في لحظة فارقة من تاريخ البلد والحزب والمدينة، التي وضع فيها رهاناته، ورتب في ظلالها أحلامه، صورة صورة؛ أسلم الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب روحه اللاهبة. فسورية، الآن، يقتحمها جيشها، فيما الفيحاء التي أحب، ما تزال غارقة في أحزانها. أما الحزب، فلم يتبق منه سوى حفنة أدعياء مستبدين مجرمين، ينتسبون الى حلقة، هي دون الطائفة، بل دون العائلة، ومن حولهم بحكم طبائع الأمور بسطاء مسالمون ومكابرون أو صابرون.
يغادر يوسف الخطيب، اذن، في أوقات ما بعد التردي وما بعد انكسار الحُلُم. فلا متسع لوداع يليق به، وهو الصوت الشعري العذب العميق، والقامة في تاريخ الحزب والثقافة القومية. ولو قدر ليوسف الخطيب، أن يصدح، بعنفوانه المعهود وأحاسيسه المرهفة؛ لأسمعنا أبياتاً في رثاء انكسار الحلم الذي بات أخف مضاضة على النفس من اقتحام الجيش، لمدن البلد، فاتحاً النار على أهله كأن الجماهير تحولت الى غُزاة من التتار. فهل يطيق يوسف الخطيب ردة بهذا الحجم وتدليساً بهذا القُبح أو غرقاً في دم الناس الى أي عمق؟ ومن هم ضحايا اليوم، بأيدي قتلة ينتحلون صفة الحزب الذي انتمى اليه شاعر للأرض، نذر عمره يغني لها وللأمة ولفلسطين القضية؟ انهم أبناء وأحفاد الشباب الذين كانوا ينتظرون سماعه في كل مساء، يلعلع عبر أثير اذاعة دمشق: الى رافعي راية العروبة على شواطىء يافا ورُبى الكرمل الى السائرين على درب التحرير..!
هو ذو سيرة حافلة، بدأت من دورا الخليل مسقط رأسه، حين كان والده من مقاومي سلطة الانتداب البريطاني في الثلاثينيات. تفتحت قريحته ولغته وعيونه، على الأفق العروبي الرحب، مع التحاقه بكلية حقوق جامعة دمشق في مستهل الخمسينيات، اذ التحق بحزب البعث العربي الاشتراكي، البريء الحالم المنّزه في ذلك الوقت، وعاد بعد اتمام دراسته لكي يعمل في الأردن بين السياسة وحقل الكلمة. وفي تلك الفترة، كانت هناك الانتخابات النيابية التي فاز فيها التكتل بقيادة المرحوم سليمان النابلسي، وكان البعثيون جزءاً منه، ثم شكل النابلسي الحكومة. انتقل الخطيب الى الاذاعة الأردنية، بصوته الجهوري منتشياً بمرحلة جديدة أعقبت اسقاط «أبو حنيك». ومع انهيار تلك الحكومة غادر الخطيب الى سورية مرة أخرى. في تلك التجربة، سقطت الرزمة الأولى من الطموحات السياسية، في البلد الذي يقع مسقط رأس الشاعر الراحل ضمن ضفتي حدوده. وفي سورية بدأ عمل البعثيين، لنسج أمنيات جديدة، ربما تصبح منطلقاًً لاستعادة طموحات ضائعة. في ذلك السياق، انعقدت الوحدة بين مصر وسورية، وسرعان ما جرفت سياقات الحزب وسجالاته، شاعرنا الذي صعد نجمه، الى موقع الخصومة مع جمال عبد الناصر. يدخل الشاعر مرحلة أخرى من انهيار الآمال. يُفتش عن ملجأ آمن فيعثر عليه في محطة اذاعة باردة في امستردام. ومن جديد، انفتحت نافذة أخرى لآماله عندما أطاح انقلاب القوميين بعبد الكريم قاسم في العراق (شباط 1963) فخلع يوسف الخطيب من هولندا الى بغداد، التي ارتحل منها الى الكويت، بعد الانقضاض على البعثيين في العراق. وبعد تسلم البعثيين للحكم ثم التمكن فيه، عاد الى سورية ليعمل في الاذاعة ويواظب