بشير سيد الكلام والمعادن الأخرى
الحديث عن الفنان، أي فنان، هو بذاته حديث عن الإنسان الذي يسكنه، ذاك الذي يئن ويتألم ويصرخ ويحلم ويشرئب إلى امتلاك المدى وحل الغاز المشاوير السرمدية والمتاهات الوافدة من كل جانب. بشير/ بَشَرٌ/ بِشْرٌ/ بُشْرَى سخية حركت النبض في البقايا الباردة من خشب وحديد/ شِبْرٌ مده القلق في نافورة الحياة المتعرجة/ شراب يتبخر حين يأتي المساء ثم يعتدل في استقامته كي يترك لنا عطره الفتان زقزقات مجدولة تحرض خطونا على الاستماتة في ابتغاء الأبهى من ثمار الإنسان هو الذي ما تخلف يوما عن رسم الطرقات الواسعة التي تقود إلى واحات التذكر ومروج المتعة الأخاذة. بشير هو الفنان والإنسان، وهل يمكن فصل الحلم عن نومه أو المشي عن القدم؟ أيمكن فعلا الحديث عنه بفعل الماضي؟ العيب ليس في اللغة بل في الكلمات التي تتردد خوفا من التراجع في وسط المشوار، إذا ما استغنت اللغة عن الرموز التي أبدعها بشير بلونيس فستبقى خائبة إلى الأبد ولا تعرف ما أصابها من كساح. التقيت به أول مرة خلال ملتقى مغاربي حول السينما بمدينة عنابة، كان يجلس رفقة هدوئه المعهود، ظله الذي لا يخرج من وقته أبدا، جسمه النحيف يقول انه ترك ما تبقى من الوزن كي لا يزعج الآخرين أو كي لا يحتل مكان أكثر مما تحتاجه الفراشة. بشير سيد النحت الذي لا يهاب المساحات الكبيرة، أكثر ما يخاف الرسام هي المساحات البيضاء التي تحرضه على البداية، وأكثر ما يربك النحات هو الفراغ الآثم اللامنتهي، بشير يعبث بالفراغ وعنجهيته فيملؤه بمنحوتات تطلع كالمخلوقات الخرافية أو كالمركبات الفضائية أو كأحلام السورياليين الهاربة التي تستعصي على الإدراك، منحوتاته خليط من أشكال النباتات والحروف الأبجدية لكل اللغات، من الأشورية كالزغرودة من اكف التراب ثم ترفع يديها وتتوجه نحو السماء أو قد تنحني في خشوع دافئ أو قد تسجد في حنو ويعجبها البقاء كذلك فتخلد إلى صمتها، منكفئة على ذاتها، معرضة عما يدور حولها من هرج العابرين أو العيون النزقة، قد تسمح المنحوتة ببعض الحرية لجزء منها فيروح يبتعد مثل اليد الممدودة أو الرجل التي تمد خطوتها في الفراغ وتبدو المنحوتة في النهاية كعراف خرافي يقرا طالع النجوم أو ساحر يوزع التمائم على الزوار الوافدين عليه وعلى حكمته الخالدة. منحوتات بشير بلونيس تحمل عصارة الكثير من الحضارات وتلك بالذات هويتها، ذاك التعدد في الانتماء إلى دوائر ثقافية متكاملة أعطى ناتجا غنيا متنوعا متفردا رغم بساطته، البساطة حكمة المبدعين. التقيت الرجل في مناسبات عديدة فحدثني عن مسيرته وفنه وأطلعني على البومات صوره التي تقول أسفاره في الجغرافيا وإسرافه في الاكتشاف، أراني صور منحوتاته الموزعة هنا وهناك وحدثني عن طريقة عمله وهو يتحدى الفراغ بمنحوتات ذات أبعاد