صار الأمر مشهداً مألوفاً. استشهاد التشكيلي ياسين عطية يذكّرنا برحيل كامل شيّاع عام 2008. مثله، قرّر العودة إلى العراق بعد إقامة طويلة في المغترب. لكنّ قدره كان ينتظره في إحدى زوايا بغداد. الفنانون أيضاً ينتظرون دورهم في طابور الموتى المؤجلين
ضمن موجة التفجيرات التي تضرب البلاد من حين إلى آخر حتّى صارت جزءاً من مشهد مأساوي معتاد لدى العراقيّين، وقع أخيراً انفجاران في بغداد، وتحديداً في جانب الرصافة. ضرب الأوّل «حيّ البنوك»، فأودى بحياة التشكيليّ ياسين عطية (1963)، العائد للتو إلى وطنه من محل إقامته في الدنمارك، في حين تناثرت شظايا الثاني في منطقة الكرادة على جسد زميله ستار درويش (1966) الذي ما زال يعاني من جروح عدة.
ويبدو أنّ مفخّخات زمن الطوائف أخذت تحصد من بين ضحاياها فنّانين لا ذنب لهم سوى أنّهم يصرّون على صناعة الجمال في مدينة يراد لها أن تحترق بالكامل. مؤسف أن نقول هذا الكلام السوداوي، لكن ما معنى أن تنتظر دورك في طابور من الموتى المؤجلين؟
كان ياسين عطية يتناول فطوره في مطعم «الركن الأخضر» في بغداد حين انفجرت السيّارات المفخخة في يوم دموي شهده العراق عموماً، ويكون عطية أحد 35 ضحية راحوا في الحادث الارهابي نفسه. وإذا كان عطية قد استشهد وهو يمضغ فطوره قبل أن يبدأ يوماً جديداً في وطنه الذي عاد إليه، فإنّ ستار درويش المقيم في بغداد راحت تتطاير عليه الشظايا من سيّارة مفخخة أخرى كان يمشي في محيطها.
في مبنى الثقافات العالميّة في العاصمة الدنماركيّة، اجتمع أخيراً الناقد سهيل سامي نادر والشاعران سليمان جوني ورحمن النجار والروائي سلام إبراهيم، وغيرهم من الكتّاب والفنّانين المقيمين في كوبنهاغن، لتأبين ياسين عطية بقصائد وكلمات ومداخلات مع عرض فيلم وثائقيّ قصير أُنتج عنه قبل مدة (إخراج مهدي كوفاني). كذلك نعته بغداد، سواء على المستوى الفني (أصدقاؤه وجمهوره) أو الرسميّ ممثّلاً ببيان لوزارة الثقافة جاء فيه نصّه إنّ «منفذي الأعمال الإرهابيّة في مدن العراق يحاولون استغلال ظروف سياسيّة داخليّة وإقليميّة بالغة الحساسية بهدف زعزعة الأمن والاستقرار في العراق، مستهدفين جميع المكونات العراقيّة». وأمس، نظّم «ملتقى الحوار الثقافيّ» في وزارة الثقافة في بغداد جلسة تأبينية للفنّان الشهيد، حيث عُرضت مجموعة من أعماله، مع حديث عن تجربته قدّمه التشكيلي بلاسم محمد. وشُغلت صفحات الفايسبوك بنعيه وعرض لوحاته، مع التذكير ببعض القراءات النقديّة لأعماله وتجربته التشكيليّة.
منحى «العودة إلى الذات» وتجسيدها تشكيليّاً، هو ما نلحظه في أعمال ياسين عطية التي تميّزت بخاصية في استعمال الألوان، موظفاً فيها فهمه لتقنيات التجريب، وهو يزجّ تفصيلات من ماضيه وطفولته فيها، لكنّ تجربته حظيت بأكثر من تحوّل، مرّة بعد اعتقاله لرفضه الاشتراك في الحرب العراقيّة الايرانية، وثانية بسفره إلى أوروبا وإقامته في الدنمارك. تحدّث مرةً عن علاقته الفنيّة بمغتربه، قائلاً: «هنا الطبيعة هي البوابة لاكتشاف الألوان وهي مصدر للتأمل، لذا تغيّرت كلّ ألواني في أوروبا».
أما ستار درويش، فينحو إلى تدوين الذاكرة التي يرى من خلالها الراهن، باعتقاده أنّ الطفل هو «الأقدر على اكتشاف الشكل وهو الأكثر صدقاً في تدوين مشاعره، باحثاً عما تختزنه ذاكرتي من الطفولة».
بعد فاجعة رحيل ياسين عطية، اقترح أصدقاؤه إقامة قاعة عرض دائمة في وزارة الثقافة أو أي مكان ثانٍ لتصبح بمنزلة معرض دائم لأعماله وتحمل قاعة في بغداد اسمه، مع فكرة أخرى أن ينفّذ الفنّان العراقيّ أحمد البحراني تمثالاً نصفيّاً للراحل يوضع في موقع استشهاده في «حي البنوك» ليكون ذكرى للأجيال العراقيّة عن فنّان أحبّ وطنه، فعاد إليه من أوروبا ليقتل فيه بطريقة بشعة.
في آخر التعليقات التي كتبها على صفحته على فايسبوك، ذكر عطية: «مثل طفل يقفز من الرحم إلى العالم. قلب أبيض. عالم أبيض وصرخة ضدّ الخراب»، كأنّه يؤرّخ للحظة التشظي التي سيمرّ بها بعد أيّام، فهو قفز من رحم المنفى إلى عالم وطنه الغرائبي ليقذف به إلى رحم الأرض ثانية من دون أن يكمل صرخته.