هل يختلف منطق الشاعر عن منطق المؤرخ؟ سؤال ربما لا فائدة منه؛ فهو من نافلة القول، فالمؤرخ يبدأ عمله بعد أن يكون الشاعر قد قال كلمته، وقد يظهر بعده بعقود أو قرون، وهذا من نافلة القول كذلك. وقد يكون الأجدى أن نتحدث عن "ناقد" يدرس نصوص الشاعر ويحللها فيضعها في سياقها ومكانها الصحيح. لماذا، إذًا، يجري التشديد على صفة المؤرخ هنا؟ نتحدث هنا عن سياق سياسي-ثقافي-تاريخي مختلف ومضطرب، وربما منقلب على نفسه. نعرف أن المؤرخ سيظهر بعد حين، وسيكون قد ظهر، قبله وفي زمنه أيضًا، نقاد أدب صنفوا النصوص وحللوها، وسيعمد المؤرخ الأدبي إلى فحص نصوص "الشاعر" وقراءات نقاده، ويترك لنا كلمته. هل هذا كلّ شيء؟ عندي أنه مفتتح الأمر؛ ذلك أن الدراسات العربية تختصر مهمة أو مهمات المؤرخ الأدبي بخانة صغيرة تتراكم فيها مقولات التحقيب الزمني-التاريخي. وأظن أن المؤلفات الكبرى في موضوعة تاريخ الأدب العربي قد فعلت فعلها في هذا السياق، لا سيّما موسوعة الراحل شوقي ضيف التي تُدرس في أغلب الجامعات العربية. ولقد جرى في تلك الموسوعات الكبرى التي مضى على أحدثها عقود بعيدة، وضع الأسئلة والصياغات النظرية المعتمدة في أي تاريخ للأدب العربي. تلك السياقات والأسئلة قد تجاوزها الأدب العربي نفسه. وفي حالتنا فإنه من المهم لنا، قراءً ومختصين، أن يُفسر لنا المؤرخ الأدبي لماذا لم تعد قصائد سعدي يوسف، بعد مغادرته العراق، لا سيّما في التسعينيات، مقبولة لدى القارئ والمتابع العراقي؟ لماذا صار كثيرون يتهمون الشاعر بأنه قد مات شعريًّا؟ هل القصة تخص شعر سعدي يوسف نفسه، أم أنها تتعلَّق بالقارئ وسياقاته الثقافية-السياسية؟
لنبدأ القصة من أولها.
في شباط من عام 2008 نشر موقع إيلاف السعودي مقالي عن سعدي يوسف، وكان ضده جملة وتفصيلًا. بعد أيام عرفت عن طريق غوغل أن سعدي يوسف نشر مقالي على موقعه الإلكتروني بعد نشره في إيلاف، ربما بربع ساعة. لم يرفع منه حرفًا واحدًا. بعد سنوات كتبت مقالين ضده كذلك، فتولى نشرهما على صفحته في فيسبوك. في يوم وفاة الشاعر أعدت نشر المقال "الأب سعدي يوسف: ولكن قصة الوطن لا تشبه قصة المنفى.. قال الابن"، ولقد لفت انتباهي تعليق من صديق يعتقد أن ما كتبته في ذلك الوقت هو مديح مبطن لشعر سعدي وله شخصيًّا، وأني أعتقد بـ"أبوية" سعدي لي. تبسمت وأنا أقرأ التعليق ولم أرد عليه؛ فما كتبته في المقال المذكور كان ضد سعدي يوسف وشعره جملة وتفصيلًا. لكن أن تكتب أن سعدي يوسف ومحمود درويش وأدونيس هم الأهم في الشعر العربي، مثل هذا الكلام هو مديح لسعدي وشعره. ولا بأس؛ لكن هل المشكلة في المديح أو الذم؟ هل تنتهي المشكلة مع سعدي أو غيره بالشتيمة أو المديح؟
أريد هنا أن أتحدث، بعد ثلاث مقالات اختصت بسعدي ومواقفه، عن أربع نقاط جوهرية كما تبدو لي. تتصل النقطة الأولى بأن الموقف المتشنج ضد سعدي يوسف لم يكن وليد الاحتلال عام 2003؛ فقد كنت أسمع حوارات موسعة بين عدد كبير من المثقفين العراقيين في بغداد أو الحلة أو كربلاء، حيث درست وعملت وأعيش، جوهر تلك الحوارات كان عن قصيدة كتبها سعدي يوسف لتوني بلير وأخرى لقائد القوات الأميركية يطلب فيها إنهاء حكم الديكتاتور وتخليص العراق منه. وهذا الكلام ذاته كتبته، أنا، في مقالي الأول. القصد هنا أن التشنج والعداء لسعدي لا علاقة له بموقفه من الاحتلال. ومهما قيل عن طموحات سعدي بمنصب وزاري أو موقع سياسي مهم بعد إسقاط الديكتاتور فإنه يظل محض احتمال لن يغير من واقعة التشنج والعداء اللاحق لسعدي. وسيتخذ مناوئو سعدي من تحولاته السياسية وبعض قصائده دليلًا على تهافت رفضه لحالة العراق بعد إسقاط الديكتاتور.