ثلاث. من تحت زجاج نظارته كان ينظر إلى ما يحيط به تمام كما تفعل النجمة الهاربة، في أعلى طابق بنزل السيبوس كان ينتظر الغذاء وبصحبته قلق وسيم، قال "لو لم يكن الأكل ضرورة بيولوجية للجسم ما أكلت، الأكل هو من قبيل الوقت الضائع"، قالها بلغة فرنسية جذابة هادئة واسترسلنا في الحديث عن الفن وأشيائه وطالت الجلسة رفقة الفنان علي دعاس وأعضاء جمعية "صدفة" للفنون التشكيلية من مدينة قسنطينة. يتحدث الرجل فلا يقول إلا ما يفيد ويشير إلى الآخرين من دون تنابز وينتقد سلوكاتهم بكل موضوعية وأدب. لا يحتكر الكلام بل يجب الإنصات جدا ويسال السؤال ثم يروح يصغي في اطمئنان مريح دون زيف أو تصنع، وجهه وقسماته الأليفة مرآة تنطق بها ارتسم في داخله من وقار وحسن نية. حدثنا بشير عن فنه والفن في الجزائر، عن الفرق بين النحت والرسم أو بالأحرى عما يجمعهما هما النازلان من سراج واحد، من خفته قام من مكانه وكاد ظله ألا يحلق بحركاته الرشيقة، انتهى الحديث وانتهى الطعام فقلت له مازحا "يبدو أن وقت الأكل اليوم قد خرج عن عادته ولم يبقى من قبيل الوقت الضائع"، ضحك كثيرا ثم قال قبل أن نفترق "أنا أحقق ذاتي من خلال الاستماع إلى الآخرين لأنني كلما استمعت إليهم تغيرت الأشياء لدي"، هذا هو المبدع المتمرس القادر على فهم الأصوات، من دوي البراكين إلى أزيز النحل، العارف بالحركات، من رقص الريح إلى رقص الأفعى، الداري بأسرار الكلام الشفاف والمسامات المسدودة. أكاديمي ومترجم وكاتب ومصور محترف
الحديث عن الفنان، أي فنان، هو بذاته حديث عن الإنسان الذي يسكنه، ذاك الذي يئن ويتألم ويصرخ ويحلم ويشرئب إلى امتلاك المدى وحل الغاز المشاوير السرمدية والمتاهات الوافدة من كل جانب. بشير/ بَشَرٌ/ بِشْرٌ/ بُشْرَى سخية حركت النبض في البقايا الباردة من خشب وحديد/ شِبْرٌ مده القلق في نافورة الحياة المتعرجة/ شراب يتبخر حين يأتي المساء ثم يعتدل في استقامته كي يترك لنا عطره الفتان زقزقات مجدولة تحرض خطونا على الاستماتة في ابتغاء الأبهى من ثمار الإنسان هو الذي ما تخلف يوما عن رسم الطرقات الواسعة التي تقود إلى واحات التذكر ومروج المتعة الأخاذة.
بشير هو الفنان والإنسان، وهل يمكن فصل الحلم عن نومه أو المشي عن القدم؟ أيمكن فعلا الحديث عنه بفعل الماضي؟ العيب ليس في اللغة بل في الكلمات التي تتردد خوفا من التراجع في وسط المشوار، إذا ما استغنت اللغة عن الرموز التي أبدعها بشير بلونيس فستبقى خائبة إلى الأبد ولا تعرف ما أصابها من كساح.
التقيت به أول مرة خلال ملتقى مغاربي حول السينما بمدينة عنابة، كان يجلس رفقة هدوئه المعهود، ظله الذي لا يخرج من وقته أبدا، جسمه النحيف يقول انه ترك ما تبقى من الوزن كي لا يزعج الآخرين أو كي لا يحتل مكان أكثر مما تحتاجه الفراشة.
