنا هذا، أن يعمل وفق ما أسماه هوبر "الإفشاء السلبي". والحال أنّ بنتر، كما ينبغي على كلّ فنان وفيّ لرؤيته الخاصة، يحمل ريبة خاصة تجاه النقاد. وفي مقالته "الكتابة للمسرح" يلاحظ أنّ الفارق بين "حفلة عيد الملاد" التي استمرت اسبوعاً و"البوّاب" التي عُرضت طويلاً هو أنه استخدم النقطة في الثانية وخطّ الإعتراض في الأولى، للإشارة إلى الوقفات وانقطاعات الحوار. وتابع بنتر أنّ النقاد لم تخدعهم حقيقة أنّ المرء في الحالتين لا يسمع النقطة، ولا خطّ الاعتراض، وسرعان ما التقطوا الفارق. والحقّ أنّ بنتر يلجأ إلى الهزل لإيضاح موقفه، بالرغم من نيّته الجادة في تبيان عدم اكتراثه بالنقد. الحقيقة الأكثر أهمية هي أنّ النقاد كانوا بالفعل قد أصغوا إلى تلك الوقفات. كانوا يصغون إلى الفراغات القائمة بين الكلمات، بصرف النظر عما إذا كان بنتر هو الذي وضعها. وكما يتوجب على الفنان أن يصدر مجموعة أحكام نقدية حساسة، كذلك يتوجب على الناقد أن يدوزن نفسه مع نوع القرارات التي اتخذها الفنان بالفعل. ويمضي بنتر في شرح السيرورة الإبداعية كما عاشها: "أنت ترتب وأنت تصغي، مقتفياً ما استجمعته من دلائل، عبر الشخصيات. ويحدث أحياناً أن يتمّ العثور على توازن ما، حيث الصورة يمكن أن تستولد الصورة بحرّية، وحيث تصبح في الآن ذاته قادراً على إمعان النظر في الموقع ذاته الذي فيه تصمت الشخصيات وتختبيء. وهي عندي تصبح الأشدّ جلاء في غمرة ذلك الصمت بالذات"(5). ومن واجب ناقدي بنتر أن يعيدوا تركيز انتباههم على ما يفعله بنتر وليس على ما لا يفعله. يجب أن يتطلعوا إلى ما هو وراء لغته لاكتشاف ما يتمّ قوله حقاً. لاحظ محلل نفساني بريطاني أنه "توجد في سفر عاموس نبوءة بأنّ زماناً سيأتي حيث يصيب الأرض جوع، ليس الجوع إلى الخبز ولا العطش إلى الماء، بل إلى استماع كلمة الرب، وهذا الزمان أتى الآن، وهو عصرنا الراهن"(6) . لعلّ هذه ساعة جوع للإستماع. وطراز الإستماع الضروري لمعايشة تامة لمسرح بنتر ليس مسألة بسيطة، لأنّ لغة بنتر ليست بلاغة الإخراج بل بلاغة التواشج. في وسع كلمة واحدة، تماماً مثل حصاة تُلقى في بركة، أن ترسل عدداً لامحدوداً من الحلقات. والكلمة الواحدة لا تقود إلى أخرى فحسب، بل يحدث أيضاً أنها غالباً تحرّك ركود تجربة منسية عن العذاب أو المتعة. ولكنّ الحصيلة ليست المزيد من اللغة بل المزيد من الصمت. هذا هو الصمت الذي ينطق رغم أنه، كما يصفه ماكليش في "فنّ الشعر": بلا كلمات مثل تحليق الطير كذلك رأينا أنّ سيرورة بنتر الإيصالية لا تتضمن بلاغة الإخراج بقدر بلاغة الملمح الصامت. وفي عام 1968 أثناء برنامج خاص حول الممثل على قناة CBS، عاد بنتر بالذاكرة إلى عهد كان فيه عضواً في فرقة السير دونالد ولفيتس. وبعد أن عارض الأسلوب المتكلّف لتلك الفرقة، شرح بنتر استراتيجيته الخاصة من أجل "استغلال البرهة الدرامية. هنالك لحظات تكون فيها الحركات دقيقة وبالغة التفاهة من حيث المظهر ـ كما حين تحرّك كأساً من هنا إلى هناك. هذه برهة كبيرة. إنها في قلب حالات الصمت حين يتوقف الناس عن الكلام مع بعضهم