«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» قرآن كريم
كلّ شيء قصّة.. ولكلّ قصّة منتهى
ولكنّ بعض القصص خير من بعض..
وقد كان توفيق بكّار خيرا لمن عرفه وكان خيرا لمن لم يعرفه .. لقد بثّ عملَه في الصدور .. فهو يشهد له. وقديما قال أبو الطيب: ذكر الفتى عمره الثاني. ذكرك الله في عليّين أيها الأستاذ العظيم.
ولنذكرنّك.. وستذكرك النصوص أنطقتها من صمت وأضحكتها من عبوس وأرقصتها من سكون .. ذهب توفيق بكّار إلى هناك ينسج منوالا آخر لقراءة النصوص بعيدا عن صخب الأدعياء وركاكة المترجمين وحذلقات الأكاديميّين. توفيق بكّار عرَج إلى هناك .. هل يعلم أحد منكم شيئا عن هناك؟ ذهب الرجلُ، رجُلًا، إلى حيث لا معاد إلّا ما تواتر من خبر الغيوب لمن ترك لأخبار الغيوب نافذة استقبال، من باب صرخة الفذّ أبي العلاء: كذب المنجّم والطبيب كلاهما!
لعله كان الشخصية الجامعية الوحيدة التي يجتمع على حبّها الفرقاء وتأتلف عندها النقائض ويتّفق بشأنها المتنازعون. لقد كان فوق اليسار وأكبر من اليمين وأجلّ ممّا بينهما. كان أعدل من الميزان، وأعقل من العقال، وأعفّ من الجميع، وأشجع الشجعان.
إلى هناك أيّها العقل الجميل..
إلى هناك أيّها الرجل الجليل..
وعند الله تجتمع الخصوم ..
توفيق بكّار لم يكن دعيّا ولا لجوجا ولا متوسّلا ولا متسوّلا ولا طمّاعا ولا متسكّعا ولا متسرّعا.. اختزل معاركه كلّها مع النصوص وجمع مطالبه بأسرها في المعرفة .. سرح خلف النصوص يروضها فإذا كلامه على الكلام سهل .. وإذا قراءاته إبداعات تغطّي بديع مقروءاته
لقد رضي بأبي الطيب رفيقا يشاركه فَلَاتَهُ ويميط عنه لثامه فيدلّنا عليه وينزل بغيثه على هجيره فيروي غلّة من ابتغى جمالا من أدب الأوّلين. واتّخذ بديع الزمان الهمذاني شريكا يحاور أدبه الفذّ فتتحوّل مقاماته بين يدي الأستاذ جدائل من أدب ومن ذهب. وسار مع ابن المقفّع يترجم وحيه بصراع الحكمة والسلطان .. ويرينا من قنبرة الخرافة ما لم يره غيره ومن أرنب الحكاية ما لا تراه صور الأسُود. ترنّم مع عنترة بطائر بَانِهِ .. وهاجت بهياجه أشجانه. ونازل بشار بن برد يعاشر “ذات دلّه” كأنّ البدر صورتها.
وسكن في ثياب “مغتلسة” أبي نوّاس كما لو كان هو واصلة صبحها وليلها “فغاب الصبح منها تحت ليل”، أو برزخا بين ماءيها ” وظلّ الماء يقطر فوق ماء”. لم تكن لتسوغ لنا رواية حدّث أبو هريرة قال” لولا ما فكّ لنا توفيق بكّار من طلاسمها ونحن فتية نحبو على حصيرة الأدب المتمنّع. ولقد فعل المرحوم محمود المسعدي حسنا لمّا شدّ إلى أستاذنا الرحال، وهو في فرنسا، يرجوه وضع مفتاح لسدّه العنيد حتّى يسوغ لتلاميذ البكالوريا .. ومنذ نزل معين توفيق بكّار في مقدّمة السدّ الشهيرة سلس للقرّاء قياد السدّ وتخلّى لهم غيلان عن جبروته وتمثّلت لهم ميارى أشبه بمغتسلة أبي نواس “شعرها كأنّه رغوة القمر”…
وحده علّمنا أنّ العلم لا يواتيه الصخب ولا تدانيه الألقاب. لمّا غاب الأستاذ عن كلية الآداب وآلت شهادة المناهج إلى غيره، نُسي كأن لم يكن، وحلّت عبارة الدكتور هنا وهناك تحكي صولة الأسد، وازدانت بها الواجهات ولا عمق…
توفيق بكّار .. كان عملاقا .. أصيلا حتّى النخاع!
كنّا نجلس بين يديه في شهادة المناهج، في الدرس العامّ بالمدرّج لا نكاد نراه من الزحام .. وكنت ترى الطلبة كأنّ على رؤوسهم الطير .. لا شيء يسقط ممّا يقول الأستاذ، فلا فضلة بلسانه .. وإن ننسَ لا ننسَ عبارته الشهيرة “كيف أقول؟” .. ومن كان أقدر منك على القول يا سيدي؟
توفيق بكّار لا تأتي رياح الخريف على ورقه، ولا يقع من ثمره ما يخامره الفساد .. على أنّه يتحدّث همسا.
في الدرس التطبيقي يعجن النصوص قديمها وحديثها، ويكاد كلُّ حرف يخرج من فيه ملفوفا بنشوة التبغ .. ولا تكاد، وأنت تراه، ترى الدخان يتسرّب من شفتيه .. كأنّه يجد هناك في أحشائه ملاذ المعنى .. أو كأنّ الدخان يتحوّل كيميائيا إلى عبارات لا تلقاها عند سواه .. ولا تنتهي الحصّة إلّا وقد ترك كومة من أعقاب سيجارته “الروايال” عليه شاهدا ودليلًا.
ومن عجب أنّه في رمضان يصوم عن التدخين وهو اليساريّ العنيد، لقد كان شديد الاحترام لطلبته على اختلاف ميولهم وألوانهم. وفي رمضان، نفسه، كنّا نجري امتحانات دورة جوان فيأتينا بعض الأشباه للمراقبة مسلَّحين بقهوة تزكم أنوفنا ريحها مخلوطة برائحة التبغ ينفثونه في وجوهنا كما لو أنّهم قدموا لتوّهم من كوكب مختلف لم يعلموا من أمرنا شيئا، ولا يعنيهم أمرنا في شيء.
وكان توفيق بكّار يلتزم صومه عن سيجارته الأثيرة.
توفيق بكّار قيمة وقامة..
علمُ واسع في خُلُق رفيع..
عاش للنصّ في صمت وذهب في صمت..
لم يُغْوِهِ صخب المرجفين.
احتفى قبل أن يختفي َ.. لأجل ذلك لن يخفيَه موته عن ذكر ذاكريه.
اللهمّ جازه عنّا خير الجزاء .. فلقد بثّ في الصدور علما لا ينكره جاحد ولا ينساه ضعيفُ ذاكرة ولا يتجاهله لئيم.