بشير سيد النحت الذي لا يهاب المساحات الكبيرة، أكثر ما يخاف الرسام هي المساحات البيضاء التي تحرضه على البداية، وأكثر ما يربك النحات هو الفراغ الآثم اللامنتهي، بشير يعبث بالفراغ وعنجهيته فيملؤه بمنحوتات تطلع كالمخلوقات الخرافية أو كالمركبات الفضائية أو كأحلام السورياليين الهاربة التي تستعصي على الإدراك، منحوتاته خليط من أشكال النباتات والحروف الأبجدية لكل اللغات، من الأشورية كالزغرودة من اكف التراب ثم ترفع يديها وتتوجه نحو السماء أو قد تنحني في خشوع دافئ أو قد تسجد في حنو ويعجبها البقاء كذلك فتخلد إلى صمتها، منكفئة على ذاتها، معرضة عما يدور حولها من هرج العابرين أو العيون النزقة، قد تسمح المنحوتة ببعض الحرية لجزء منها فيروح يبتعد مثل اليد الممدودة أو الرجل التي تمد خطوتها في الفراغ وتبدو المنحوتة في النهاية كعراف خرافي يقرا طالع النجوم أو ساحر يوزع التمائم على الزوار الوافدين عليه وعلى حكمته الخالدة.
منحوتات بشير بلونيس تحمل عصارة الكثير من الحضارات وتلك بالذات هويتها، ذاك التعدد في الانتماء إلى دوائر ثقافية متكاملة أعطى ناتجا غنيا متنوعا متفردا رغم بساطته، البساطة حكمة المبدعين.
التقيت الرجل في مناسبات عديدة فحدثني عن مسيرته وفنه وأطلعني على البومات صوره التي تقول أسفاره في الجغرافيا وإسرافه في الاكتشاف، أراني صور منحوتاته الموزعة هنا وهناك وحدثني عن طريقة عمله وهو يتحدى الفراغ بمنحوتات ذات أبعاد ثلاث.
من تحت زجاج نظارته كان ينظر إلى ما يحيط به تمام كما تفعل النجمة الهاربة، في أعلى طابق بنزل السيبوس كان ينتظر الغذاء وبصحبته قلق وسيم، قال "لو لم يكن الأكل ضرورة بيولوجية للجسم ما أكلت، الأكل هو من قبيل الوقت الضائع"، قالها بلغة فرنسية جذابة هادئة واسترسلنا في الحديث عن الفن وأشيائه وطالت الجلسة رفقة الفنان علي دعاس وأعضاء جمعية "صدفة" للفنون التشكيلية من مدينة قسنطينة.
يتحدث الرجل فلا يقول إلا ما يفيد ويشير إلى الآخرين من دون تنابز وينتقد سلوكاتهم بكل موضوعية وأدب. لا يحتكر الكلام بل يجب الإنصات جدا ويسال السؤال ثم يروح يصغي في اطمئنان مريح دون زيف أو تصنع، وجهه وقسماته الأليفة مرآة تنطق بها ارتسم في داخله من وقار وحسن نية.
حدثنا بشير عن فنه والفن في الجزائر، عن الفرق بين النحت والرسم أو بالأحرى عما يجمعهما هما النازلان من سراج واحد، من خفته قام من مكانه وكاد ظله ألا يحلق بحركاته الرشيقة، انتهى الحديث وانتهى الطعام فقلت له مازحا "يبدو أن وقت الأكل اليوم قد خرج عن عادته ولم يبقى من قبيل الوقت الضائع"، ضحك كثيرا ثم قال قبل أن نفترق "أنا أحقق ذاتي من خلال الاستماع إلى الآخرين لأنني كلما استمعت إليهم تغيرت الأشياء لدي"، هذا هو المبدع المتمرس القادر على فهم الأصوات، من دوي البراكين إلى أزيز النحل، العارف بالحركات، من رقص الريح إلى رقص الأفعى، الداري بأسرار الكلام الشفاف والمسامات المسدودة.
أكاديمي ومترجم وكاتب ومصور محترف