البعض، ثمّ يعاودون الكلام". ورغم أنّ وسائله قد تختلف، فإنّ اتجاه بنتر في "استغلال البرهة الدرامية" يضعه في قلب التراث الدرامي الغربي، وضمن فكرة المسرح كلّها في ذاتها. ومحاولة استرجاع شعرية الصمت ليست حكراً على بنتر، إذ يسجّل نورمان أو. براون الاهتمام المبكر الذي أبداه أبولونيوس بـ "لوغوس" الصمت، مبدأه العقلي. وأن يسمع المرء "عقل" الصمت يعني امتلاك آذان تسمع ما يُترك حبيس ما لا يُقال. ثمّ يطالبنا أبوليونيوس، بعدئذ، أن "لا نعجب من أنّني أعرف كلّ اللغات ما دمتُ أعرف ما لا يقوله البشر"(7). ولا بدّ لتاريخ تثمين الصمت الأحدث عهداً أن يضع في الحسبان هذا التأكيد من ريلكه: الصمت. مَن يلتزم الصمت بحماس متقد هو الذي يلمس جذور الكلام. والمرء كذلك يفكر في الحركة التي دشنها جان ـ جاك برنارخلال العشرينيات، ودعت إلى "مسرح صمت" للإفصاح عن تلك المشاعر التي لا يمكن أن تحملها اللغة. وفي "المسرح ومُضاعَفه" يساجل أنتونين أرتو من اجل لغة صامتة للملمح، معتقداً بوجود "شعر حواسّ مثل وجود شعر لغة، وأنّ هذه اللغة المحسوسة التي اشير إليها هي المسرحية بالفعل، إلى درجة أنّ الفكر الذي تعبّر عنه يقع خارج نطاق اللغة المنطوقة". لكنّ بنتر يشتغل دون فنّ تأليف مسرحي (دراماتورجيا) مكرّس للصمت عن سابق وعي. وتراثه لا ينتمي كثيراً إلى تراث ستانيسلافسكي و"النصّ الثانوي" بوصفه سوابق الصمت في مسرح الـ "كابوكي" والإيماء. أنساق الصمت في مسرحياته ليست مبرمجة، بل هي درامية. الفارق هنا هو بين النظرية والتطبيق، وبين فلسفة التجربة والتكنيك المُصاغ في أتون التجربة. ولقد ساجل سارتر وآخرون بأنّ فنان العصر ينبغي أن يكون "ملتزماً"، بحيث يُطلب منه هذا او ذاك من أشكال الإلتزام. غير أنّ العنف الاجتماعي، ذاته، يتوجب في أزمنتنا أن يُقتلع من نفسية البشر الأفراد. وطبيعة "الإلتزام" عند بنتر، إذا تعيّن على المرء استخدام المصطلح، هو البحث في الداخل وليس البرمجة في الخارج. وكان ييتس قد تساءل، بحكمة، عن السبب الذي يجعلنا نوزّع الأوسمة على الجنود حين يخوض الفنان معركة داخل نفسه أشدّ شجاعة وأشدّ عزلة. وشجاعة بنتر الخاصة تكمن في محاولته أن يقول ما يلوح أنه أبعد من القول. الفعل الإبداعي لم يكن يسيراً في أيّ وقت، ولعلّه بات أكثر صعوبة في عصر تعاني فيه لغتنا ونفوسنا من غثيان الموت. وبنتر يصف بدقة كيف أنّ غثيان الموت هو حصة الفنان الذي تكون اللغة موهبته. ولديّ شعور آخر قويّ بخصوص الكلمات التي ترقى إلى صعيد ليس أقلّ من الموت. مثل ذلك الثقل للكلمات يواجهنا يوماً ويغيب عنّا في يوم آخر: كلمات تُقال في سياق هذا التغاير، وكلمات أكتبها أنا أو الآخرون، حصيلتها ليست سوى اصطلاحات بالية ميتة، وأفكار تتكرر وتتبدل بلا توقف حتى تصبح مبتذلة رخيصة بلا معنى. وهكذا، من السهل أن تطغى حال الغثيان هذه فيتراجع المرء وينتهي إلى الشلل. وأتخيل أنّ معظم الكتّاب عرفوا شيئاً من نوع الشلل هذا. ولكن إذا كان من الممكن مجابهة الغثيان، والمضيّ معه إلى خواتيمه، والتنقّل منه وإليه، فإنّ من الممكن