يسعدني أن تعد (الكلمة) هذا الملف عن صديقي العزيز الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، لأن (الكلمة) تحرص على أن تطرح القيمة الحقيقية في وجه ما تطرحه المؤسسة من خلط وتخليط. لذلك كان هذا الملف احفتاءا بشاعر أعتبره أكبر شعراء مصر الآن، وأكثرهم كثافة وخصوبة وحضورا. خاصة وقد وقعت المؤسسة، في مهرجان الشعر العربي الذي نظمته في الشهر الماضي، في خطيئة تجاوزه، وفي فضيحة منح جائزتها لرئيس لجنة الشعر المنظمة له، ورئيس المهرجان، ومن عين لجنة التحكيم فيه. ومع تقديري للصديق والشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، فقد كان الأحرى به ـ حياءا أو نزاهة أو تجنبا لمظان الشبهات ـ أن ينأى بنفسه عن ذلك، وأن يسحب سلفا اسمه من التداول في جائزة هو منظمها ومعين لجنة تحكيمها، ورئيس المهرجان الذي يمنحها. وتنشر (الكلمة) في مكان آخر من هذا العدد بعض أصداء ما جرى في مهرجان الشعر ذاك. لكن ما يهمني هنا هو أن (الكلمة) ترسي بهذا الملف قيمها التي تدعو لاستقلال الأدب، والنأي به عن أدران المؤسسة التي تردت بممارساتها إلى حضيض غير مسبوق على كل الأصعدة: من الصعيد السياسي الذي تحالفت فيه مع العدو الصهيوني في عدوانه البربري على غزة، وحتى الصعيد الثقافي الذي كانت فضيحة الجائزة آخر مهازله.
استهلال ومقدمات شخصية
ومع أنني نادرا ما أكتب عن الشعر في هذه الأيام التي عزّ فيها الشعر وأصبح رديفا للعنقاء والخلّ الوفي، فإنني وجدت لزاما عليّ ـ وإخلاصا مني لمبادئ المجلة التي أطلقتها قبل عامين لتكون عملا مستقلا في وجه التردي والظلام، ومنبرا لحراس الكلمة، وليس لكلاب حراسة المؤسسة الفاقدة للشرعية والمصداقية معا ـ أن أشارك في هذا الملف لسببين أساسيين: أولهما أنني لم أقرأ مؤخرا شعرا يدفعني للكتابة عنه، اللهم إلا ديواني شاعرنا الكبير محمد عفيفي مطر الأخيرين (معلقة دخان القصيدة) و (المنمنات). وهما عملان يؤكدان أنه يقف بحق على رأس الشعرية المصرية الدفاقة كأعلى قامة شعرية مصرية في المشهد الشعري العربي. فهو بحق ـ وقد أوان الأوان لإصدار حكم قيمة بمناسبة انعقاد هذا المؤتمر ـ أكبر شعراء مصر المعاصرين. إذ واصل العطاء الشعري المتميز لنصف قرن من الزمان، أغنى فيه القصيدة العربية بزخم عارم عرمرم، وصوت متميز فريد، وأثرى القاموس الشعري العربي الحديث بمفردات تفوق في فرادتها وحوشيتها معا مفردات عشرات غيره، وغامر بالقصيدة العربية بنيويا ورؤيويا في بقاع لم يسمع فيها وقع لقدم عربية أو مصرية من قبل. فهو بحق نسيج وحده في المشهد الشعري العربي المعاصر الممتد جغرافيا من العراق حتى المغرب، وزمانيا من بدر شاكر السياب وحتى اليوم.
وثانيهما أن علاقتي بصديقي العزيز محمد عفيفي مطر تعود إلى سبعة وأربعين عاما خلت ـ يا الله!.. كل هذه السنين من الصفو والصداقة ورفقة القلم! فقد قرأته وكتبت عنه لأول مرة عام 1962 قبل أن التقي به، فقد كان عفيفي ولايزال حاضرا بنصه، وإن غاب كثيرا عنا بجسده، حيث يواصل الإنصات إلى «حديث الطمي» كثيرا في قريته رملة الإنجب بعد أن شح الطمي وغاض. كانت الكتابة يومها ـ ولاتزال ـ سبيلنا للمعرفة، وتوسيع أفق عالمنا الضيق ورؤيتنا. ولم أكن أعرف بعد، وأنا في ميعة الصبا، ما هو التناص، فانهلت بغشم شاب يافع وثقته المفرطة بمعرفته الناقصة على قصيدة جميلة له عن لوركا نشرها وقتها في مجلة (الآداب) البيروتية، أرد كل صورة فيها إلى أصولها عند لوركا في الكتاب اليتيم الذي كان متاحا لنا عنه من ترجمة على سعد البديعة. ومع ذلك فإننا عندما التقينا بعد هذا المقال بعدة شهور، كنست حرارة اللقاء أي أثر سلبي لهذا المقال الأول، وأصبحنا من يومها أصدقاء، بالمعني الحقيقي والجميل لهذه الكلمة. والواقع أنني حينما كتبت مقالي الأول ذاك عنه، لم أكن قد قرأت بعد كل أعمال لوركا، ولاشاهدت مسرحياته أكثر من مرة، ولا جبت المناطق المحيطة بغرناطة أبحث عن بيته، وعن المنطقة التي اغتالته فيها عصابات فرانكو وحرسه المدني، في أولى زياراتي ـ التي تعددت بعدها ـ لأسبانيا عام 1976، حينما كان شبح فرانكو الذي رحل لايزال مخيما على المكان. ولا اكتشفت فداحة الضوء في الساعة الخامسة مساء، حينما يبلغ أيقاع المعركة، في حلبة مصارعة الثيران، التي شاهدتها واستمتعت بها كثيرا، ذروته الواعدة بشفق الموت، أو زهوة الانتصار عليه. شفق الساعة الخامسة هذه لا ينفصل بأي حال عن كل ما يدور في حلبة المصارعة التي لم استطع أن أفهم شغف لوركا وهمنجواي من بعده بها حتى شاهدتها، واندمجت بتلقائية توشك أن تكون تنويمية في طقوسها. هذا كله فعلته بعد هذا المقال الشهير بأكثر من عشر سنوات، فأدركت كم كان عفيفي مبدعا ومجددا، وكم كنت غشيما!.
فقد كان عفيفي يمارس في تلك القصيدة التي عدت لها بعد زيارتي المغيرة لأسبانيا في السبعينات، رغم أنها لم ينشرها في أي من دواوينه، نوعا شيقا من الحوار الشعري العميق مع لوركا، لم نكن نعرف وقتها أن أبرز نقاد القرن العشرين قاطبة ـ ميخائيل باختين ـ قد سمى تلك الممارسة بالتناص، وجعلها ضمن أرقى استراتيجيات الكتابة الأدبية الحوارية، والحوارية عنده رديف الخلق والإبداع. هذا التناص بالمعنى الباختيني هو أحد أهم مفاتيح الكتابة الشعرية عند محمد عفيفي مطر. فمحمد عفيفي مطر، ومنذ ديوانه الأول «من مجمرة البدايات» أو «من دفتر الصمت» شاعر يحاور في متنه الشعري المفتوح على المتن الأنساني الممتد من فلسفة اليونان الأولى وماقبل السقراطيين، وحتى كبار شعراء العالم على اختلاف لغاتهم ورؤاهم في متونهم الشعرية المتباينة، ويلغ في الوقت نفسه في طمي قريته كما ولغ السياب في أرض جيكور، بحثا عن أساطيرها ورؤاها التي يرتقي بها إلى آفاق أساطير الآخرين، ويحاورهم بكشوفها البكر المضيئة. في هذا المتن الواسع العريض يحتل لوركا، فيديريكو جارثيا لوركا، مكانة متميزة منذ حواره القديم معه في مجمرة البدايات.
