تونس- «القدس العربي»: لم يحظَ جامعيٌّ تونسيٌّ باعترافٍ أكاديميّ وثقافيّ كما حظي به الراحل توفيق بكّار (1927- 2017)، فقد تسمّى في أوساط المثقَّفين التونسيّين بـ«رولان بارت التونسي» و«الأستاذ» و«معلِّم الأجيالِ»، وهي أسماء استحقّها بفضل ما له من مسيرة أدبية وسيرة حياتية تميّز بهما معًا عن مُجايليه، وصنع منهما أنموذَج الأستاذ الذي يُبدعُ في درسه ومقالاته بلغةٍ أصيلةٍ وجديدةٍ لا تُخفي شميمَ ما فيها من بلاغةِ القُدامى، كأنّما هي متواطئةٌ معه على جِدّةِ التعبير وإجادتِه. والراحل من مؤسّسي الجامعة التونسية وأحدُ أعلامها، وهو من أوائل الذين أدخلوا إليها المناهج النقدية، واهتدى بها في قراءة الأدب التونسي على غرار كتابات الدوعاجي وخريّف والمسعدي، واعتمدها سبيلا إلى الغوص في كتابات نجيب محفوظ والطيب صالح وإيميل حبيبي وإبراهيم الكوني وغيرهم من الكتاب العرب، إضافة إلى أجود نصوص الأدب القديم.
ولتعرُّفِ صورة توفيق بكّار لدى المثقّفين التونسيّين تُقدّم «القدس العربي» شهادات عنه كتبها بعضُ الجامعيين التونسيّين مِمَّن تتلمذوا على يديه:
صلاح الدين بوجاه، روائي وأكاديمي
كان أبا لنا جميعاً
كان توفيق بكّار يُشعرني – في رسائلي الجامعية التي أشرف فيها عليّ – بأنَّ إضافتي ضرورية للأدب العربي! ورغم أنني كنت أصاب باليأس أحياناً فإنه كان يرفعه عني دائماً. ويوجهني نحو المستقبل. في بيته كان يرحب بنا بكل ما أوتي من محبة ورحابة صدر وإقبال نحو المستقبل. في الحياة العامة كان أخاً عطوفاً وكائناً كريماً قادراً على الجمع الذكي بين الحياة والحياة الخاصة!! كان الرجل حداثيا ًحتى النخاع قادراً على استقراء المستقبل والإبحار في أسلوب بديع أخاذ وأنيق. في المناسبات العامة، مثل انتخاب اتحاد الكتاب، كان يبقى على الحياد، لذلك بقي فعلاً صديقاً للجميع، قادراً على التجاوز. لهذا هو رئيس جميع الأدباء والكتاب والفنانين. كان يمكن أن يشرف على قطاع الثقافة (لو كانت الدنيا دنيا) لكنه كان أكبر من ذلك وحقّ الأدب والفن. كان ناقداً كبيراً ومبدعا ًكبيراً، بل وشاعراً كبيرًا! ولماذا لا نقول إنه اختزل كلاً من جبران وميخائيل نعيمة في شخصه وهو الأقدر على ذلك؟ في جلساتنا الخاصة كان يمارس الحداثة مثلما يراها حتى يطير مجنحاً في سماء الفن بأجنحة الخلود. كان الأقدر على ابتداع الخلود. رحمه الله، لقد كان أستاذاً وكان أباً.
توفيق العلوي، روائي وأكاديمي
في انسياب الكلام
«أهلا سي توفيق، كيف الحال؟ الصحّة لا باس؟ بصراحة درسُ الحصّة السابقة ممتازٌ، نقاشٌ معمّقٌ، وحوارٌ جِدّيٌّ»، يبتسم لحقيقة يعتبرها مجاملة، ويُجيب في تلطّف «الصحّة لا باس، والدرس ممتاز لأنّ مستوى الطلبة متميّز». ينساب حديثه بلسماً وهو يحرّك يديه ريشةَ فنّان ساحرة تصنع خطابا أدبيّا نقديّا غير عاديّ، يشعرك بمحبّة لما يقوله، ومودّة لمن يُحدِّثه، كان ذلك سنة 1988. أذكرك الآن سي توفيق وأنت تسير في هدوء أرجاء القسم معلّقاً على نصّ من نصوص «البخلاء»، وقد كنت كريما معنا، أو من «موسم الهجرة إلى الشمال»، أو من نصوص مقامات الهمذاني، سكون في القسم كلّيّ، وانتباه تام، وتهافت على كتابة درر تؤسّس لنقد أدبيّ ما تعوّدنا به، فإذا انتهى الدرس التففنا بك نسألك مزيد المعرفة، فإذا حلقة نقاش قد تأسّست، وإذا الدرس على الدرس تماماً كما الكلام على الكلام.
