رحل الشاعر العربي الفلسطيني الكبير يوسف الخطيب في دمشق، يوم الخميس 16 حزيران/ يونيو الجاري (2011)، عن ثمانين عاما.
وصف الشاعر نفسه بـ(مجنون فلسطين)، لا عن تعصب، ولكن لأنه رأى أن فلسطين جديرة بالعشق حتى الجنون، وآمن بالعروبة، ونادى بوحدة الأمة لإنجاز التحرير.
أشهر غضبه في وجه القريب والبعيد، العربي وغير العربي، ففلسطين عنده امتحان لكل إنسان على هذه الأرض، فأمام محنتها يمتحن الضمير الإنساني، نقيا صادقا شريفا، أو خسيسا كاذبا مرتشيا حائدا عن الحق.
يمكن وصف يوسف الخطيب بأنه شاعر الغضب الفلسطيني، فبلاد العرب تضيق عليه، وبه، وهو لا يريدها أن تفتح ذراعيها مُرحبة به كأنه ضيف، فمبعث غضبه أن بلاد العرب بدون فلسطين ناقصة، وأنها تخذله، وأنه يراها أقل مما يرجوه لها من عروبة قويّة مُحررة.
وأنا الذي وطني ارتحال الشمس
ملء الكون
لكنّي بلا وطن
من ذا يصدقني..من ذا يصدقني؟!
لما ولد في بلدة (دورا) القريبة من مدينة الخليل، عام 1931 كانت فلسطين تعيش حالة غليان، فالأطماع الصهيونية أسفرت عن أهدافها برعاية الانتداب البريطاني، والهبّات والانتفاضات تلاحقت منذرة بالانفجار الكبير الذي تجلّى في ثورة فلسطين الكبرى 1936ـ 1939.
آنذاك كان شعراء فلسطين يأخذون دورهم التوعوي متقدمين على قيادة الحركة الوطنية، مطلقين قصائدهم المنذرة بالخطر الداهم، حاضين على الثورة لإنقاذ فلسطين مما يستهدفها من مخططات معلنة وخافية، تحوكها بريطانيا والحركة الصهيونية، والتخاذل والغفلة عربيّا.
وهو ينمو في بلدته (دورا)، ويبدأ فك الحروف في كتّابها، بدأ يسمع بإبراهيم طوقان وأبي سلمى، وعبد الرحيم محمود، فاستلهم روحهم، ودرج على دربهم، فكان أحد أبرز شعراء فلسطين الذين دوّت أصواتهم بعد نكبة عام 48.
منذ قصائده الأولى التي ضمها ديونه الأوّل (العيون الظماء للنور) لمع اسم يوسف الخطيب، وبات مع هارون هاشم رشيد، ومعين بسيسو، اللذين سبقاه بسنوات قليلة في التألّق في قطاع غزّة، وصحافة مصر، ثلاثيا يضيف لحركة الشعر الفلسطيني، مع تواصل حضور الشاعر أبي سلمى الذي أقام في دمشق بعد النكبة، وفدوى طوقان التي شقّت لموهبتها دربا منحها حضورا عربيّا.
انتمى يوسف الخطيب الذي درس الحقوق في جامعة دمشق، وتخرّج منها عام،1955 لحزب البعث مؤملاً أن ينجز الحزب وحدة العرب، ويقود مسيرة تحرير فلسطين.
عائدون كانت المجموعة الشعرية الثانية التي أصدرها في العام 1958، وكان قد نشر الكثير من قصائدها على صفحات مجلة (الآداب) وغيرها من كبريات المجلاّت والصحف العربيّة، فأكدت حضوره، ورسخته، وبوأته مكانة متميزة عربيا في زمن الشعراء العرب الكبار، والشعراء المحدثين، شعراء التفعيلة المجددين، وتبدّى يوسف الخطيب شاعرا مزيجا من الكلاسيك والحداثة.
بحنجرته العريضة، وقدرته المسرحية على الأداء، كوّن لنفسه جمهورا عربيّا، وعرف وانتشر أكثر من خلال الإذاعة السورية، والتلفزيون السوري، فهو مذيع لامع يتمتع بشعبية، ثمّ هو يأخذ موقع مدير عام الإذاعة والتلفزيون السوري في العام 65.
عمل يوسف الخطيب في إذاعة القاهرة إبان الوحدة، ومن بعد في إذاعة هولندة الدولية، وبعد تشرّد عاد ليستقّر في دمشق، وليؤسس دار فلسطين للنشر، والتي صدرت عنها المفكرة الفلسطينيّة التي تدون أحداث فلسطين يوما بيوم، والتي صدر عنها (ديوان الوطن المحتل) الذي قدّم شعراء فلسطين الداخل 48، والذي استقبل استقبالا حافلا خاصة وأن صدوره ترافق مع صعود المقاومة بعد هزيمة حزيران 67.
يمكن وصف يوسف الخطيب بأنه أقرب بمزاجه إلى المتنبي، الذي كان لا يرى على نفسه من مزيد، فحمله لصليب فلسطين يمنحه الحق في معاقبة أي متخاذل، رخو، متمسكن، مجامل..على حساب فلسطين.