إشارات مقتربية
بل إن العودة إلى لوركا وإلى مرثيته الشهيرة في رثاء صديقه مصارع الثيران الأسباني إجناسيو شانثيز ميخياس، والتي استحوذت بمناخها السحري التعزيمي التنويمي الحزين على قطاع واسع من حساسية القرن العشرين (كانت آخر مرة استمعت إليها ترتل باللغة الأسبانية في فضاء المعرض الأستعادي الأخير لفرانسيس بيكون في لندن قبل شهور، وسط فضاء محاط بلوحاته الحوشية التي يتلوى فيه الإنسان ألما وامتعاضا، حيث يدير هو الآخر في عدد من تلك اللوحات تناصه الفريد معها) هي مفتاح النص الأول من النصين اللذين يشكلان (معلقة دخان القصيدة). هذا الديوان الصغير المترع بالكثافة والرؤى والدلالات، والذي أود أن أتوقف قليلا عنده في هذا المقال. فهو ديوان الحوار مع الشعر والشعراء بامتياز، وهو ديوان حواري بالمعنى الباختيني للمصطلح، لأنه يجسد لنا عبر أبياته، وصوره، ومفرداته تجليات مقارعة رؤى شاعر عربي لكبار شعراء الغرب بدءا من جذرهم الإغريقي الأوروبي الأول «هوميروس»، وليس انتهاءا بجذرهم الأمريكي الأول، «الشاعر الموشوم بالعشب» والت ويتمان. ولكن للوركا، هذا الغجري الطارلع من أرض الأندلس المشبع بروحها العربية في ثقاته التحتية العميقة، مكانة فريدة جعلته بحق مدخل شاعرنا إلى هذا الحوار الشعري/ الفكري/ الحضاري.
لكن قبل الشروع في التعامل مع نصيّ هذا الديوان، لابد من الإشارة إلى أن مياها كثيرة مرت تحت الجسر، منذ هذا المقال الأول الذي كتبته عن محمد عفيفي مطر وعلاقته بلوركا، والذي لم أفهم فيه دور التناص ولا أهميته. ومنذ تعرفي على كتابات باختين المغيرة، ونظريته المهمة في الحوارية وتعدد اللغات. وأن هذه المياه التي صبت فيها كتابات عدد من النقاد المهمين من ميشيل ريفاتير إلى هارولد بلوم إلى جوليا كريستيفا وصولا إلى جيرار جينيت، قد ساهمت في فض بعض مغاليق نصوص مطر لدي، والكشف عن كثافتها وخصوبتها وعمقها. فقد كشف لنا باختين أن طريق النص إلى معناه طريق محفوف بالجدل النصي والتفاعل التناصي، بتلك الحوارية الدائمة بين النصوص، حيث لا يمر هذا الطريق عبر الإحالات الي الواقع الذي صدر عنه فحسب، والذي تأتيه منه اللغة محملة اجتماعيا وتصوريا معا بتواريخها ومأثوراتها الشعبية ووطقوسها الجمعية ومعتقداتها التصورية، وإنما عبر طبقات من التفاعل مع النصوص الكامنة في وعي الكاتب ولاوعيه، وفي وعي النص ولاوعيه معا. نصوص محلية لاتكتسب اللغة زخمها بدونها، وأخرى أجنبية توسع أفق الكاتب، وترفد طاقاته الإبداعية. نصوص يتواءم معها ويتصادى، واخري يختلف معها ويصارعها ويطرح رؤاه في مواجتها.
في هذا الجدل الحواري، وهو الأمر المتعلق بـ(معلقة دخان القصيدة) هنا، ثمة ثلاثة عوامل أساسية: هي تعزيز الهامشي من خلال عمليات إزاحة وإحلال معقدة، والثورة ضد المكرس وزعزعة مقولاته بل السخرية منها، وقتل الأب بالمعنى النصي/ الفرويدي أيضا الذي خصص له هارولد بلوم كتابا كاملا(1). فكل كتابة ـ كما برهن ديريدا ـ هي كتابة فوق المحو، فوق الممحي أو المفقود أو الدارس الذي تبدد في طوايا الذاكرة البدئية، ولكنه لم يكف عن الفاعلية فيها. فهذا عنده هو قدر الكتابة منذ فقد موسى الألواح التي كتبها الرب، وأصبحت كل كتابة تالية هي محاولة محكوم عليها بالإخفاق سلفا، فهي محاولة بشرية، لاستعادة هذا النص المفقود، والمتعالي معا، فهو نص رباني. والكتابة فوق المحو التي فصلها ديريدا في أكثر من كتاب، هي أيضا التي حاول جيرار جينيت في كتابه الشهير (أطراس Palimpsestes) أن يفصلها ويتعرف على قوانين شعريتها وآلياتها. يوضح "جيرار جينيت" المقصود بالطرس فيقول بأنه "رقّ، صحيفة من جلد، يمحى ويكتب عليه نص آخر جديد على آثار كتابة قديمة لا يستطيع النص الجديد إخفاءها بصفة كاملة، بل تظل قابلة لتبينها وقراءتها تحته"(2).
لكن هذه الكتابة الممحية، ليست سهلة القراءة في نص عفيفي مطر كما هو الحال في نصوص أخرى لشعراء غيره. فعفيفي مطر ـ الذي تعلم الكتابة على الطرس، أي اللوح الإردوازي الذي كنا نكتب عليه في كتّاب القرية ـ يحرص على أن يمحو بدقة ما كان على اللوح قبل أن يكتب عليه. فهو شديد الدقة في كتابة مسوداته وتبييضها، لا بالمعنى الحرفي ـ حيث يفعل عفيفي ذلك بالفعل، وبطريقة لها طقوسها الخاصة من نوع الورق وقطعه وطريقة الكتابة عليه، وكأنها حفيد النسّاخين الكبار ـ ولكن بالمعنى الأعمق والذي تنطوي عليه حوارية العملية الإبداعية. لتصبح كتابته هي كتابة المحو بامتياز. لكننا ـ كما يقول ريفاتير(3) ـ لانستطيع قراءة النص الشعري قراءة أدبية خالصة دون التعرف على ما كان على الطرس قبل محوه والكتابة عليه. لأن الجدل بين الممحو والمكتوب هو الآلية الخالصة للقراءة الأدبية التي، وحدها في الواقع، هي ما ينتج الدلالة، أما القراءة السطرية المشتركة بين النصوص الأدبية وغير الأدبية، فإنها لا تنتج غير المعنى. فريفاتير يفرق بين الدلالة التي ينطوي عليها النص الشعري، وبين المعنى الذي تنتجه ما يدعوها بالقراءة السطرية، قراءة كل سطر للتعرف على معناه. ولقراءة الدلالة لابد من الوعي في حالتنا تلك (معلقة دخان القصيدة) لا بكلية القصيدة ووحدتها العضوية فحسب، وإنما بكلية الديوان ووحدته العضوية والرؤيوية الأعمق، الناتجة عن الجدل بين النصين اللذين يتكون منهما معا. فهذه الوحدة هي التي تصوغ أفق التوقعات وتتحكم في آليات توليد الدلالة معا.
والواقع أن دراسات جينيت التفصيلية في هذا المجال، وكشفه في (أطراس) عن أن كل نص مترع بمجموعة من النصوص اللحظية المتعالية Hypertexte والمهمة للتعرف على دلالاته بالمعنى الذي فصله ريفاتير، فالمصطلح Hypertexte مستمد من مصطلحات الكومبيوتر، ويشير إلى مجموع نصوص تظهر دفعة واحدة على الشاشة ولكنها صادرة عن فضاءات مختلفة تم اختزانها في الذاكرة، ويتم استدعاؤها بميكانيزمات برمجة خاصة. وحينما يستخدمه جينيت، فإن الذاكرة عنده هي أكثر تعقيدا من ذاكرة الكومبيوتر وبرامجة المتطورة، ليس لأنها الذاكرة البشرية التي لم نفك بعد شفرات تعقيداتها، ولكن لأنها ذاكرة مبدعة ومركبة معا، لاتختزن النصوص من أجل استدعائها فحسب، ولكنها تحيا بها وتصاغ عبرها، فهي ذاكرة مكونة باللغة وفيها. كما أن الفضاءات المختلفة التي تختزنها الذاكرة الإبداعية عنده لا تقتصر على النصي وحده، وإنما تتجاوزه إلى ما عداه من تواريخ وأحداث وتجارب وكل ما ينطوي عليه النص من طبقات دلالية متعددة. ويفضل جينيت هنا استخدام مصطلح الاستحضار بدلا من التناص كي لا يكتفي بالنصوص الفاعلة والغائبة والتي يتحاور معها النص، وإنما ينطوي أيضا على كل أشكال التلميحات والاستشهادات والاقتباسات المضمرة منها والمعلنة، وكل صيغ الحضور الفعلي لنص داخل نص آخر. ويرتبط النص بهذا المعنى بما أسماه نصه الموازي Paratexte ويمثله «العنوان، العنوان الداخلي، الديباجات، التذييلات، التنبيهات، التصدير، الحواشي الجانبية، الحواشي السفلية، الهوامش المذيلة للعمل، العبارة التوجيهية، الزخرفة، الأشرطة (تزيين يتخذ شكل حزام) الرسوم، نوع الغلاف، وأنواع أخرى من إشارات الملاحق، والمخطوطات الذاتية والغيرية، التي تزود النص بحواش مختلفة، وأحيانا بشرح رسمي وغير رسمي؛ بحيث إن القارئ الحصيف والأقل اضطرارا للتنقيب خارج النص، لا يستطيع دائما التصرف بالسهولة التي يتوخاها»(4).