تتعلّق النقطة الثانية بالأساس الذي قام عليه الموقف المتشنج من سعدي وشعره؛ إنه فرضية نضوب الشعر عند الشاعر المعروف، في الأقل هذا ما تدعيه جماعات المثقفين. إذ نمت عندنا هذه الفرضية منذ مطلع التسعينيات حتى صارت أشبه بالحقيقة التي لا تُراجع. وصرنا نقرأ على مواقع إلكترونية مختلفة بعض تفاصيل هذا الرأي، ثم تحولت هذه الفرضية، في زمن فيسبوك وتويتر، إلى "معزوفة" يرددها حتى من لا يستطيع تأليف جملة عربية صحيحة. سعدي مات شعريًّا، سعدي لم يكتب شعرًا بعد مجموعته الشهيرة المعتمدة في العراق (مطبعة الأديب البغدادية، 1978)، حتى ديوانه الصادر بجزأين عن دار الآداب البيروتية، وهو الأقل تداولًا في العراق. غير أن هؤلاء يتغافلون عن حقيقة أساسية تقول إن الطبعة العراقية الأولى لديوانه وحتى طبعة دار الآداب لم تتضمنا سوى ثلث شعر سعدي يوسف. في المقابل، هناك ثلاثة أرباع شعر سعدي لم تُقرأ، ولقد تضمنتها الأعمال الكاملة الصادرة عن دور المدى والجمل والتكوين السورية؛ فكيف يمكن أن نصدق بفرضية نضوب الشعر وموت الشاعر؟ سيحتج قائل بقوله إن المسألة ليست في الكم، وهذا صحيح ولا شك؛ فليست العبرة بالكم فقط، لكن هل قرأ القائلون بموت سعدي يوسف الشاعر هذا الشعر، وهو الأغلب في نتاج الشاعر؟ أجزم أن الأغلبية القائلة بهذا الرأي لم تقرأ سوى الطبعة العراقية للأعمال الكاملة، أما باقي الشعر فلم تقترب منه سوى قلة لم تفهمه. هل أريد القول إن اولئك القلة هم من أشاعوا هذا الحكم الشفاهي المجاني، شأن معظم ما يجري تداوله في مقاهي المثقفين وتجمعاتهم، ولا أقول الناس العاديين، من حقائق هي ليست سوى أحكام ذائقة لم تستسغ شعر سعدي بعد مغادرته البلد؟ ربما، ولكن لماذا لم تستسغ تلك القلة شعر سعدي الجديد؟
أزعم أن النقطة الثالثة هي جوهر مشكلة شعر سعدي يوسف مع قسم كبير من القراء والمثقفين العراقيين؛ وهي كامنة في منطق المنفي في كتابته شعرًا ونثرًا. فهذا المنطق غريب وشاذ عندنا في الداخل العراقي؛ ذلك أن المنفي لا يملك وطنًا سوى ذكريات بعيدة عن بلاد لم تعد بلاده، ولا يمكن أن يعود إليها حتى لو زال مسبب النفي والهجرة. فلا منفي يعود إلى مكانه الأول. منطق المنفي كان جوهر أطروحتي التي حصلت بها على الدكتوراه قبل عقد ونصف. وفي تلك الأطروحة التي لم أعد إليها ثانية كتبت أن المنفى مقولة سائبة ذات إغراء عالٍ يستخدمها سواق شاحنات الحمل والسيارات التي تعبر كل يومين معبر "طربيل" الحدودي باتجاه الأردن، مثلما تستخدمها بائعة "الفجل" في الساحة الهاشمية حتى صرنا نتحدث عن "أمة في منفى" كما يكتب شاعر عراقي. ولا بأس؛ فبعد عام 1991 صار الجميع منفيين، من هرب بجلده بعيدًا عن موت مجاني في عراق محاصر ومدمر هو منفي، ومن ركب البحر وغامر بحياته هو منفي أيضًا. لكن هؤلاء كانوا عاجزين عن فهم أن المنفي هو، فقط، المقتلع من جذوره، المنبت الذي لا يرى أمامه سوى السماء الشاسعة. فليس المنفى