لم ينطلقْ توفيق بكار في رحلته لتحليلِ النص متشبثاً بمناهجِ النقدِ الحديث، بل انطلق من النص وما يمليه، فما النقد الحديث إلا وسيلةً نَفَذَ بها إلى النص لاستنطاقِ ما به من معانٍ، وللوصولِ من خلال التحليلِ إلى نتائجَ لا تتحققُ إلا بمثلِ هذه الوسائلِ النقدية الحديثة. وُصف بأنه جسر الجامعة التونسية إلى الحداثة وأحد أبرز مؤصلي الثقافة العربية المعاصرة. يعرض هنا الباحث محمد البشير سيرة توفيق بكار المجددة في علم الأدب وكيف واءم بين صرامة المنهج وحس الناقد المبدع.
ينطلق توفيق بكار في تحليله للنصوص بمعرفة مناهج النقد الحديث، فهو أولُ من فتحَ أبوابَ الجامعة التونسية على هذه المناهج، فكان جسرَها إلى الحداثة كما يقول عنه محمد القاضي، ويصفه محمد المصمودي بأنه المجددُ الأولُ ورأسُ مدرسة، ويراه عبدالله أبوهيف شيخاً من شيوخِ النقد الأدبي العربي الحديث، فقد وهبَ عمرَهُ لقضية تأصيلِ الثقافة العربية المعاصرة في التعليم والانتشار خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرة، وهو من تعلم تلك المناهج وعلّمها كما يقول خالد الغريبي بعد أن هضمَها وتمثلَّ سياقاتِها. إن ما يرومُهُ توفيق بكار في تحليله لنصوصِ الأدب العربي الخروج بالنقد من تقليديتِهِ المعهودةِ إلى تلك (القراءة الخلاقة) التي لا تتحققُ عنده إلا بمنهاجٍ صارم، وهذا المنهاجُ بهذا الوصف لا يكون إلا حين ينتقل (النقد العبثي) الذي لا يلتزمُ بمنهجٍ محددٍ إلى مجالِ (علمِ الأدب) الذي ينشده بكار حيث لا يتكون النقد حينها إلا على أساسٍ من الدقةِ والصرامة.
حوار عميق وعسير
يصف توفيق بكار تحليله للنصوص بـ (الحوار الطويل العميق والعسير) وهذا الأمرُ لم يأتِ على عواهنه دون وعي وتبصر، فجدليةُ الحوارِ القائمةُ في صلبِ العملِ النقدي عند سامي سويدان (لا تستبعدُ أيَّ حجرٍ أو تقييدٍ لأيٍّ من طرفيها وحسب، بل إنها على العكس تتطلبُ إطلاقاً بل حضاً لكلٍ منهما على أداءِ دورِه واستثارةِ الأسئلةِ وطرحِ القضايا والمسائلِ الخاصةِ به والمشتركةِ مع الآخرِ في الوقت نفسه، بحيث تُعد أيُّ محاولةٍ لإعاقةِ هذا الحوارِ أو ذاك أو الحدِّ منه إساءةً لكليهما معاً). انطلاقاً من هذا الوعي بالحوار ودورِه في التحليل النقدي المنهجي الصارم؛ أسَّسَّ توفيق بكار مدرستَهُ النقديةَ بتعليمِ مناهجِ النقدِ والحوار مع النصوص، فما يقدمُه من تحليل يصفُه بـ«تجاريب نجريها في كلية الآداب مع طلبة المناهج».
إن الصرامةَ العلمية سمةٌ في تجاريب توفيق بكار، ولكن لا تجدُ فيها تلك التبعيةَ دون إبداءِ رأي، فهو تأثرٌ بمنهجٍ لا تلبُسُهُ كاملاً. إن الصرامةَ العلميةَ المتلبسةَ بالحوار تقودُ إلى ما سيأتي من جدل. يذكر حسينُ الواد عن تحليلِ توفيق بكار لنصوصٍ شعريةٍ أنَّنا نجدُ أنفسَنا في صلبِ القضايا المعاصرةِ التي يشقى البحثُ، عالمياً، بنقاشِها شقاءَ الـمُمتع. فهو لم يصُبّ على النصوصِ معارفَ مقتبسةً وإنما حاورَ بها الرصيدَ المعرفيَّ بالخطابِ الشعري وهو يستجيبُ للتنظير ويندُّ عنه فيدخل معه في جدلٍ خلاّق بعيداً عن السذاجةِ الحرباوية.