النصوص الموازية وكثافتها
يحيط محمد عفيفي مطر معلقته/ ديوانه بمجموعة ثرية ومهمة من تلك النصوص الموازية، والعلامات الإضافية التي توجه المتلقي وترود استجاباته في القراءة. وإذا ما بدأنا من أول النصوص الموازية في (معلقة دخان القصيدة) وهو العنوان سنجد أنه يتكون ـ كعدد من عناوين مطر ـ من إضافة مركبة هذه المرة تضيف نكرتين متناقضتين إلى معرفة، فلاتزيدنا الإضافة معرفة بهما، ولكنها تردنا إلى رحاب التنكير من جديد. وتحيل أولى النكرتين «معلقة» على بدء القصيدة العربية الأول ـ المعلقة الجاهلية التي كانت تكرس مكانة الشاعر وتصبح فخر القبيلة، وعلامة وجودها وتميزها. هذه المفردة المثقلة بألق تلك التواريخ التي كان فيها للقصيدة ـ المضاف إليه ـ مكانها ومكانتها، تضاف إلى نكرة أخرى هي دخان/ هباء يناقض كل ما تستدعيه المفردة الأولى من صلابة وألق وتحقق. ويتعمق وعينا بهذا التناقض حينما نقرأ المقتطف الاستهلالي لقصيدة العنوان: «فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس هذا عذاب أليم»(سورة الدخان 10، 11) فنعرف أن دخان العنوان ليس أي دخان، يصدر عن أي نار، وإنما هو دخان القارعة. أيقيم عفيفي مطر هنا موازاة ـ عبر نصه الموازي ـ بين القصيدة والقارعة؟ أم أن لدخان القصيدة دلالات أخرى علينا استقراءها من خلال بقية النصوص الموازية من ناحية، وأهم من هذا كله من خلال التحليل النقدي لنصي الديوان، وللبنية التحتية التي تربطهما؟ لكن قبل الانصراف إلى بقية النصوص الموازية أو إلى التحليل النقدي لابد ألا يفوتنا هذا التجاور المهم بين الجاهلي «معلقة» والقرآني «سورة الدخان» بصورة تخلق رباطا عضويا بين الإثنين، وترهف وعينا بما بينهما من تناقض وتكامل في آن.
ومع أن الغلاف يكون عادة هو النص الموازي الثاني ـ بعد العنوان ـ فإنني لمعرفتي بطريقة صنع الأغلفة في مصر، وخاصة في الهيئة المصرية العامة للكتاب التي صدر عنها الديوان، سأتجاوز عنه بالرغم من أنه لحسن الحظ يتماشى مع بقية النصوص الموازية ولا يتناقض معها. لأن الكولاج الذي مزج بين صورة الشاعر، ورسما لفارس يوشك أن يكون محاربا من فرسان الحملة الصليبية، يتصادى مع عوالم الديوان ويمزج بين الشعر والحرب، وهما من ثيمات هذا الديوان الأساسية. وسأستعيض عنه بالإهداء الذي كتبه لي صديقي العزيز محمد عفيفي مطر وهو يهديني كتابه ذاك، في زيارتي الأخيرة للقاهرة، خاصة وأن الشخصي في هذا الإهداء قليل، وسأكتفي هنا بالجانب العام وحده. خاصة وأن مطر، على العكس من كثير من دواوينه، لم يهد هذا الديوان لأحد. وقد يكون في الجانب العام من إهدائه لي بعضا مما أراد أن يثبته في نصوصه الموازية. يقول مطر في إهدائه «هاتان معلقتان في كتاب واحد، لعلي كنت معلقا في مشنقة وأنا أكتبهما.. كان الدم ينز من جروح الروح». هذا إهداء مفتاح من مفاتيح القراءة وليس من نوع الإهداءات العاطفية العادية، أو حتى إهداءات تأكيد أواصر الصداقة والمشوار الأدبي المشترك، التي كثيرا ما يحرص عليها عدد من أبناء جيلي من الكتاب وهم يهدونني أعمالهم. فهذا الدم الذي ينز من جروح الروح، والتعليق على المشنقة لابد وأن يرودا القراءة ويكشفا عن أبعاد فيها قد يتجاوزها القارئ إذا ما لم يلتفت إلى أهمية الدخان ودلالاته. فالدم يوشك أن يكون نغمة القرار في هذا الديوان المترح بسفك الدماء الوحشي، والدعوات التي تعاقبت منذ فجر التاريخ للتحريض على المزيد منه. أما جروح الروح فهي في مستوى من مستويات التأويل هي تلك الجراح الموجعة والمصمية أحيانا والتي يعاني منها الشاعر كلما تأمل مسيرة الشعر الإنساني، وتناقضاته كلما اتصل الأمر بنا. وهناك فضلا عن هذه النصوص الموازية الكثير من الإشارات والهوامش والعناوين الفرعية لإحدى قصيدتي الديوان، والتي سنتناولها في تحليلنا للمعلقتين المكتوبتين بدم ينز من جروح الروح.
يبدأ الديوان بـ«معلقة متادور الأبد»(5). والمتادور هو مصارع الثيران كما يقول لنا الهامش الأول، ولكن هذا العنوان يليه عنوان فرعي، أو بالأحرى عنوانان: أولهما هو «في مئوية لوركا» يضع لها الشاعر هامشا لايشير فيه إلى أن كتابتها تمت بمناسبة مرور قرن على ميلاد الشاعر الأسباني الكبير الذي اغتالته قوى الظلام وهو في شرخ الشباب، وإنما يشير إلى قصيدة أساسية من أشهر قصائد فيديريكو غارسيا لوركا، وهي قصيدته الشهيرة التي يرثي فيها صديقه مصارع الثيران ميخياس، وهي بعنوان (مرثية من أجل إجناسيو سانشيز ميخياس Lament for Ignacio Sanchez Mejias)، الذي سقط صريعا في الساعة الخامسة، وهي اللازمة التي تتكرر في تلك القصيدة كنغمة القرار، والتي يقول لنا الشاعر أنها تمثل عنده «وقوف ساعة الكون عند الخامسة، ضربات الموعد المقطوع لتكرار سقوط المصارع الذي يلاحقه مصرعه منذ أول الوجود الإنساني في هذه المنطقة من العالم، وإلى الأبد». فقد اختار مطر أن يلفت نظر قارئه إلى إيقاف لوركا لساعة الزمن الكوني عند لحظة سقوط صديقه الحميم في صراعه مع الثور/ الطبيعة/ اللاعقل الجامح/ القوة الغاشمة. أما العنوان الفرعي الثاني «وحوليات الإبادة الجماعية» فإنه يردنا إلى جنس أدبي آخر غير الشعر الذي استدعته الإشارة إلى مئوية لوركا، ألا وهو جنس الحوليات التاريخية، ولكنها ليست هنا إي حوليات تاريخية، وإنما حوليات الإبادات الجماعية التي توشك أن تكون الوجه الآخر لصعود الغرب في الدورة الحضارية الراهنة، والتي بدأت بأكبر إبادة جماعية في التاريخ، وهي إبادة عشرات الملايين من سكان القارات الثلاث: أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية واستراليا، الأصليين من هنود حمر وغيرهم من عشرات الأجناس والحضارات، واستمرت إلى الأبادات العرقية وعمليات التطهير العرقي المختلفة التي لم تنته بعد، ولازلنا نعاني في منطقتنا من أحدث فصولها، وهو الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي يسعى لانتزاع فلسطين من أهلها بنفس المنطق القديم الذي انترعت به تلك القارات الثلاث من أهلها. وسوف نكتشف حينما نقرأ قصيدتي الديوان، أن الموت الفردي/ موت الصديق في لعبة الصراع مع الطبيعة/ الذي تناوله لوركا، يقابله عند عفيفي مطر تواريخ متراكبة من الموت الجماعي، أو من حوليات الإبادة الجماعية التي تعرض لها المسلمون، ومازالوا يتعرضون في شتى بقاع العالم في اللحظة التي يكتب فيها ديوانه ويسعى فيها لإرهاف ذاكرة قارئه التاريخية عبره.