القول إنّ شيئاً قد وقع، أو حتى إنّ شيئاً تمّ إنجازه(8). ومواجهة هذا الغثيان هو المشكلة الحاسمة في هذا العصر. فالفنان لا يستطيع علاح عظامنا الرميم أو يصلح نسيج حياتنا الخَلِق، ولكن قد يكون في مقدوره أن يجعلنا نظلّ بشراً في غمرة ذلك الصمت الذي يكتنف فضاءاتنا اللانهائية. عندها، فقط، تقترب الحياة من الكتابة التي اسماها بنتر "طراز احتفاء"(9). ـ فصل من كتاب "هارولد بنتر: شعرية الصمت". James R. Hollis, Harold Pinter : The Poetics of Silence. Southern Illinois University Pre, 1970, 122-136. إشارات المؤلف: (1) ـ Cited by John Ruell Taylor, Anger and After (Harmondsworth, Middlesex, 1963), p. 296. (2) ـ Ibid. (3) ـ Victor Amend, Harold Pinter: Some Credits and Debits, Modern Drama, X (September 1967), 173 f. (4) ـ Ibid. 34 (5) ـ Harold Pinter, Writing for the Theatre, The New British Drama, ed. Henry Popkin (New York, 1964), p. 579. (6) ـ R. D. Laing, The Politics of Experience (New York, 1967), p. 101. (7) ـ Norman O. Brown, Love s Body (New York, 1966), p. 256. (8) ـ Pinter, Writing for the Theatre, p. 578. (9) ـ Ibid., p. 580.
ترجمة: صبحي حديدي
ذات يوم، وخلال مقابلة على إذاعة الـ BBC، وجّه كنيث تينان نقداً إلى هارولد بنتر لأنه لا يتناول الأفكار ولا يستزيد في كشف شخصياته، فردّ بنتر بأنه إنما كان يسعى إلى دفع شخصياته نحو "الحافة القصوى لحيواتهم، حيث يعيشون في وحدة بالغة". واهتمام بنتر ليس منصباً على "البروليتاريا المناضلة" الخاصة بالواقعيين الإشتراكيين، ولا حتى على فكرة مجردة عن "الإنسان"، بل هو بالأحرى يبحث عن التجربة الملموسة للكائن البشري. شخصياته لا يُعثر عليها خلف المتاريس ولا خلف وشاح السلطة. إنهم أفراد وحيدون خائفون نكصوا إلى عزلة حجراتهم ليتأملوا. إنهم ملوك ومستشارون، ولكن دون امتيازات. إنهم جميعاً، تحت الجلود، مخلوقات ترتعد هلعاً من الصمت الذي يكتنف وجودها.
وفي مناسبة أخرى شرح بنتر وجهة نظره كما يلي: "أنا مهتمّ بالناس في المقام الأوّل: أريد أن أقدّم للجمهور بشراً أحياء، جديرين بذلك الاهتمام لأنهم في حالة وجود أساساً، ولأنهم موجودون، وليس بسبب من أيّة حكمة أخلاقية قد يستمدّها الكاتب منهم"(1).
وبذلك ينبغي أن تنبثق تجربتنا الدرامية من إقرارنا بالمخلوقات الزميلة لنا، وليس بسبب من إجماعنا على ما يحدث أن تؤمن أو لا تؤمن به تلك المخلوقات. والمؤلف عايش حلم المسرحية مرّات لا تحصى، قبل أن يحوّلها أخيراً إلى شكل ومادّة. في البدء يدخل الجمهور إلى حلم المسرحية ببراءة مقارنة، لكنه سرعان ما يبدأ في العثور داخل تلك المسرحية على نتف وأجزاء من حياة المرء الشخصية. والعثور داخل الأحلام المنفصلة على نقاط تماسّ كهذه هو منتهى الإتصال الجمالي. وأخيراً، ليست هنالك حكمة وعظية يمكن استنباطها من مسرحيات بنتر، ولا توجد خريطة طريق في علم الواجبات الأخلاقية تقودنا في أرجاء عمله، وتذكّرنا أنّ الحلم الذي نحلمه له صفة جماعية.