أذكر لمّا شرّفتنا بحضورك في ندوة «الرحيل المعرفي» التي نظمها قسم العربية بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس سنة 2006، وقد بدأتَ مداخلتك منتصف النهار والقاعة مكتظّة ساكنة، كان ارتجالك ينساب انسياباً يُنسي الحاضرين حرارة الطقس، الفكرة بالفكرة، والجملة بالجملة، والمنصتون بنفس متجدّد، مرّت ساعة ونصف بلسما روحيّا، وبردا معرفيّا يروّح على الحاضرين ويشعرهم أنّهم في جنان المعرفة، همس أحد المنظّمين في أذني، وقد كنت جالساً إلى جوار الأستاذ توفيق بكار لأحاضر بعده، «أنْ حان وقت الغداء»، أومأت إليه برأسي أنْ قد سمعته، وأنّ قطع المحاضرة عن الأستاذ توفيق بكار غباء لا أملكه ولا أنصح به، واصلت الإنصات والقاعة مطمئنّة إلى نفسها، لا صوت يعلو على صوت الأستاذ، رجع نفس الهامس يعلمني بأنّ «الغداء برد»، تجاهلته، تسمَّرَ يُبلّغني أنّها أوامر المدير، رجوته أن يبلّغ المدير أنّ المحاضر اسمه توفيق بكار، نظرت في الساعة فإذا هي الثانية والنصف والانسياب هو هو والمتعة هي هي، والحاضرون في ازدياد، منهم من وجد مكاناً ومنهم من ينتظر، رجع الهامس ليضع ورقة أرسلها مدير المعهد أمام رئيس الجلسة الذي سارع في غضب بوضعها في جيبه حتى لا يحرج الأستاذ توفيق بكار، داريت ابتسامتي، وحمدت الله أن الرئيس ممّن لا يقدّرون الغباء والأغبياء.
فجأة أطلّ مدير المعهد يستقصي الأمر وفي نظرته احتجاج على عدم احترام التوقيت، فإذا صوت ينجم من عمق القاعة ينادي «رجاء، الغداء الحقيقي ما نسمعه الآن»، تعالت أصوات مساندة «ألاّ حاجة إلى الغداء الملعون»، عاد المدير منكسرًا وقد اعتقد في الدعوة مكرمة، وابتسم الأستاذ توفيق بكار يعلن حبّه للذكاء والأذكياء، ازداد انسيابه، وتصّاعدت إلى الأفئدة متعة فكريّة أدبيّة اختار الموت أن يقطعها في غباء فاق غباء الهامس وسذاجة المدير.
انتهى الانسياب حوالي الساعة الثالثة والنصف بتنهيدة جماعيّة تلعن مرور الوقت، وتهانٍ بين الحاضرين وقد وعوْا حلو الكلام وإيقاع الخطاب ومتعة الفكرة، يمسكني رئيس لجنة التنظيم من يدي ويعتذر لي في لطف أنّ محاضرتي لضيق الوقت تأجّلت للغد، أجبته أنّي لست على غباء لأحاضر بعد الأستاذ توفيق بكار، ابتسم يعانقني تلطّفاً بي، والتحقنا بالجمع الغفير الذي حلّق بالأستاذ، فإذا المحاضرة متواصلة وإذا الانسياب هو هو والمتعة هي هي، وإذا أذكياء هذا البلد الأمين كثر، وإذا «شجرة السرد» ممتدّة أفنانها ترتوي من فنونك ومعرفتك. سي توفيق، ينعصر قلبي وأنا أراك في طريقك إلى رمسك، ما «أغبى» الموت، لا تلمه سي توفيق، لم يدرس عليك، ولم يجلس إليك.