جدلية النص الأدبي
أفرد توفيقُ بكار موضوعاً بعنوان (في جدليات النص الأدبي) أدرجَهُ ضمن قسم (شعر قديم) في الجزء الأول من كتابه (شعريات عربية)، ويرى توفيق بكار أن «النص الأدبي كيفما نظرنا إليه من الخارجِ أو من الداخلِ من وجهةِ العلمِ الموضوعية أو من جهةِ النقد الذاتية كائنٌ جدلي بالطبع». ويقول بيار بربريس عن التراث، في هذا السياق، أنه ينبغي أن تُعاد قراءته في ضوء «الجدلية التاريخية»، ويذكر لوسيان غولدمان أن المادية الجدلية بقدر ما تسمحُ بفهمٍ أفضل لمجموعِ السيرورات التاريخية والاجتماعية لفترة ما، بقدرِ ما تسمحُ أيضاً بأن نستخلصَ بسهولةٍ العلائقَ بين هذه السيرورات وبين الأعمالِ الفنية التي خضعت لتأثيرها.
إن النصَ عند توفيق بكار كائنٌ جدلي، ولا يستطيعُ محللُ النصِ سبرَ غوره إلا بحوارٍ طويل شاق وعسير، وبمنهجٍ صارم، وبذلك يكونُ النقدُ العلمي. ولا يمكن أن ينفصلَ النقدُ عن الذات، ولذا صارت لنقد توفيق بكار سمةٌ تخبر عنه، فالنصُ النقدي «نتاج حيٌّ لتفاعلِ جدلياتِ المعرفةِ والخبرة والموهبة» حسب خالد الغريبي الذي يصف توفيقَ بكار بأنه استطاع أن يكونَ له موقفٌ نقدي من حركاتِ عصرِه، وأن يلائمَ بين البنيويةِ والتحليلِ الاجتماعي للنصوص. وهو لم يكُن ماركسياً بالمعنى الحرفي للكلمة، ولم يكن بنيوياً بالمعنى الحرفي وإن استلهمَ من الإنشائيين كثيراً من قوانينهم، ولم يكن متزمتاً، ولا نصيراً لحداثةٍ معطوبة، إنه متأصلٌ في حداثته حديثٌ في تأصله، صاحب تحليل جدلي في قراءته للواقع المتحرك، إنشائيٌ في انتمائه إلى النصوص العليا منفتحٌ على الآخَرِ مؤمنٌ بذاته وحضارته.
إن هذا الخليطَ هو ما صبغَ شهادةَ عبدالسلام المسدي التي نقلها صلاح فضل في تصنيفه للبنيويين حين عدَّ توفيق بكار من المتجاوزين، وفي رأيي أن توفيق بكار ليس من المتجاوزين في البنيوية، وذلك لأن البنيوية ليست واحدة وإنما بنيويات، ولعله إلى البنيوية التكوينية أقرب، فكلُّ مدرسةٍ نقدية تأخذُ من سالفتها بقدر ما تستطيعُ النهوضَ والسيرَ باتجاه جديد، فهانز روبرت ياوس، مؤسس نظرية التلقي يقول عن المنهج «إنه لا يسقط من السماء ولكن له مكان في التاريخ»، فعلى سبيل المثال في دليل الناقد الأدبي ما نصه: (سعى غولدمان إلى تأسيس «علم حقيقي للواقع الإنساني» عبر مزيج من النظريات والفلسفات اشتمل على الماركسية، كمكون رئيس، مع أطروحات فلسفية لكانط وهيغل، بالإضافة إلى آراء بياجيه ولوكاش، وكان سعيُه من كل ذلك إلى إيجادِ البديلِ العلمي لبنيوية ليفي – ستراوس وفلسفة ألتوسير في دراسةِ المجتمع وفهمِ ثوابتِ الثقافة الإنسانية ومتغيراتهِا)، ومن ذلك نتلمسُ انطلاقةَ توفيق بكار نحو الديالكتيك، ويُضاف إلى ذلك المنهجُ العلمي وفق ما تمليه الدروس المنهجية، وما تنطق به النصوص وقت التطبيق, وتركز اختيارُه للنصوص على تراثه العربي؛ لإيمانه برسوخِ فن القص في التراث العربي من خلال ما تنطقُ به النصوص وما يستقيمُ أمامَ المناهج الحديثة عند التطبيق، ولذا نراه يستهجن ترديد يحيى حقي لمقولة دوستويفسكي: (كلنا خرج من معطف «غوغول»)، ويقول توفيق بكار: «وما ضر يحيى حقي، وغيرُه منا، لو كان خرج، أيضاً.. من «قميص» الجاحظ، وكُمّ قصّه في هذه النادرة الفذة؟ فالجاحظ أقرب إلى «أم هاشم» و«قنديلها»، بحيّها «حي السيدة». أم لا قص أبداً إلا ما قصّ الغرب، وكما قصّ، وإن سبقناه إليه، ولنا فيه آياتُنا البينات؟»
إن في هذا الحديثِ انتماءً للعربية، متى ما كان لها السبق، واعترافاً بكل جديد نافعٍ من خلال التطبيق المنهجي للمدارس الحديثة، فكتابات بكار النقدية في توصيف الغريبي تغتذي من الحداثة والتراث منهجاً ورؤية ومعرفة، وفي استعراض عناوين تحليله للقصص ومادتها يتبين ذلك بتصدر الجدلية بوضوح من قبيل (جدلية الحكمة والسلطان «مثل الأرنب والأسد»)، وهذا تقرير للقاعدة الثالثة التي انطلق منها توفيق بكار في تحليله للقصص ووسمت كل تحاليله القصصية دون الشعرية، ولعل ما يعقبُها يقودنا إلى القاعدة الأخيرة.