أطروحة هذه السطور هي أنّ موهبة بنتر الدرامية الخاصة تكمن في موهبة الألسن، والقدرة على الإصغاء وإعادة إنتاج صوت الصمت. مسرحياته تكشف عن تبادل إيقاعي بين الصوت والصمت، هو الذي يتولى الإيصال حين لا يُفترض في الإيصال أن يكون ممكناً. وفي كتابه "تاريخ الشكل في الأدب الألماني" شرح كلوبستوك كيف أنّ "الكيفية غير المبنية على الكلمات تتحرّك في القصيدة مثل الآلهة في معارك هوميروس، فلا يبصرها إلا القلّة". ولعلّ إسهام بنتر الأعظم هو اكتشاف تلك الكيفية في لغتنا، وإحياء ما أسماه ريلكه "اللغة حيث تنتهي اللغة".
وأما إسهام بنتر الخاصّ فهو أن يسند ألسنياً ذلك النوع من التوترات التي لاح أنها تحرّك شخصياته من الداخل. الجملة المتشظية، والعبارة المتروكة معلّقة، والوقفة غير الملائمة، تصبح كلها مظاهر خارجية لقلق داخلي، ولرَيْبة أعمق. والصدام التنافري للغة في "البوّاب"، مثلاً، لا يؤشر فحسب على الصدام الذي ينشأ بين شخصية وأخرى، بل كذلك في داخل كل شخصية. وجهود الكلام المرتبكة التي تعقب هذه المواقف تشير إلى حاجة ماسة عند الشخصيات للتعريف بذواتها. فإذا جازت إعادة صياغة تعريف كلاوزفيتز للحرب، فإنّ اللغة تصبح استمراراً للتوتر بوسائل أخرى. وهايدغر يذكّرنا أنه في مناسبات كهذه تبدو اللغة مَلَكة تمتلك الإنسان، لا العكس.
غير أن هدف "استمرار التوتر" قد لا يكون دائماً تبادل المعلومات. فعلى النقيض، تذهب بعض شخصيات بنتر إلى الإطالة بمقدار ما، بغية تفادي تعرّف الآخرين إليها. والأصوات التي تتبادلها هذه الشخصيات هي فعل إعاقة، ومناوشة هدفها تحاشي المواجهة الأكبر. وبنتر يصف هذه الإستراتيجية على النحو التالي: "الإتصال بين البشر مفزع في حدّ ذاته، إلى درجة أنّ البشر يستعيضون عنه بالكلام المتقاطع، وبمواصلة الحديث عن أشياء أخرى، بدل تلك التي في صلب وشائجهم"(2). وأحد مصادر المراوغة حول التواصل يمكن أن يُستمدّ من المستويات المتعارضة للمعرفة أو الذكاء. ففي "حفلة عيد الميلاد"، مثلاً، يستطيع ماكان وغولدبرغ التشويش على ستانلي بسبب تلميحهما الدائم إلى قوى غير معروفة، أو أحداث خافية لكنها ذات مغزى. أو يستطيع ميك، في "البوّاب"، البقاء متقدماً على دافيز بسبب ذكائه الأرفع ونباهته. لكنّ مصدر التملص الأهمّ يصنعه فزع الشخصية من أنّ انكشافها، أو الإفصاح عن دخيلتها، يجعلها تحت رحمة أولئك الذين يعرفونها. دافيز، مثلاً، لن يعترف البتة بالكثير حول سيدكب، الأمر الذي سيكشف أوهامه. ولهذا فإنّ كلّ ما سيقوله، أياً كانت أهميته، يظلّ جزءاً من محاولته الأعرض للوقوف على تفاصيل حيوية تخصّ الآخرين، والإبقاء على أسراره هو حبيسة نفسه.