على الشعر، وعلى اصدارات الذاكرة والثقافة والهوية والتوثيق للمجازر الصهيونية، وكرّس الخطيب نفسه عاشقاً ناشطاً لفلسطين، وكان رائداً في اهتمامه بشعراء الأرض المحتلة، كعناوين لذاكرة الأرض وذاكرة النار كما سمّاها فقدم مبكراً محمود درويش وسميح القاسم وسواهما. وكان سبّاقاً في روحه اذ يندر أن يتوافر شاعر مبدع، على دراسة وتقديم شعراء آخرين بأريحية لافتة تغذيها مشاعر الوفاء للقضية. وفي سياقه السياسي والحزبي، تواصلت احباطات يوسف الخطيب، حتى كاد في السنوات الأخيرة، أن يلوذ تماماً الى نفسه، بعد أن انكشف خواء النص المتداول في أوساط الحكم السوري، وبات المنتحلون للبعث غير ذي صدقية في حديثهم عن الجماهير وعن «الروح الرفاقية». فقد أشبع هؤلاء رفاقهم تمييزاً سلبياً، وسجناً وتنكيلاً لأتفه الأسباب، بل تركوا رفاق العمر والحزب يموتون في السجون، ولم يحللوا ولم يحرّموا، لا في دم ولا في أعراض أو مقدرات!
بعد ابرام اتفاقيات أوسلو، ومع تراجع احتمالات التسوية السورية الاسرائيلية، التي بدت وشيكة في بعض الأوقات، وجد الراحل يوسف الخطيب ضالته في هجاء التسوية على المسار الفلسطيني. كان ذلك أقل ارهاقاً للشاعر، مما لو كان حافظ الأسد، حضر اجتماعاً مقرراً مع اسحق رابين في مسقط. كان الاسرائيليون هم سبب احباط اللقاء بسبب غرورهم وتمسكهم بأمتار اضافية على ضفة طبريا. في ذلك المناخ لم يكن لشاعر وسياسي جرب المنافي في ريعان الشباب، المقدرة على الارتحال الى منافٍ جديدة في شيخوخته، لو كان فعلها الأسد، وجاءت المقادير بأن أكرمه الله بسهولة هجاء المسار السلمي برمته، من خلال الهجوم على خيارات القيادة الفلسطينية.
في ذلك الاطار، استضافت قناة «الجزيرة» في الدوحة، الشاعر الراحل يوسف الخطيب، للمشاركة في حلقة من برنامج «الاتجاه المعاكس» حول المفاوضات، وكان أخوكم هو الضيف المقابل له، عبر القمر الاصطناعي من غزة (26/12/2000). ومنذ بداية الحلقة، حرص العبد لله على التزام الاحترام للشاعر مهما هاجم وناقض طروحاته أو شكك فيها، ولم يكن ذلك يروق لفيصل القاسم. يومها كان الرجل ينطلق في حديثه من معان عامة ومن مدركات تاريخية ومن روح شاعر، بينما كنا نحن في أتون الانتفاضة الطويلة الثانية وفي خضم جراحها وأحزانها وأسرارها. ولم يكن مستغرباً أن يغترف الراحل يوسف الخطيب من قاموس الفاظ البر السوري، ليرشق الشهيد الرمز ياسر عرفات باتهامات التفريط وبيع القضية. وتمسكت باحترام الرجل، وكدت أقول له لا تستعجل، ان الرجل يقاتل وعاد الى خضم المعركة التي عاش فيها طوال حياته. ومن المفارقات، أن حزن وتأثر الشاعر على «الختيار» في يوم رحيله، كان بمثابة اعتذار عن سوء الظن في ذلك السياق الملتبس. لقد كان أبو عمار سبّاقاً الى الميدان، وهو أيضاً عاش تاريخاً من الاحباطات نفسها التي وصفها الشاعر في قصيدة له:
أرثيك يا أملي ويُفجعني
أنّي تُكفّن راحتي أملي!
رحم الله يوسف الخطيب، الذي عاش حياته حالماً مرتحلاً يضع فلسطين نُصب عينيه. والعزاء لأسرته وأهله ومحبيه. والمواساة لحرمه أم بادي، التي هي شقيقة الراحل العزيز ناهض الريس، انا لله وانا اليه راجعون!