وهو، وإن غادر صفوف حزب البعث، فقد احتفظ بجوهر الانتماء لفلسطين والعروبة، لفلسطين والوحدة العربيّة، لفلسطين المقاومة..والعروبة (الزاحفة) إلى الجليل والنقب.
ولأن أحلامه خُذلت، وإن لم ينهزم، ويلين، ويتخلّى، فإنه يصرخ غاضبا في وجه الأمّة كلها، من محيطها إلى خليجها:
أكاد أؤمن من شك ومن عجب
هذي الملايين ليست أمة العرب
حالة الانخذال، والتهافت، والهوان، والتفكك، لم تستفزه لهجاء الأنظمة البائسة المهادنة البائعة وحدها، فهو حمّل الجماهير، الملايين، الذنب والمسؤولية، فأدانها، وأنكر عليها عروبتها لأنه رآها غير جديرة بالانتساب للعروبة. فكيف تكون عربية ولا تنفض عنها هذه الدول، وهؤلاء الحكّام، وتوحد صفوفها، وتجمع طاقتها..وتزحف في يوم التحرير العظيم؟!
تميّز يوسف الخطيب بالأنفة، والشموخ، والكبرياء، فكأنه في كل لحظة يردد قول الشاعر العربي:
صنت نفسي عمّا يدنس نفسي
وترفعت عن جدا كل رجس
أراد لنفسه أن يكون كامل الطهارة حتى يليق، وينسجم، مع فلسطينه، وعروبته، و..شعره!
بعد حرب تشرين 1973 وبدء أطروحات (السلام)، وتورّط طرف فلسطيني في الحيدان عن هدف تحرير فلسطين، والترويج لدولة فلسطينية على الأرض التي ينسحب منها الاحتلال الصهيوني، شنّ يوسف الخطيب حربا على تلك القيادة وكانت قصيدته (أوديب ملكا على الضفّة والقطاع)، وهي أهجية رهيبة تشبه أن تكون لعنة (لأوديب) الفلسطيني!
اختار يوسف الخطيب أن يصرخ في شعب فلسطين المنتشر في أربع جهات الدنيا، وكأنه صوت يوحنا المعمدان بأقصى غضبه وغيظه، وحنقه، وحتى جنونه!
لا غرابة أن يصدر يوسف الخطيب ديوانه الصوتي (مجنون فلسطين)، فهو يتميز عن مجنون ليلى ومجنون إلسا، إنه مجنون وطن ضُيّع بالتخاذل، والخيانة، والتآمر..فكيف يصمت، أو ينسى؟!
تميّز (المجنون) هذا بجموح المخيلة، والصورة، والبناء المسرحي، وبعض مطالع قصائده تصيب المتلقي بالذهول، وتبقى محتفظة بروعتها، ورهبتها:
جواد من هذا الذي يعدو بلا فارسه؟!
هذه صورة مركبة، حسيّة مرئية، ومعنوية داخلية، تبهر العين والبصيرة، وتثير الدهشة، والشعر هو الدهشة، وهو الصورة، فلا شعر بلا صورة، والصورة ليست كلاما منمقا خارجيا، ألوانا بهرجية، إنها تركيب ومزج، تداخل، ديمومة، فالصورة تكسب قيمتها من حيوية حياتها، فهي مع كل قراءة تتخلّق من جديد، وتفتح للبصر والبصيرة آفاقا.
جواد يوسف الخطيب الجامح تأثر بها شعراء كثيرون، و..صاحب الجواد الذي لا نعرف عنه شيئا، يدفعنا للتساؤل: من هو؟ لماذا انطلق جواده بدونه، ومن قتله، وما شأننا به؟ يبدو أن ذاك الفارس صاحب هم، سقط عن جواده في الميدان، ولذا نشعر أنه منّا. أترون أين تأخذنا الصورة!
ككثيرين غيري ألححت على شاعرنا أن يصدر أعماله الكاملة، ولكنه ظل يؤخر إصدار أعماله حتى تمّ إقناعه من الأصدقاء في (بيت الشعر الفلسطيني)، وكما علمت فقد صدرت الأعمال الشعرية الكاملة لشاعرنا الكبير قبيل رحيله بأيّام قليلة!
كتب يوسف الخطيب مجموعة قصصية بعنوان (عناصر هدّامة)، ومسرح جريمة كفر قاسم التي اقترفها العدوعام 56 أثناء العدوان الثلاثي على مصر. واتفق مع الفنان السوري نعيم إسماعيل على رسم لوحات للمدن الفلسطينيّة، أقام لها بعد إنجازها معارض في عدة بلدان عربيّة.
يوسف الخطيب أحد أبرز شعراء العرب في زمننا، رحل في زمن الثورات العربيّة، وأحسب انه كان يبتسم مغتبطا وهو يرى الجماهير التي شكك بنسبها، وجلدها بغضب المُحّب المحنق من هوانها، وقد انفجرت في ثورات عارمة بدأت تقتلع الطغاة العرب، وتبشّر بإنسان عربي لن يرضى ببقاء فلسطين محتلة.
جواد يوسف الخطيب الجامح يطلق صهيله في فضاء الوطن العربي..بينما جسد الفارس رحل وحيدا!
عن (القدس العربي) اللندنية