عبدالرزاق الجمامي- أكاديمي مقيم في السعودية
أستاذ استثنائيّ
جلسنا أمام الأستاذ توفيق بكار طلاب علم عام 1972 لأول مرة في مدرج من مدرجات كلية الآداب 9 أبريل بتونس. كان ذلك في شهر تشرين الأول/ أكتوبر وكان عنوان المقرر «الأدب التونسي في العصر الحديث» ومنذ البداية لاحظنا أنه أستاذ مختلف، إذ لم يجلس إلى المكتب في قاعة المحاضرات ولم يضع أمامه مذكرات يملي علينا منها درسه، بل وقف وسط القاعة الفسيحة وبيده الميكروفون يلقي محاضرته بهدوء وتسلسل ونحن نستمع بشغف وندون الملاحظات، وكان والشاعر يلقي محاضراته في حالة من التلذذ والتخيل تجعلك تدرك أسرار الأدب التونسي التي كنا نجهلها وتتراءى لنا صور علي الدعاجي والشابي ومحمد العريبي ومحمد الحليوي ما بين سجوف دخان سيجارته التي لا تفارقه وهو يدرِّس. أما في حصص الأشغال التطبيقية فكان يغرق في شرح النص الأدبي ونقده، ويستبطن أسراره وكم شغفنا بنجيب محمود في اللص والكلاب وهو يشرحها وفي سنة 1974 درسنا أدب المسعدي تحت عنوان «المأساة في أدب المسعدي من خلال كتابي: «السُد»، و«حدث أبوهريرة قال» وقد حلق بنا إلى أقصى متاهات النقد وبفضله أصبح الأدب التونسي مقرراً في برامج التعليم الثانوي. هذا دون الحديث عن إنسانيته والتزامه وحضوره الثقافي ناقداً ومُحاضراً في شتى الملتقيات ومازلت أذكر مساهمته في ملتقى فريد غازي بجزيرة جربة أو طوافه على أكشاك الكتب بالقاهرة. وقد صادفته بها عام 1999، أو حرصه على إبلاغنا بآخر مستجدات الدراسات النقدية الفرنسية. رحم الله توفيق بكار، لقد كان ناقداً فذاً وأستاذًا استثنائياً.
فتحي فارس، أكاديمي
ذِكْرُ الفتى عمره الثاني
«ذكر الفتى عمره الثاني» هكذا قال المتنبي، وهو قول يصدق تماماً في فقيد الإبداع والنقد في تونس الأستاذ توفيق بكّار، كان رجل المعارك الكبرى، لكنّها معارك مع النصوص يشكم جموحها ويلين نفورها ويروّض شرودها بكفاءة لا توصف. ذلك ما كان منه مع من صحب من الشعراء أمثال أبي الطيّب، وأبي نوّاس، وبشّار ابن برد،… ومع من طلب من الناثرين أمثال بديع الزمان الهمذاني، وصاحب الأغاني، وابن المقفّع في حكاياته المَثَليّة.
لم يسكن القديمَ فحسب، بل سكنته الحداثةُ نصّا ومنهجا، فيها قدّم «اللحمة الحيّة» لصالح القرمادي، وديوان الطاهر الهمّامي، كما قدّم شعر درويش في مختارات رائعة ضمن سلسة عيون المعاصرة التي عرضت علينا أجمل ما كتب العرب، ونحن لم نزل يافعين نتعلّم المشي على مدارج الأدب، نتهيّب تمنّع نصوص محمود المسعدي، وعلي الدوعاجي.