تعالق النصوص والمعارضات كمفتاح للدلالة
وتردنا الإشارة إلى مرثية لوركا، أو هذا النص الموازي إلى جانب مهم من هذه النصوص اللحظية الفاعلة في (معلقة دخان القصيدة) وهو ما يتعلق بما يدعوه جينيت ب Hypotexte أي النص المتفرع أو المصاحب الذي لا يكتسب فيه النص (ب) دلالاته المرجوة بدون الوعي بالنص (أ) بمعنى أننا لايمكن أن نتعرف على الدلالات الأدبية والفكرية والشعرية لرواية (عوليس) لجيمس جويس دون الوعي بنص الأوديسة الهوميري، وما دار فيه. صحيح أننا يمكن أن نقرأ الرواية وأن نصل إلى المعنى بدون تلك المعرفة، بل ويمكن أن نستمتع بالقصة المروية فيها كقصة أيرلندية دبلنية خالصة، ولكننا لن نصل إلى الدلالة الأدبية الأعمق والتي تكسب هذا العمل أهميته بدون معرفة بالنص (أ). لأن هذا التعالق النصي يظل فاعلا في النص (ب). وهذا التعالق أقرب ما يكون إلى ما يعرف في النقد العربي القديم بالمعارضات، التي لايكتسب فيها النص كل دلالاته الأدبية دون الوعي بما في النص الذي يعارضه. فأي قراءة لاتعي ما يدور في قصيدة لوركا تلك قراءة ناقصة يفوتها الكثير مما تنطوي عليه «معلقة ماتدور الأبد» من دلالات.
فالنص الأول في هذا الديوان المهم «معلقة ماتادور الأبد: في مئوية لوركا وحوليات الإبادة الجماعية» ينطلق من تلك المرثية العلامة ليكتب مرثيته الأعمق التي تشخب دما لتردي الإنسان وهوانه في هذا الزمن الردئ، وعجزه المزري أمام الموت الذي ينتشر مع الهواء في كل موقع. وهو عجز يناظره عجز الشاعر أمام الشعر ودخان القصيدة (ايها المنشد/ هذا قسم سهل/ ونذر مستحيل) فبين سهولة القسم واستحالة الوفاء بالنذر تكمن القصيدة، ويسكن التوتر، وبين الرغبة والفعل يسقط الظل. وبين روابي الرغبة وسفوح الفعل تستمر القصيدة في مراوحاتها المحسوبة بين السردي والتوقيعي، وهي ليست مراوحة بين إيقاعين ونغمتين، وإنما بين زمنين: زمن سرمدي أبدي سادر، وزمن تعاقبي كرونومتري ردئ، بالمعنى الذي حدده والتر بنيامين في تفرقته المضيئة بين زمنين ورؤيتين. فالثور السومري السرمدي الأبدي الذي يتبدى لعفيفي مطر خلف ثور ميخياس الدنيوي الزمني سرعان ما يجلب للقصيدة آفاقا تناصية أخرى تأخذها إلى ملحمة جلجامش وبحثه عن سر الأبدية، حيث تدخل عشتار وكتاباتها المسمارية إلى فضاء القصيدة وترتفع بها إلى أفق الأسطورة، لتنعقد أواصر العلاقة الداخلية العميقة بين هذه المعلقة الأولى والمعلقة الثانية التي تليها، في نوع من الوحدة العضوية التي تتميز بها أعمال محمد عفيفي مطر التي طرحت من البداية مفهوم الديوان العضوي في مقابل مفهوم المجموعة الشعرية السائد قبله.
لكن دعنا نتعرف بسرعة على النص (أ) نص لوركا الذي تغيب عنا بدونه الكثير من دلالات النص (ب) نص محمد عفيفي مطر. تتكون قصيدة لوركا الشهيرة(6)، تلك من من أربعة أقسام تحمل العناوين التالية: «الحصاد والموت» و «الدم المسفوك» و«الجسد المسجى» و «الروح الغائبة»، وتتكون قصيدة مطر هي الأخرى من أربعة أقسام مرقمة، بدلا من استراتيجية عنونة الأقسام التي لجأ إليها لوركا بتقديم نصوص موازية ومفتاحية تساهم في بلورة دلالات قصيدته. فالقسم الأول من هذه القصيدة يحمل عنوانا تناقضيا من كلمتين (Cogida and death) وجدت أن أكثر من ترجمة انجليزية أبقت على أولاهما في اللغة الأسبانية ولم تترجمها للانجليزية، كي لاتفقد تناقضيتها الشعرية ودلالاتها المتعارضة. لأن الكلمة الأولى، والتي تعني الحصاد وكل ما ينطوى عليه الحصاد من كرنفالية، في معناها الأولي والمهم، تعني أيضا في اللغة الأسبانية، وفي مصطلحات مصارعة الثيران الخاصة، لحظة الموت في حلبة مصارعة الثيران، لحظة حصد الروح: قتل الميتادور للثور، أو قتل الثور للميتادور. وهي لحظة بهجة احتفالية في الحالة الأولى، خاصة إذا ما كان قتل الثور بارعا ونظيفا وفق قواعد المصارعة ودون ألم للثور إذا ما استطاع المصارع أن يرشق سيفه بمهارة ويتجه به فورا للقلب، فيخر الثور صريعا في لحظة واحدة ودون ألم. حيث شاهدت كيف تنفجر الحلبة بالنشوة والحبور حينما يحدث هذا، وهو عادة أمر نادر الحدوث، قد تتم المباراة ـ التي تستغرق العصرية كلها ـ دون أن يحدث، وقد يحدث مرة واحدة في العرض الذي تتم فيه مصارعة أربعة أو خمسة ثيران، كل على التوالي. وهي أيضا لحظة حزن وغم وصمت رازح ثقيل إذا ما قتل الثور الميتادور، وضرج مصارع الثيران في دمه، وانطلق يجري في الساحة دون نظام. ساعتها يخيم الصمت الذي يدفع دويه الثور نفسه إلى السكون.
وحتى ينقل لوركا فداحة هذا الحزن وثقله الرازح الكئيب لجأ إلى تقنية التكرار الإيقاعي للساعة الخامسة عصرا، الخامسة تماما، والذي يوشك أن يستولي وحده على نصف أبيات هذا القسم الأول من القصيدة، حتى ليكاد يصبغ كل شيء بلون الشفق الدامي. وهو تكرار استطاع حقا أن يجسد فداحة الحزن وأن يقيمها أمامنا حتى لنستطيع لمسها والإمساك بثقلها الفادح الحزين. يفتتح لوركا قصيدته:
في الخامسة عصرا
كانت الساعة الخامسة تماما بعد العصر
في الساعة الخامسة تماما
أحضر صبي ملاءة بيضاء
في الخامسة عصرا
كان عقد من أزهار الليمون قد جهز
في الخامسة تماما بعد العصر
أما الباقي فكان الموت، والموت وحده.