وحين نتفحص خطوط الحوار الفردية التي استجمعها بنتر، فإننا قد لا نلحظ مغزى خاصاً فيها. إنها تبدو لغة بشر عاديين ذوي مشاغل عادية. ولكننا إذا تفحصنا الشذرات ذاتها ضمن السياق الإجمالي للمسرحية، فإننا سنكتشف أنها تتخذ فحوى مضافاً. نبدأ، على سبيل المثال، في اكتشاف المرجعيات المتقاطعة التي تحيك نسيجاً تلميحياً، هو النسيج الذي سيخدم بدوره في تكوين سياق لحوادث أخرى كانت، سوى هذا، معزولة. ورغم أنّ "حقيقة" حوار ما قد تبدو قابلة للنفي أو المساءلة بفعل "حقيقة" حوار آخر، فإنّنا مع ذلك ندرك وجود إيقاع حاذق وراء الحوار التلاسني للشخصيات، هو الإيقاع الذي لم يكن جلياً في البدء. والمحظوظون الذين أتيح لهم أن يشاهدوا زيرو موستيل وبرغس مريديث يؤديان "في انتظار غودو"، صُعقوا من توازن واتزان السطور، ذات السطور التي بدت ميتة غير مترابطة على الصفحة المطبوعة. الظاهرة نفسها تتكرر حين تضجّ الحياة في حوار بنتر على الخشبة. والإنتباه ذاته الممنوح للتفاصيل، والذي بدا تافهاً في سيرورة القراءة، يسفر على الخشبة عن صعود وهبوط في مقدار التشويق. الوقفات تجبر الجمهور والشخصيات، معاً، على اعتبار الإستجابة المتوفرة ممكنة. والوقفات، بالتالي، ليست فارغة بل طافحة بالترقبات الباحثة عن التحقق.
والجمال الحاذق في لغة بنتر اليومية ينبع من قدرتها في أن تحكي لنا المزيد عن الشخصيات التي تستخدم تلك اللغة، أكثر من قدرتهم هم أنفسهم على إخبارنا. ومثل كلّ الشعراء الغنائيين يبدأ التزام بنتر الأوّل من "كيف" يكون التواصل، وليس من "عمّ" يدور. وإذا بدت تلك اللغة الدنيوية غامضة مصابة بالفزع، فهذا لأنّ حيوات الناس الذين يستخدمون لغة مستنفدة هي بدورها غامضة مصابة بالفزع. والواقعيّ يشرع عادة في استخدام لغة المشاع فينجح في إعادة إنتاج ما يظنّ أنه لغة المشاع. المفارقة أنّ نجاح بنتر في توليف آذاننا على الأنماط اليومية للخطاب إنما يمكننا من استرداد مستويات الغرابة والغموض الموروثة في التجربة الإنسانية المشاع. فهذا سبيل لواقعيّ يقودنا إلى يقينية الأحشاء، وذاك سبيل لواقعي آخر يقودنا إلى ظاهراتية الروح.
النقد الذي وجّه إلى بنتر انصبّ في الواقع على ما لم يفعله، وليس على ما فعله. معظم هذا النقد افتقر على الدوام إلى تحسس الجوهر في ما يفعله بنتر حقاً. ولعلّ أكثر هذا النقد جدية ومنهجية صدر عن فكتور أمند، في خمسة اعتراضات خاصة(3). الأوّل، يساجل أمند، أنّ بنتر يُدخل الرموز ثمّ لا يستكملها (بوذا، في "البوّاب" يمكن أن يصلح مثالاً). صحيح أنّ بنتر يدخل عدداً من اللارموز، أي تلك الرموز التي لا تشارك في الإيصال. ولكن يجب أن نفهم أنّ هذه اللارموز جزء من النظرة الكونية للمسرحية، وهي نظرة كونية انهارت فيها التناقلات وانكسرت الرموز، لكي نستخدم تعبير تيليش. ثانياً، يعتبر أمند أنّ بنتر يفرط في الغموض، وهو نقد مرتبط بالأوّل وتكمن خلفه رغبة في أن يبدو العالم واضحاً، سواء اكان كذلك أم لم يكن. من الصحيح، مع ذلك، أنّ بنتر يطمس، غالباً وعن سابق قصد، بواعث وخلفيات شخصياته. لكنّ السؤال يظلّ ما إذا كان المؤلف يعفّ عن هذا، أم ينفخ الحياة في موقف يكون الغموض أحد عواقبه الطبيعية. الدراما هي أن نطلق إلى الخارج تلك المشاعر الدفينة في الداخل، والمرء يرتاب في أنّ غموض مسرحيات بنتر يعكس محاولة من جانبه للإستجابة بوفاء إلى المجهول في اسم كوننا وطبيعته. وبنتر لن يلجأ إلى حيلة "الإله من الآلة" deus ex machina، ولا إلى إرادة سرية أو ابن عمّ ضائع من أجل كشف النقاب عن الشبكة العنكبوتية للتجربة الإنسانية.