ثنائيات معاصرة
يشتغل توفيق بكار على الثنائيات انطلاقاً من العنوان وحتى تفاصيل النص، وللثنائيات مكانة عند العرب الأوائل، إذ نجد مصطلحاتٍ من قبيل (التضاد، والمقابلة، والتكافؤ، وغيرها)، والثنائية هي محلُ نظر في عددٍ من المدارسِ النقدية والبنيوية تحديداً، وتناولَ هذه الثنائيةَ الضاربةَ بجذورها في التراث العربي من خلال نصوصٍ يصفُها بأنها «من العيون، وكتّابها من الأعلام الكبار»، ويعبّر بيار بربريس عن مثل هذه النصوص معللاً أهميتها بقوله إن النصوص الكبرى قد عبرت عن أزماتٍ وعن مآزقَ وعن اختلافاتٍ لم يكُن يُرغب في ظهورها. ويعتني توفيق بكار بنصوصٍ تراثية – على وجه الخصوص- لها مكانتُها الرفيعةُ في الأدب، واللافت أيضاً أنه حين قارب قصصاً حديثاً اختار نوعاً محدداً يتسِّمُ بقربه من التراث من الناحية الفنية، فأحاديث محمود المسعدي قريبةٌ جداً من التراث قصداً، ولذا وصف توفيق بكار مقاربتَه لنصوص الكتاب بـقوله: (قصصنا القديم، وما يشبه القديم وهو حديث).
وهكذا فإن بعثَ هذه النصوص يستندُ إلى أيديولوجية عروبية، ووقوفُ توفيق بكار أمامَ هذه النصوص من قبيلِ إثباتِ ما في التراث العربي من نصوصٍ ناطقةٍ بصوت مرتفعٍ لقضايا مهمة ومعاصرة، فتيري إيجلتون يقول ما نصه: «العمل الفني يحيا بسبب كونه عملاً فنياً. إن بعضَ الأعمال الفنية تظلُ حقاً محتفظةً بحيويةِ لحظتِها التاريخية»، ولعل من يطالعَ مقارباتِ توفيق بكار يشعرُ بهذه الحيويةِ التي تمتلكُها تلك النصوص، ويجدرُ بها أن تكونَ لها حظوةٌ تفوق ما هي عليه، فهي نصوصٌ وقفت في ظل (ألف ليلة وليلة) قصصياً غيرَ مأبوه لها، ولكن تحاليل توفيق بكار دحضَت القولَ بأنَّ «زهيد إرثنا من القص ضئيل. أباطيلٌ من الأقاويل تتهافتُ إذا جدّت التحاليل».
لقد أثبت توفيق بكار بالتحاليل الجادة قدرةَ الأدب العربي القديم على الحضورِ بفاعلية في عصرنا الحاضر، وأن المناهجَ النقدية الحديثة مفيدةٌ أشد الفائدة عند التطبيق والإفادة منها، فالمعاني العظام يمكننا استشفافها عقب تحليلٍ رصين وجاد، ولعل دراستَه لنصي المسعدي وفق جدليتين (جدلية القدم والحداثة، وجدلية الشرق والغرب) خير ناطق للتعبير عن مفهوم الجدلية عند توفيق بكار ومصدرها، وأختم باقتباس منه عن نص المسعدي: أشكال السرد واللغة في هذا النص عموماً عربيةٌ قديمة ودلالات الشعور والفكر في الجملة غربية حديثة، ومن ثم فالعلاقة بين هذه وتلك تظل محكومة بنفس الجدلية.
ويقول في خلاصة تفسر تلك الجدلية في مقاربته: انطلق المسعدي في كتابه (حدث أبو هريرة قال): «شرقياً» ثم رجع وقد تغرب وإذا بالعالمين يصطرعان في رأسه إلى حد «العمى»، وها هو يخرج من الظلمات إلى النور يضرب في الإشراق والتجلي فعاد «شرقياً» كما كان: فهو-بحكم مسيرته- شخص متناقض نصف صوفي نصف بروميثي، قديم جديد، تراثي معاصر على غرار شكل الحديث وأسلوبه، صورة صميمة من الجدلية بين الثقافتين.