وتمضي القصيدة في قسمها الأول ذاك وقد جعلت الخامسة عصرا، الخامسة تماما بعد العصر نغمة قرارها، وأحالتها إلى لحظة كونية تتضافر فيها مجموعات الصمت والروائح والدخان وكل الموجودات من نبات وهواء وحيوان وبشر ونغمات في رسم تفاصيلها، وفي تجسييد اللحظة التي انطلق فيها الثور ليغرز قرنه في جسد المصارع فيرديه قتيلا، لحظة الحصاد التي قلب فيها الثور اللعبة رأسا على عقب. وقد غصت حلبة المصارع برائحة اليود، وأطلق الموت بذوره في الجراح، وجاء الكفن على عجلات، وتحلق الصمت في مجموعات، وأقبل عرق الثلج الذي لانعرف من القصيدة إذا ما كان مطرا، أم أنه ثلج الموت وبرودته القاسية. لأن الصور التي تتابع كلها، تفصلها نغمة قرار الخامسة عصرا، هي صور الموت في شتى تجلياته وفي مختلف إيحاءاته. وما أن ننتقل إلى القسم الثاني «الدم المراق» حتى يتغير الإيقاع، وكأن الشاعر يرفض الموت وهو يخلق ترديدة أخرى «لن أراه»:
لن أراه
أطلب من القمر أن يأتي
لأنني لا أريد أن أري الدم
دم اغناسيو المراق على الرمل
لن أراه
وتتراكب في هذا المقطع الصور الغجرية، صور لوركا المتوهجة شعرا، عن القمر المفتوح على مصراعيه، وخيول من السحب الساكنة، وذكريات مضمخة بعطر الياسمين، وبياض هو بياض الموت لابياض الياسمين، وتأتي أبقار العالم القديم لتلعق الدم المراق على الرمل، وتحيل الموت إلى حجر، في نوع من استعادة الثيران الإلاهية في الأساطير القديمة، وهي استعادة ستتكرر أكثر من مرة في هذا المقطع. ويدخل اجناسيو القصيدة وقد حمل موته على كتفيه ساعيا إلى الفجر، لكن الأفق انسد دون فجره المرتجى، باحثا عن جسده الجميل فلم يجد غير دمه، باحثا عن ثقته بنفسه فلم يجد سوى حلمه المرتبك. لذلك يصر الشاعر «لن أراه»، لن يرى الجسد المسجى لأنه لم يعرفه إلا جسدا مترعا بالحياة لم يكن ثمة أمير في أشبيلية يقارن به، ولم يكن ثمة سيف يعادل سيفه، ولا قلبا في نقاء قلبه وصدقه، ولا ابتسامة مترعة بالذكاء والتوقد مثل ابتسامته. هكذا يحيل لوركا الدم المراق إلى حياة تنهض في وجه الموت المرفوض. لكن «الجسد المسجى» في كفنه في القسم الثالث من القصيدة يطرح الواقع الأليم في مواجهة هذا الرفض، ويجسد الموت في صوره التي تعمر هذا القسم بكل ثقلها وبرودتها معا. وبالرغم من امتلاء هذا القسم بطقوس مابعد الموت، وبتجليات الحزن الجمعي التي تسعى لتخفيف وطأته على البشر، فإن موت إجناسيو الذي يطرح الشاعر جسده المسجى في هذا القسم في مقابل جسده المترع بالحياة في القسم السابق سرعان ما يستحيل إلى جزء من عناصر الطبيعة، ويمتزج بثقل الدخان المجمد، ويموت كما يموت البحر. فإذا وصلنا إلى القسم الأخير من القصيدة «غياب الروح» سنجده يعود لتكرارته الإيقاعية التي تجسد فداحة الموت، والتي تكشف لنا عن الكثير من رؤى لوركا للموت وموقف الشعر والشاعر منه، لذلك سأترجم هذا المقطع كاملا هنا:
إن الثور لا يعرفك، ولا تعرفك شجرة التين
ولا الخيول ولا النمل الذي يجوس في بيتك
لا يعرفك الطفل ولا العصر يعرفك
لأنك مت إلى الأبد
لايعرفك كاهل الحجر،
ولا يعرفك الحرير الأسود، حيث تبددت
كما أن ذكراك الصامتة لاتعرفك
لأنك مت إلى الأبد
وسيأتي الخريف بحلزوناته البيضاء الصغيرة
وبعناقيد عنبة المضببة وتلاله المتكأكئة
ولكن لن ينظر أحد في عينيك
لأنك مت إلى الأبد
لأنك مت إلى الأبد
ككل الموتى في هذه الأرض
ككل الموتي الذين نسيوا
ككومة من الكلاب النافقة
لا أحد يعرفك لا
ولكني أغني من أجلك
أغني فأخلد شخصك وخصالك للأبد
وفرادة نضجك وفهمك الحصيف
لشهيتك للموت، وللطعم الذي يبقى في فمه
وللأسف على جسارتك ومرحك الذي مضى
سميضي وقت طويل كي يولد، إن ولد،
أندلسي حقيقي مثلك، مترع بالمغامرة
إنني أغني بطلاقة، ولكن بكلمات ناعبة
وأنا أتذكر نسيما حزينا يتخلل شجرات الزيتون.
هذا إذن هو النص الغائب والفاعل في النص الأول في الديوان، وهو نص أثر في عدد من أبناء جيلي تأثيرا عميقا، وكشف لنا عن نوع جديد من الشعر وعن بنية جديدة للقصيدة. تنطلق من حدث عادي، بل شخصي، بسيط لتحيله بقدرة الشعر وجبروته إلى موضوع إنساني عام. وإنني لأذكر بجلاء، رغم انصرام السنين، أنني كنت أقرأ هذا النص مع صديقي الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة ـ في غرفة واسعة، كان يسكنها في القلعة، لازلت سعتها وارتفاع سقفها، ونوعية الضوء الشفيف فيها، وحزن إبي سنة وإخفاقاته العاطفية، واضحة في ذاكرتي حتى اليوم ـ وجاء أخوه الأكبر لزيارته ونحن نقرأ، فهاله تأثير النص علينا كلينا، وقال لنا ـ في نوع من التقريع لأخيه أساسا ـ أتمنى لو كنتما تقرآن القرآن بهذا الحب والخشوع فسخرنا منه. أذكر هذه الواقعة كي يدرك القارئ مدى تأثير هذه القصيدة على جيلنا، وأهمية عودة عفيفي مطر إليها بعد أكثر من أربعين عاما من قراءته الأولى لها.
معلقة ماتادور الأبد
أنتقل الآن إلى النص الأول في ديوان مطر، والذي يعلن من البداية أنه مثله نص عن الموت، ليس عن الموت الفردي الشخصي الذي تناوله لوركا، وإنما عن موت أفدح يشير إليه العنوان الجانبي الثاني: «حوليات الإبادة الجماعية»، إنه موت شعب يطرحه مطر في مواجهة موت الفرد في قصيدة لوركا. وتتكون معلقة مطر، مثلها في ذلك مثل مرثية لوركا، من أربعة أقسام كما ذكرت. ومن البداية سنجد أن معارضة مطر لقصيدة لوركا تبدأ من اللحظة الأولى، ففي مقابل نص لوركا بوثوقيته الواقعية الصارمة، ولغته التي توشك أن تكون تقريرية، يطرح مطر لغة استفهامية مترعة بالشكوك والتساؤلات. إذ تبدأ المعلقة/ القصيدة:
لم تكن تعرف ما يخفي زجاج الأفق الشفاف
لم تعرف لهاث البرق
هل كانت غوايات الفضا المفتوح
تغويه فيلهو؟
أم شهيق الرعد بالنار نصال
كسرتها في رخام الليل
روح الغابرين!
أيها المنشد هل اقسمت ألا تنحني إلا
لعشب الأرض أو قطر الندى؟
هل نذرك المعقود أن تجدل من
هذا الرخام
روحه الحرة والماء؟ وأن
تقتاد نوق البرق والغيم
بحبل من تفاعيلك(7)؟ (ص 7/ 8).
وتسيطر هذه الصيغ الاستفهامية على القسم الأول من القصيدة، ولكنها تنفتح فيه في الوقت نفسه على الساعة الخامسة التي توشك أن تكون عنوانا ثانيا لقصيدة لوركا(8). ولكن بعد أن تفتحها على زمن كوني آخر من صنع محمد عفيفي مطر ومن صياغته. فالساعة الخامسة تتكرر في هذا القسم من قصيدة مطر، ولكن بدلالات جديدة مغايرة تخدم معلقته وتجعلها ـ كما ذكرت ـ معارضة لقصيدة لوركا. فقصيدة مطر تطمح إلى أن تفتح ساحة مصارعة الثيران على الكون بأكمله، وعلى تلك المنطقة الجغرافية التي تمتد من الأندلس هبوطا إلى العراق، شاملة كل عالمنا العربي، وصعودا إلى تواريخ نهب أمريكا اللاتينية. تأمل بعض هذه الإحالات إلى الساعة الخامسة.
«أم هو الكون يسيل؟
يتمطى في هيولاه دويّ كدويّ العصف
قبل الخامسة
ساعة الكون على الحافة» (ص 10).
فعفيفي مطر يحضر قارئه لما قبل الخامسة، ويكرر ذلك التحضير أكثر من مرة في هذا القسم من القصيدة:
«البرق لايكشف إلا رجفة المعدن في
أوردة الصمت الذي يسبق
رعد الخامسة» (ص 11).