انتقاد أمند الثالث قد يكون مبتسراً. ففي ما يخصّ اهتمام بنتر بمسألة الإيصال، هنالك الكثير من الأمور التي يقوم بها المرء في إيصال اللا ـ إتصال. بنتر، حسب أمند، يجازف بتكرار نفسه. وقد يصحّ أنّ المرء لا يستطيع إيصال اللا ـ إتصال على نحو أصيل دائماً، ولكن في وسع المرء أن يستمرّ في إيصال مختلف بواعث أولئك الذين لا يرغبون، او لا يستطيعون، التأثير في الإيصال. وفي الحالتين ينبغي منح بنتر الحقّ في تطوير زمنه وطرازه بنفسه. التهمة الرابعة ضدّ بنتر قد تكون مبررة. يستخلص أمند أن شخصيات بنتر ليست "وضيعة" في تركيبها فحسب، بل هي "وضيعة" في النفس أيضاً. وقد يسأل المرء: وما المشكلة في هذا؟ هل على جميع الشخصيات أن تتحلى بمكانة أرسطية؟ كلا، بالطبع. قد تكون شخصيات سوفوكليس أظهرت الوضعية المأساوية للإنسان في صراعه مع الآلهة. لكن شخصيات بنتر تُظهر لنا مفارقة أن نكون في وضعية حرب مع أنفسنا، في زمن يشهد أفول الآلهة. الكاتبان، سوفوكليس وبنتر، يخدمان جمهورهما جيداً، كلٌّ على طريقته. النقد الأخير الذي يسوقه أمند هو أنّ بنتر صاحب مقاربة سلبية للقِيَم. وخلف هذا الإعتراض تختفي دعوة من أجل القيم "الحقة" والأفكار "الحقة"، أو حتى النوع "الحقّ" من السياسة. لكن بنتر يرفض مبادلة ربحه الجمالي في مقايضة صاخبة على ساحة السوق. ولعلّ من الخير أن يتذكر المرء ملاحظة هرميس ترسميغيستوس بأنّ الأشياء في الأعلى هي صورة عن الأشياء في الأسفل. والفنان الصادق مع رسالته قد يجد من الضرورة، في عصرنا هذا، أن يعمل وفق ما أسماه هوبر "الإفشاء السلبي".
والحال أنّ بنتر، كما ينبغي على كلّ فنان وفيّ لرؤيته الخاصة، يحمل ريبة خاصة تجاه النقاد. وفي مقالته "الكتابة للمسرح" يلاحظ أنّ الفارق بين "حفلة عيد الملاد" التي استمرت اسبوعاً و"البوّاب" التي عُرضت طويلاً هو أنه استخدم النقطة في الثانية وخطّ الإعتراض في الأولى، للإشارة إلى الوقفات وانقطاعات الحوار. وتابع بنتر أنّ النقاد لم تخدعهم حقيقة أنّ المرء في الحالتين لا يسمع النقطة، ولا خطّ الاعتراض، وسرعان ما التقطوا الفارق. والحقّ أنّ بنتر يلجأ إلى الهزل لإيضاح موقفه، بالرغم من نيّته الجادة في تبيان عدم اكتراثه بالنقد. الحقيقة الأكثر أهمية هي أنّ النقاد كانوا بالفعل قد أصغوا إلى تلك الوقفات. كانوا يصغون إلى الفراغات القائمة بين الكلمات، بصرف النظر عما إذا كان بنتر هو الذي وضعها. وكما يتوجب على الفنان أن يصدر مجموعة أحكام نقدية حساسة، كذلك يتوجب على الناقد أن يدوزن نفسه مع نوع القرارات التي اتخذها الفنان بالفعل. ويمضي بنتر في شرح السيرورة الإبداعية كما عاشها: "أنت ترتب وأنت تصغي، مقتفياً ما استجمعته من دلائل، عبر الشخصيات. ويحدث أحياناً أن يتمّ العثور على توازن ما، حيث الصورة يمكن أن تستولد الصورة بحرّية، وحيث تصبح في الآن ذاته قادراً على إمعان النظر في الموقع ذاته الذي فيه تصمت الشخصيات وتختبيء. وهي عندي تصبح الأشدّ جلاء في غمرة ذلك الصمت بالذات"(5). ومن واجب ناقدي بنتر أن يعيدوا تركيز انتباههم على ما يفعله بنتر وليس على ما لا يفعله. يجب أن يتطلعوا إلى ما هو وراء لغته لاكتشاف ما يتمّ قوله حقاً.