ما زالت الذاكرة تحتفظ بأحد دروسه التي واكبت، كان ذلك في إحدى قاعات كلية الآداب بمنوبة ذات أمسية من أمسيات 1991. كان مدار الدرس أدب الدّوعاجي وجماعة تحت السّور، تحدّث الأستاذ بكار بكثير من الشّوق والرّغبة عن الجوانب الجمالية الظاهرة والخفية في «سهرت منه الليالي». كان كثيراً ما يتّكئ على عبارته الشهيرة «كيف أقول؟»، ثمّ يقول، فيحسن القول بصوت هادئ وروح فيّاضة وابتسامة خفيفة لكنّها متواصلة تنمّ عن شخصية ودود وخلق رفيع. في حديثه إمتاع يشدّك بخيط سحريّ رفيع ويأسرك فلا تستطيع إلاّ متابعة تلك القامة الفارعة وهي تفيض من عذب الكلام، يفتح للأدب أوْسَاعًا على الإنسان في كلّ حالاته وتجلّياته.
توفيق بكّار درّس حسين الواد، وحمادي صمّود، وصلاح الدين الشريف أعلام الجامعة التونسيّة، علّم الدّكاترة كافّة وظلّ أستاذا، «الأستاذ» كما يُحبّ أن يُدعى، كان مميزا في بيداغوجيّته، تنم حركاته عن دقة في التشخيص ولطف بالغ في الكشف، يسهل عليه كسب النفوس بتواضع العلماء وعفّتهم. وحين «أراد» الرحيل، اختار أن يرحل ليلة الإسراء والمعراج. وكأنّ نفسه السامية تأبي إلا أن ترتفع وتحلّق إلى علّيين.
فتحي النصري، شاعر وأكاديمي
ذو نَفَسٍ تقدُّميٍّ
ما من أحد من طلبة العربيّة إلاّ وتتلمذ على الأستاذ توفيق بكّار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. تعلّمنا منه الكثير؛ العلوم والمناهج الحديثة في تحليل النصوص ولا سيّما حرّيته في الإفادة منها وتطويعها لطريقته الخاصّة في مباشرة عيون الأدب القديم والحديث. تلك الطريقة المحبّبة التي تجمع بين الطرافة والدقّة وبلاغة الإبلاغ. لم أتعلّم منه كيف أقرأ أدب المسعدي فحسب، ولكن تعلّمت منه أيضا كيف يمكن أن يعرف الناقد الفذّ المبدعَ أكثر ممّا يعرف المبدعُ نفسَه أو على الأقلّ بطريقة لا توافق بالضرورة ما يقوله المبدع عن أدبه. لقد أشاع بكّار في الدراسة الأدبيّة نفسا تقدّميّا لم يكن إفرازا لسطوة إيديولوجيّة مّا، ولكن كان سليلاً طبيعيّا للنزعة العلميّة. وكان لهذا أثره على الأجيال التي تتلمذت عليه، فلم تعزل الجامعة عن الحياة الثقافيّة. ولم يكن حضور بكّار خارج أسوار الجامعة أقلّ أهميّة من حضوره داخلها. وكأنّ لسان حاله يقول مع خليل حاوي: «أنا لست منكم طغمةَ النساك واللحم المقدّد في خلايا الصومعهْ/ لن يستحيل دمي إلى مصْل/ كذبت كذبت/ جرّوني اسلخوا عنّي شعار الجامعهْ».
كان آخر درس أنجزه في كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة 9 أفريل منذ أربع سنوات بمناسبة إطلاق اسمه على المدرج «أ». كان ذلك باقتراح من قسم العربيّة زكّته الكلّيّة. قدّم يومها قراءة في خبر من كليلة ودمنة. غصّ المدرج بالحضور من الأساتذة والطلبة حتّى أنّ المدرج لم يسعهم. وكان عدد الواقفين لا يقلّ عن الجالسين. كان يوماً مجيداً من أيّام العلم. وكان كعادته طرافة وإمتاعا وإفادة يحوّل النصّ إلى جملة من المعادلات الهندسيّة تكاد من شفافيّتها نراها سابحة في فضاء المدرج. في تلك المناسبة حضرتني أبيات أنشدتها تكريما لأستاذ الأجيال احتفظت ذاكرتي منها ببعضها:
«مدْرج بكّارٍ وأَعْظِمْ به من مدرجٍ يزهو ببَكّارهِ
هذا اسمه يعلو على بابه ثبّته العلم بأنوارهِ
قضى به «القسم» وفاء له واللهُ أمضاهُ بأقداره».