ومرة أخرى
«عجين برزخ ما بين ماءين
وطين ذاهل في أبد القتل
ومكنون على هاوية النطق قبيل الخامسة» (ص 11).
ثم تأتي الخامسة:
«إنه الغمر ومكنون الدم المعقود في
عاصفة الظلمة
دقت ساعة الكون تمام الخامسة
وردة هائلة من شفرات الصوت والأصداء
والمعدن، ثورا بامتداد الأفق والريح
بقرنيه الهلاليين محراثان في
عمق الفضا يحتفران الملكوت
سككا للكوكب السيار والنجم
وروح الفجر في ألوانه الأولى
وأخدودا لمن في النعش أو من يحملون النعش
مسرى للتفاعيل إذا لج غناء أو بكاء
إنه الثور الإلهي الذي سدد عينيه إلى
كل وميض من دم أو شفق أو وردة
كل الحضارات غوايات حرير أرجوان
والتواريخ نجيع نابض في كرف قرنيه
وقد دقت تمام الخامسة
أنها من أزل البدء وحتى أبد القتل تدق الخامسة» (ص 12/ 13).
هكذا يوسس مطر للمغايرة بين ساعة لوركا التي دقت تمام الخامسة لتنعي صديقه وترثيه، وبين ساعة معلقته التي تنفتح فيها الخامسة على حلبة كونية واسعة يلعب فيها الغمر، والدم المعقود، وعاصفة الظلمة/ أم تراها عاصفة الصحراء، وتلك الوردة الهائلة من شفرات الصوت والمعدن أدوارا مغايرة تفتح القصيدة أيضا على الثور الإلهي الذي سدد عينيه إلى كل وميض من دم، وإلى كل الحضارات غوايات تمتد من أزل البدء عنده وحتى أبد القتل في تمام الخامسة أيضا! لذلك كان حتميا أن «يخرج القرد» بعد تأسيس مغايرة الخامسة فتندلع الأسئلة من جديد:
«هل صخب البحر البعيد
صخب ينبع من أقمطة النسيان ـ في أعماقه
موج نداءات؟
أم الخطوة نحو البحر ميراث جديد
لدم يقطر حتى أبد القتل؟
أم البحر ثواني الساعة الخامسة امتدت
من الكون لكي تفتح في أحشائه ذاكرة العصف؟!
وهل وزن النشيد
من تفاعيل الصدى والموج؟» (ص 16).
وهي أسئلة يتوجه بها في هذه اللحظة من القصيدة للوركا:
«فاسمع أيها المنشد
صقر الموت قد حط على أغصان معناك
وثور بامتداد الريح
والوقت تمام الخامسة» (ص 16).
فمطر يفتح البحر في المقطع التالي من القصيدة على تواريخ أسبانية خالصة حافلة بالدم والمحارق، تواريخ اغتصاب أمريكا اللاتينية من المغامرين الأسبان والقراصنة، وصرعى الأهواء الدينية، حيث كان الكتاب المقدس يستخدم وازعا للغزو والقتل باسم الرب، وسرقة كنوز الأسلاب من إبداعات الذهب والفضة باسمه، وألهيات المعدن النفيس والخسيس، وكانت كلماته هي التي تحدو مراكب الطامعين والشاربين. بالصورة التي يطرح لنا معها مطر حركة البحر ـ في نوع من إضفاء بعد كوني على مجازر الإبادة الجماعية لشعوب الأنكا والأزتك وغيرها من حضارات أمريكا الجنوبية الدارسة، أو بالأحرى المبادة، باعتبارها نوعا من التنهد الكوني إلتياعا على ما جرى:
«وما المد والجزر إلا شهيق الامتلاء بالإيقاعات
وزفير الأحلام المكتمّة في خزائن الرصاص
وأوزان العروض المجهولة
في جوف الظلمة أسواق للموت معقودة» (ص 18).
لذلك كان طبيعيا أن أن يتوعد مطر كل الملوك والأباطرة والحشود المحشوردة بدق الساعة الخامسة، وأن ينذرهم بأن يحدقوا في الظلام ويصيخوا السمع (ص 19)، ولكنه ينهي هذا المقطع بالتضافر بين صورتين داميتين: أولاهما لامرأة على الشواطئ شاردة تجسد كل نساء العرب لحظة سقوط الأندلس، بل أحسبها تردنا إلى صيحة أم أبي عبدالله الصغير «أبك كالنساء، على ملك لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال»، وثانيتهما هي لحظة قتل الثور: ثور لوركا هذه المرة لصيقه العزيز إجناسيو سانشيز ميخياس!
«أمرأة على الشواطئ شاردة
لاتسمع من كل شيء إلا صيحة الوداع الظافرة
وتنهدات السقوط بين أحضان
العودة المؤجلة
ولاتبتل أصداف الأصابع العارية إلا
برجفة الحنين
إنها الساعة الخامسة في دم العناصر كلها
تحل الإنشوطة ليستدير الثور ويسدد عينيه
وقرنيه إلى ومضة الدم وأرجوان القصيدة
تماما في الخامسة
في الخامسة تماما» (ص 20).
هكذا يختم مطر القسم الأول من القصيدة وقد فتح الموت على آفاق وتواريخ متعددة، وجعل الساعة الخامسة هي ساعة الموت بمعناه المطلق، وقد أكسبها بعدا كونيا يتمد فيه الثور بامتداد الأفق والريح جاعلا إياها ساعة الموت من أزل البدء وحتى أبد القتل الذي يأتي على الحيوات والحضارات والتواريخ والمشاريع الفردية والجمعية والسياسية والإبداعية معا حيث يسدد الثور قرنية إلى ومضة الدم وأرجوان القصيدة. ثم ينتقل في القسم الثاني إلى جغرافيا جديدة، إلى ما وراء الأفق حيث يعلو القمر في سماوات الصحارى:
«من وراء الأفق الشفاف يعلو قمر الرمل نديا
يتنزّى خضرة الطحلب
يلتف على الجبهة لبلاب غيوم
ثم يعلو في سماوات الصحارى
فيشف النهر عن نهر دم كنت أراه
منذ ما فتحت عيني
ولم أبصر سواه» (ص 21).
فقمر عفيفي مطر الندي الذي يسطع فوق الرمل نديا، ثم يعلو في سماوات الصحاري، يشف أيضا عن نهر دم يمتد منذ أزمنة حمر الوحش وأطلاء الغزالات في العصر الجاهلي، بل ومن قبل العصر الجاهلي في الكتابات المسمارية على الألواح البابلية والسومرية القديمة، وينتشر فوق الأهوار العامرة بقصب المستنقعات المنتشي بالريح، ولا ينتهي عند زهرة التي تعقدها الحية الفرعونية القديمة في التاج، بل ويشرق على قوافل التجار ويحدو كما يقول لنا رجزهم في إبحارهم إلى أرض البخور والبهارات من القرفة والفلفل والصندل ومسرى قوافلهم في طريق الحرير والديباج وملمس الكشمير والمخمل. فالموت يعبق من كل شيء، ويمتد من مصر الفرعونية وصور التاج واللوتس وحتى قصب الأوار في جنوب العراق وثيران نينوى المجنحة في شماله. فمفردات عفيفي مطر هنا مغايرة كلية لمفردات لوركا التي رأيناه يحمّل بها الموت، لأنها مفردات طالعة من حضارات المنطقة العربية وتواريخها العابقة باللبان والبخور. إنه الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات الذي ينقض على الإنسان في لحظات تحققه، وحيثما لايتوقع. فقد كان الموت ـ إبان كتابة القصيدة فيما يبدو ـ مسيطرا على الشاعر وفق نبوءة أبيه بأنهم من سلالة تموت في الثامنة والستين! وكأنه يدفع عنه بكتابة هذه القصيدة الموت، ويكشف أنه الوجه الآخر للحياة. لأنه في صراعه الجدلي مع الحياة خلق أيضا إبداعاتها التي تجلت في عمود الشعر، وتقعيد الخليل له بدقة رياضية متناهية تستعيد بها القصيدة صيغها الاستفهامية، ولكن الاستفهام فيها أقرب إلى الاستفهام الاستنكاري منه إلى الاستفهام التقليدي المترع بالشكوك:
«أموت خالق هذى الرياضيات
أم هذي اكتمالات عمود الشعر؟
لم أبصر سواه
خالعا شالا من الذكر على هام القباب
عاقدا من بردة الرحمة بالخلق مناديل النبوءات
على مئذنة الكون
........