لاحظ محلل نفساني بريطاني أنه "توجد في سفر عاموس نبوءة بأنّ زماناً سيأتي حيث يصيب الأرض جوع، ليس الجوع إلى الخبز ولا العطش إلى الماء، بل إلى استماع كلمة الرب، وهذا الزمان أتى الآن، وهو عصرنا الراهن"(6) . لعلّ هذه ساعة جوع للإستماع. وطراز الإستماع الضروري لمعايشة تامة لمسرح بنتر ليس مسألة بسيطة، لأنّ لغة بنتر ليست بلاغة الإخراج بل بلاغة التواشج. في وسع كلمة واحدة، تماماً مثل حصاة تُلقى في بركة، أن ترسل عدداً لامحدوداً من الحلقات. والكلمة الواحدة لا تقود إلى أخرى فحسب، بل يحدث أيضاً أنها غالباً تحرّك ركود تجربة منسية عن العذاب أو المتعة. ولكنّ الحصيلة ليست المزيد من اللغة بل المزيد من الصمت. هذا هو الصمت الذي ينطق رغم أنه، كما يصفه ماكليش في "فنّ الشعر":
بلا كلمات مثل تحليق الطير
كذلك رأينا أنّ سيرورة بنتر الإيصالية لا تتضمن بلاغة الإخراج بقدر بلاغة الملمح الصامت. وفي عام 1968 أثناء برنامج خاص حول الممثل على قناة CBS، عاد بنتر بالذاكرة إلى عهد كان فيه عضواً في فرقة السير دونالد ولفيتس. وبعد أن عارض الأسلوب المتكلّف لتلك الفرقة، شرح بنتر استراتيجيته الخاصة من أجل "استغلال البرهة الدرامية. هنالك لحظات تكون فيها الحركات دقيقة وبالغة التفاهة من حيث المظهر ـ كما حين تحرّك كأساً من هنا إلى هناك. هذه برهة كبيرة. إنها في قلب حالات الصمت حين يتوقف الناس عن الكلام مع بعضهم البعض، ثمّ يعاودون الكلام". ورغم أنّ وسائله قد تختلف، فإنّ اتجاه بنتر في "استغلال البرهة الدرامية" يضعه في قلب التراث الدرامي الغربي، وضمن فكرة المسرح كلّها في ذاتها.
ومحاولة استرجاع شعرية الصمت ليست حكراً على بنتر، إذ يسجّل نورمان أو. براون الاهتمام المبكر الذي أبداه أبولونيوس بـ "لوغوس" الصمت، مبدأه العقلي. وأن يسمع المرء "عقل" الصمت يعني امتلاك آذان تسمع ما يُترك حبيس ما لا يُقال. ثمّ يطالبنا أبوليونيوس، بعدئذ، أن "لا نعجب من أنّني أعرف كلّ اللغات ما دمتُ أعرف ما لا يقوله البشر"(7). ولا بدّ لتاريخ تثمين الصمت الأحدث عهداً أن يضع في الحسبان هذا التأكيد من ريلكه:
الصمت. مَن يلتزم الصمت بحماس متقد هو الذي يلمس جذور الكلام.