حدودًا تعبرها، ولا بحار تخوض بها بحثًا عن ملجأ، إنه منطق الخاسر الذي فقد كل شيء، فصار خياله وطنًا له، إنه ما تسميه صاحبة نوبل إيزابيل اليندي عن بلادها المخترعة التي لا تتصل بالبلد الذي يشغل مكانًا معروفًا على الخارطة. منطق المقتلع هو الذي كتب عبره سعدي يوسف أغلب شعره الميت كما يُقال عندنا. فلاح رحيم، الكاتب العراقي المعروف، عبر عن صدمته بشعر سعدي يوسف المنفي في مجموعته "إيروتيكا"؛ فموضوعها هو الجنس والجسد، فلا مكان عراقي، ولا شعر سعدي الذي عرفناه في مجاميعه السابقة. فلاح رحيم الذي يقول لنا، في الأقل هذا ما قاله لي شخصيًّا، إنه لم يكتب حرفًا واحدًا في سلسلته الروائية إلا بعد أن أصبح بعيدًا عن بلده، في نهاية العالم: كندا. رحيم فهم الأمر مبكرًا، فهم أنه لم يعد أمام سعدي يوسف صاحب "نهايات الشمال الأفريقي"، إنه أمام منفى تقطّعت به السبل عن بلاده وسمائه الأولى. وعندما مات سعدي يوسف كتب رحيم رثاءً جميلًا عنه. وأحسب أن فلاح رحيم من القلائل الذين فهموا الأمر ولم يورطوا أنفسهم بالكتابة المعادية لمنطق الشاعر المنفي. لقد غادر سعدي العراق وهو شاعر كبير، وهذه النقطة مشكلة كبرى؛ لأن قراءه تعلقوا بقصيدته عن جدارية فائق حسن، عن الأخضر بن يوسف، عن نهايات الشمال الأفريقي، فلما جاء شعر المنفى كانت خيبة القراء والمثقفين الكبرى به.
ثمة نقطة رابعة وأخيرة تتعلق بتصفية سعدي يوسف لما تبقى من مشاكله مع ماضيه. وهذه النقطة جوهرية جدًّا؛ لأن سعدي سعى، طيلة ثمانية عشرة سنة حتى وفاته، إلى مراجعة تقييماته لمثقفين عراقيين ارتبط بهم وارتبطوا به، وبعضهم كان سعدي نفسه هو من قدّمهم للجمهور لأسباب تتعلق بانتمائه السياسي، أو في الأقل إنه لم يعترض على تمرير أسمائهم وترسيخها في الوسط الأدبي. حدث هذا الأمر طيلة عقود كان سعدي يدير المؤسسات الثقافية لليسار العراقي، لا سيّما ما يتعلّق بمؤسسات الحزب الشيوعي العراقي. وكان الحزب، مثلما كانت تلك المؤسسات تدفع باتجاه تقديم الأسماء الأدبية للجمهور. لنتذكر هنا، على سبيل المثال، أن النظام الداخلي للحزب الشيوعي يسمح لكل عضو بالتعبير عن آرائه ما دامت لا تتعارض مع سياسة الحزب. هذه المراجعة حوّلت سعدي يوسف وشعره إلى مكب توسع وكبر لشتائم كل من طالته مراجعة سعدي.
في الحقيقة، أنا أشكك بكل ما يصدر عن منطق الكراهية. منطق المؤرخ للأدب، للحياة العامة، للتاريخ، لا يمكن أن يكون صادرًا عن كراهية. شخصيًّا أشكك بقيمة كل المقالات التي يزعم أصحابها أنهم اكتشفوا حقيقة سعدي يوسف، ومثلها قيمة مقالات مشابهة عن السياب والبياتي. لا تصلح الكراهية أن تكون قيمة عليا. هذا كذب يجب فضحه اجتماعيًّا ووطنيًّا؛ إن كنا حقا ننتمي، بصفة مثقفين، لوطن متخيل أو حقيقي. اليوم يرحل سعدي يوسف ويترك شاتميه خلفه، مثلما لن يكون بإمكانه أن يلقي نظرة على المودعين له. ليس في نفسي عنه سوى شعره العظيم.
عن موقع جدلية 2021