راكضا عبر مفازات التواشيح
وأزجال ابن قزمان
وطعم الكتب المحروقة الزخرف والحكمةلم أبصر سواه
........
وردة محروقة تسقط من عروة نهدين
ومن ظل ضفيرة
وهي فوق العدوة الأخرى من البحر شرود ذاهل
حيث تجر الذيل يرفضّ دم الرمل
ولم أبصر سواه
لا، ولم أبصر سواه» (ص 26 ـ 28).
هكذا ينتهي القسم الثاني من المعلقة، والذي يقابل قسم «الدم المراق» في قصيدة لوركا لا برفض الموت وإشاحة الوجه عنه «لن أراه» بل بالكشف عن جدلية الموت الحياة، وهي تسري في كل تفاصيل الحضارة العربية بتواريخها القديمة وتجلياتها العربية عبر العصور. كما أن هذا القسم من القصيدة يطرح أمرأته أيضا، وهي فوق العدوة الأخرى من البحر ترقب ارفضاض الدم من رمل الصحراء. لذلك كان طبيعيا أن يردنا القسم الثالث إلا بلاد الرافدين التي علمت الإنسان الكتابة وتواريخها العريقة مع الكتابة المسمارية ورقم الطين. حيث ينقلنا إلى زمن مغاير، تطرح القصيدة في وجهه أسئلتها المدببة:
«فمن جاء بكم في زمن يشوى به الطابوق
والفخار من لحم شعوب وبلاد!
أم رأيتم فانسللتم أمما من غابر الموت؟
وهل عشبة جلجامش من بين الهدايا؟
أم هي الأفعى التي تلهث ما بين
شقوق الذاكرة!؟» (ص 30).
في هذا القسم الثالث يطرح الشاعر «جسد العراق المسجى» والمضرج بالدم وعقوبات الحصار والدمار ـ قبل العدوان الأمريكي البشع على العراق وبعده، فهذا بعض من استشرافات القصيدة التنبوئية(9) ـ في مواجهة جسد مصارع الثيران المسجى عند لوركا. ولا ينسى الشاعر المرأة العربية، العراقية هذه المرة، التي تتردد في تجلياتها المختلفة في كل أقسام القصيدة حيث يطرحها في بداية القسم الثالث:
«مرأة شاردة بين الزقزرات، من
موطئ خفيها يطول النخل
من فخار نهديها يسيل الدبس والعنبر
من هفهفة المرط على الرمل ينابيع دم تشخب
والشاعر يجري حاملا جثته بين ذراعيه
وشال الموت نضّاح على أكتافه
نوء من الصلب المذاب
ترتخي احشاؤه فوق عواليه
فتنشق السماوات
وتنشق بطون الأمهات
علق الأرحام يعدو
حبله السري ملتف على أعناقه في
كرنفال الموت» (ص 31).
هذا الشاعر الذي يحمل جثته بين ذراعيه قد يكون لوركا وقد يكون شاعرنا في آن، أو هو جماعهما معا. يصحبه الشاعر ليدور به ويشهده على كل تجليات الموت في عالمنا العربي، بعدما انقض عليه الوحش الأمريكي:
«فاتحا أشداقه في لحظة الخلق الرجيم
يخرج الماموث قطعانا من الفولاذ
والأبراج تعلو تحرث الأجواء بالليزر
نفاطون من آلهة الموت
تعاوي الوحش بالثأر الكظيم
إنه البحر..» (ص 32).
ولكنه هذه المرة ليس نفس البحر الذي انطلقت منه السفن الأسبانية لتغتصب أمريكا الجنوبية، وتنتهك حضاراتها العريقة، وترتكب أكبر محرقة إبادة جماعية في التاريخ، أم تراه نفس البحر وإن اختلفت الجغرافيا؟ نفس الوحش، ولكنه ينقض هذه المرة «وشال الموت نضّاح على أكتافه/ من قصب الأهوار حتى نينوى المرمر/ يعدو في سهوب القتل» ولا لاجم لجموحاته الهمجية في هذا الزمن العربي الردئ الذي انصاعت فيه جل الأنظمة العربية للمخططات الأمريكية والصهيونية البشعة.
فإذا انتقلنا إلى القسم الرابع والأخير للقصيدة والمناظر لقسم «الروح الغائبة» عند لوركا حتى تتجلى معارضة القصيدة المطرية في أوضح صورها. حيث يفتتح القسم الذي استحالت فيه كل الصيغ الاستفهامية إلى صيغ من الاستفهام الاستنكاري، بتلك المناشدة:
«قل لنا ياخازن الأنفس والمال
ـ وقد تم تمام القافلة ـ
بعد أن تستقرئ الأرض شطوطا وأقاليم
أيبقى من سبيل لم
تغلّقه علينا السابلة؟
كم دفنا من حصاد القتل(10)؟
كم أبقت لنا الزلزلة الكبري من الأحياء؟
أو أبقت لنا من جمرة الحلم
ومن برد اليقين؟!
ما الذي يحمله الشاعر من أزمنة القتل الجماعي
وما من مطر أو نهر يغسل ملح
الموت عن عينيه أو قيثارة؟» (ص 34).
فالشاعر شديد الوعي بعرضية هذا النوع من الموت وموقوتيته، برغم وعيه باستحكام الحلقة من حوله، ومن حول عالمه العربي الوالغ في التردي والهوان. فطبيعة الصيغة اللغوية باستفهامها الاستنكاري هي في المحل الأول طبيعة رافضة. تستنكف الاستسلام لآليات هذا التردي، وتستعيد بذلك المرأة، في تجل جديد من تجلياتها، فهي هنا المرأة العربية الأبدية التي تختصر حضارات المنطقة العربية جميعها من زمن المرمر والرخام المصري والسومري إلى زمن الرمل والصحراء العربي جاهليا كان أو إسلاميا فيناديها:
يا أمرأة المرمر والرمل اكشفي وجه الغلام
أنضجت كينته ثم شوت صلصاله الحرب
في فخاره ينسل رمل الروح
يستل الغوايات وأشباه التعاليم وأشباه الكلام» (ص 35).
يستلها جميعها لصالح تلك اللغة الأبدية، جوهر الروح العربية الحاضرة دوما، على عكس الروح الغائبة عند لوركا، وهي اللغة العربية الفصحى، لغة القرأن، ولغة الشاعر التي يغنيها بشعره، فالشاعر يخدم اللغة وهو يستخدمها على العكس من كل مسمتخدمي اللغة ومستعمليها. لذلك فإنه يتوجه إلى تلك المرأة العربية الأبدية ليطرح بأغنيته لها الشعر في مواجهة الموت والدمار، وليؤكد أن الروح حاضرة وباقية، روح الشعر وروح اللغة معا:
«أغنيك، أغني وجهك المكحول بالقشمش والتمر
أغني طعمك الحريف في الرشّاد والسمّاق
في مستنقعات القصب المحروق قطعان
وعول وفهود من مسامير الكتابات
وفجر من دم الفصحى
وفصحى لا تموت» (ص 36).
هكذا تنتهي القصيدة برفض الموت، ورفض الموت هو القاسم المشترك الأعظم بين القصيدتين: قصيدة لوركا وقصيدة مطر، لكن مطر يضيف إلى رفض الموت استحالة انتصاره ما بقيت الفصحى، لأن الفصحى لاتموت!.
معلقة دخان القصيدة
أما القصيدة الثانية في هذا الديوان الجميل فإن تناصتها إكثر تشابكا وتعقيدا من القصيدة الأولى، ليس فقد لأنها تدير حوارا تناصيا متعدد المستويات مع إلياذة هوميروس وعنفها الدموي ضد الطرواديين، وتواريخ الهنود الحمر، وتعاليم التلمود، وإشراقات المتصوفة، وكوميديا دانتي الإلهية، وأشعار بوشكين وليرمنتوف ووالت ويتمان، وتواريخ أوروبا مع الإسلام من العصر الوسيط وحتى زماننا، وقبل هذا وبعده مع القرآن الكريم وسورة «الدخان» التي يفتتح بآيتين منها القصيدة، ولكنها تطرح جسد القصيدة مناظرا لجسد العالم، إن صح التعبير، جسد العالم الذي ضربته ـ بالنسبة لنا على الأقل ـ قاصمة «يونيو الدخان» والذي يمتد منذ هذا التاريخ في رؤية الشاعر الكابوسية إلى «محرقة من أمميات الدم النازف» في «صرخة تستأصل الأغيار، لاتبقي على حرث ولانسل ولامحراب نقش»، من روابي إشكيريا في الشيشان في قلب آسيا، وحتى جبال البوسنة والهرسك في وسط أوروبا، وصولا إلى أرض العراق التي اجتاحتها الآلة العسكرية الأمريكية الغاشمة وأحالتها إلى خراب بلقع شائه. هذا كله تطرحه القصيدة في وجه «أوراق عشب» والت ويتمان وهي تتغنى بتلك المفردة التي تعتبرها جملة شاملة: الديموقراطية المترعة هذه المرة بالدم والزيف والدخان.