والمرء كذلك يفكر في الحركة التي دشنها جان ـ جاك برنارخلال العشرينيات، ودعت إلى "مسرح صمت" للإفصاح عن تلك المشاعر التي لا يمكن أن تحملها اللغة. وفي "المسرح ومُضاعَفه" يساجل أنتونين أرتو من اجل لغة صامتة للملمح، معتقداً بوجود "شعر حواسّ مثل وجود شعر لغة، وأنّ هذه اللغة المحسوسة التي اشير إليها هي المسرحية بالفعل، إلى درجة أنّ الفكر الذي تعبّر عنه يقع خارج نطاق اللغة المنطوقة". لكنّ بنتر يشتغل دون فنّ تأليف مسرحي (دراماتورجيا) مكرّس للصمت عن سابق وعي. وتراثه لا ينتمي كثيراً إلى تراث ستانيسلافسكي و"النصّ الثانوي" بوصفه سوابق الصمت في مسرح الـ "كابوكي" والإيماء. أنساق الصمت في مسرحياته ليست مبرمجة، بل هي درامية. الفارق هنا هو بين النظرية والتطبيق، وبين فلسفة التجربة والتكنيك المُصاغ في أتون التجربة.
ولقد ساجل سارتر وآخرون بأنّ فنان العصر ينبغي أن يكون "ملتزماً"، بحيث يُطلب منه هذا او ذاك من أشكال الإلتزام. غير أنّ العنف الاجتماعي، ذاته، يتوجب في أزمنتنا أن يُقتلع من نفسية البشر الأفراد. وطبيعة "الإلتزام" عند بنتر، إذا تعيّن على المرء استخدام المصطلح، هو البحث في الداخل وليس البرمجة في الخارج. وكان ييتس قد تساءل، بحكمة، عن السبب الذي يجعلنا نوزّع الأوسمة على الجنود حين يخوض الفنان معركة داخل نفسه أشدّ شجاعة وأشدّ عزلة. وشجاعة بنتر الخاصة تكمن في محاولته أن يقول ما يلوح أنه أبعد من القول.
الفعل الإبداعي لم يكن يسيراً في أيّ وقت، ولعلّه بات أكثر صعوبة في عصر تعاني فيه لغتنا ونفوسنا من غثيان الموت. وبنتر يصف بدقة كيف أنّ غثيان الموت هو حصة الفنان الذي تكون اللغة موهبته. ولديّ شعور آخر قويّ بخصوص الكلمات التي ترقى إلى صعيد ليس أقلّ من الموت. مثل ذلك الثقل للكلمات يواجهنا يوماً ويغيب عنّا في يوم آخر: كلمات تُقال في سياق هذا التغاير، وكلمات أكتبها أنا أو الآخرون، حصيلتها ليست سوى اصطلاحات بالية ميتة، وأفكار تتكرر وتتبدل بلا توقف حتى تصبح مبتذلة رخيصة بلا معنى. وهكذا، من السهل أن تطغى حال الغثيان هذه فيتراجع المرء وينتهي إلى الشلل. وأتخيل أنّ معظم الكتّاب عرفوا شيئاً من نوع الشلل هذا. ولكن إذا كان من الممكن مجابهة الغثيان، والمضيّ معه إلى خواتيمه، والتنقّل منه وإليه، فإنّ من الممكن القول إنّ شيئاً قد وقع، أو حتى إنّ شيئاً تمّ إنجازه(8). ومواجهة هذا الغثيان هو المشكلة الحاسمة في هذا العصر. فالفنان لا يستطيع علاح عظامنا الرميم أو يصلح نسيج حياتنا الخَلِق، ولكن قد يكون في مقدوره أن يجعلنا نظلّ بشراً في غمرة ذلك الصمت الذي يكتنف فضاءاتنا اللانهائية. عندها، فقط، تقترب الحياة من الكتابة التي اسماها بنتر "طراز احتفاء"(9).
ـ فصل من كتاب "هارولد بنتر: شعرية الصمت". James R. Hollis, Harold Pinter : The Poetics of Silence. Southern Illinois University Pre, 1970, 122-136.
إشارات المؤلف: (1) ـ Cited by John Ruell Taylor, Anger and After (Harmondsworth, Middlesex, 1963), p. 296. (2) ـ Ibid. (3) ـ Victor Amend, Harold Pinter: Some Credits and Debits, Modern Drama, X (September 1967), 173 f. (4) ـ Ibid. 34 (5) ـ Harold Pinter, Writing for the Theatre, The New British Drama, ed. Henry Popkin (New York, 1964), p. 579. (6) ـ R. D. Laing, The Politics of Experience (New York, 1967), p. 101. (7) ـ Norman O. Brown, Love s Body (New York, 1966), p. 256. (8) ـ Pinter, Writing for the Theatre, p. 578. (9) ـ Ibid., p. 580.