ومع أنني لن أستطيع هنا التريث عند هذه المعلقة الثانية ـ التي تتكون هي الأخرى من أقسام أربعة وبنية حوارية ودرامية مماثلة ـ بنفس التأني والتفاصيل التي تناولت بها المعلقة الأولى، لأن عليّ أن أدفع بهذا المقال للمطبعة، فسيف الوقت لايرحم، ولا يترك فسحة من الوقت لتأمل عوالمها، والرجوع إلى تناصاتها ونصوصها الموازية كما فعلت في المعلقة الأولى، فإنني أود الإشارة بداءة إلى أنه على العكس من الصيغ الاستفهامية.. صيغ الحيرة والشك وطرح الأسئلة، تأتي المعلقة الثانية وقد تسلحت بما كشفت عنه لها تجربة المعلقة الأولى، مترعة بصيغة المخاطب:
«أنت لم تقرأ كتاب الكون إلا لمحة
لم تتعلم من حروف الغيم إلا
مطرا يسقط
أو غيما خفيفا يمسح الأفق بخفيه
ويستقرئ وجه الأرض
في الظلمة والنور
ولم تقرأ من الريح سوى وردين
ورد من دبور الصرصر العصف
وورد من صبا الرهو الرخاء
فاقتعد بين حجيج الأرض هذا الأفق الأدكن
وأقرا مصحف الريح
تهجد بالدخان» (ص 43).
ولاشك أن لمحة البداية تلك هي إشارة إلى المعلقة الأولى وقراءتها لنفس التواريخ التي ستعيد هذه المعلقة التعامل معها بشيء من التخصيص. فالعلاقة بين المعلقتين هي علاقة تكامل وتفاعل وتداخل يتخلق منها تناول الديوان لهذا الصراع الحضاري المتواصل بيننا وبين الآخر الذي يتواصل مطر مع جانبه الإنساني المضيء ـ كما هو الحال مع لوركا ـ ويتخذ موقفا نقديا صارما من جوانبه المظلمة الكثيرة السياسية منها والفكرية وحتى الشعرية. كما أن صيغ النفي القاطعة هنا هي الوجه الآخر من صيغ الاستفهام الشكية في المعلقة الأولى، وأوامر صيغة المخاطب هي الآخرى بنت تلك الرغبة في إدارة الجدل بين النصين. فما الذي تأمر به القصيدة موضوعها، أو تراه شاعرها: التهجد بالدخان، فلاتنس أنها «معلقة دخان القصيدة» الذي يبدأ بالتهجد بأولى تجلياته، دخان البيت الطالعة منه روائح خبيز الأم: «ودفء الصبية اللاهين بالرامخ والعجر» فليس لهم من ناضج الثمر نصيب. فهم صبية القرية الفقراء الذين ينتظرون يوم السوق وما يعد به من باذخ الأطعمة، ويتشوقون لدخان الطبخ الذي يتحلب له الريق اشتهاءا لطعم الفلفل الأكحل والأرز ولحم ضأن، وحتى العدس المصفى مرقا من كهرمان (ص 44).
لكن القصيدة لا تتركنا نتلكأ كثيرا عند تلك الذكريات، وعند هذا الدخان، لأن دخانها الذي أوحى به المفتتح المأخوذ من آيتين من «سورة الدخان» هو دخان القارعة كما سبق وذكرت. لهذا فإنها تحث بنا الخطو صوبها، ولا تتريث كثيرا عند هذا الدخان الحلو وذكرياته الندية، فسرعان ما يدخل الموت ساحتها، ويونيو الدخان كي يصل بنا بسرعة إلى دخان القدر المحتوم في حتميته التاريخية التي يستيقظ تواريخها فينا، لأننا شعب بلاذاكرة تاريخية:
«ثم يلتف مع الظلمة والريح إلى محرقة
من أمميات الدم النازف
ما من قبّة أو زخرف أو مصحف أو رافع
صوت الأذان
من كوى مئذنة إلا على موعده الموقوت للهدم
وللفتك ليصّاعد من جوهره الأرضي
روحا من دخان» (ص 45).
هكذا لاينتهي القسم الأول من القصيدة إلا ونكون قد دخلنا إلى قلب المحرقة التي مازلنا في قاعها منذ «يونيو الدخان» وحتى اليوم. وتتعامل القصيدة مع كل تجليات هذا الدخان، بصورة تكشف لنا عن الخيط المشدود من قلب دانتي المغلي في زهمة العفن الذي دفع به إلى وضع خاتم النبيين في قاع جحيمه إلى حبل الفاشيست الذي تدلى منه ضيخ الشهداء عمر المختار (ص 55) وصولا إلى تلك الصرخات المجنونة التي «تستأصل الأغيار لاتبقي على حرث ولانسل ولامحراب نقش» (ص 52) وهي مسيرة تبدأ من بابل، وتعرج على البوسنة والشيشان، ولا تنتهي عند تلك الدعاوى الملتاثة بفرض الديموقراطية على عالمنا العربي بالنار والدم والدمار. وهو أمر أرجو أن أعود له في فسحة من الوقت كي أحلله، لأن هذه العجالة لا تفي معلقة دخان القصيدة حقها، فهي تحتاج إلى وقفة تأملية متفحصة، ولكنني أردت هنا أن أساهم في احتفاء (الكلمة) بأكبر موهبة شعرية مصرية معاصرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ راجع Harold Bloom, The Anxiety of Influence.
(2) ـ راجع مقال (أطراس) لجيرار جينيت، ترجمة وتقديم المختار حسني في http://www.fikrwanakd.aljabriabed.net/n16_11atras.htm
(3) ـ راجع كتابه Michel Refattere, Text Production
(4) ـ راجع المختار حسني في المرجع المشار إليه إعلاه.
(5) ـ محمد عفيفي مطر (معلقة دخان القصيدة) ص 37.
(6) ـ كان بودي أن أعود إلى ترجمة قصيدة لوركا الجميلة التي قرأنها محمد عفيفي مطر وأنا وكثيرون من أبناء جيلي في الستينات، ولكني وأنا أكتب هنا بعيدا عن مكتبتي الأولى، وحتى مكتبتي الثانية، رجعت إلى ترجمة انجليزية لها، وأضطررت إلى ترجمة مقاطعها التي استشهدت بها بنفسي.
(7) ـ كل الأشارات التي تقتطف من الديوان، هي من: محمد عفيفي مطر، معلقة دخان القصيدة، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006)، وسأكتفي فيها بذكر رقم الصفحة فقط بعد كل استشهاد.
(8) ـ حينما أردت البحث عن نسخة من قصيدة لوركا في الإنترنت، وضعت اسمه وكلمة الساعة الخامسة، فجاءتني القصيدة على الفور في أكثر من نسخة وبأكثر من لغة.
(9) ـ مع أن القصيدة مؤرخة 3 مارس 1999، أي أنها كتبت قبل الغزو الأمريكي البشع للعراق، فإنها تستشرف دماره، كان الدمار قد بدأ بالفعل بما سمي عاصفة الصحراء، أو بالأحرى عاصفة العار العربي، وكانت العقوبات التي تبعتها تسطر حروفها في الجسد والروح العراقية بالدم والنار لسنوات طويلة.
(10) ـ أود أن أذكر القراء هنا بعنوان القسم الأول من قصيدة لوركا، ومع أنني لا أظن أن عفيفي مطر كان واعيا بدلالات كلمة الحصاد، إلا أن حدسه الشعري وتواصله التحتي أو الروحي العميق مع لوركا وقصيدته التي أشرت إلى تأثيرها الكبير على جيلنا، جعله يلتقي هنا مع لوركا على المستوى العميق، ويستخدم مفردة الحصاد بالمعنى الذي تنطوي عليه مفردة Cogida الأسبانية.