من غير مشيعين مشى الأخضر إلى غيابه الأخير. سعدي يوسف شديد التمسك بعراق غير منقوص. عراق حقيقي بأنبيائه وشعرائه ومجانينه وعشاقه وبُناته وعباسييه وجميلاته وليس دولة ورقية حسب الطلب.
أسوأ ما في الموت أنه يستدعي الرثاء. ولأن الموتى لا يقرأون المراثي ولا يستمعون اليها فإن الحيرة تقف ما بين المرء وبين تصديق ما يفعل.
قبل غيابه بسنوات كان سعدي يوسف الشاعر الكبير الذي أغمض عينيه قبل أيام على فجره الأخير قد كتب قليلا من المراثي ولكنها كانت تأتي دائما ملغومة بطعم السخرية المر. غير أن المرثية الكبرى هي تلك التي كتبها لنفسه "ما الذي قد فعلت بنفسك" جملة واحدة قالها الأخضر بن يوسف صارت النشيد الكوني لجيلنا التائه.
قبلها كان السؤال "ما الذي لم نفعله لكي نصل إلى النهاية قبل أن نبدأ؟" بعدها صار السؤال "ما الذي فعلناه لكي يكون العبث مصيرنا ولم يعد في الإمكان وضع الحصان أمام العربة؟"
كان سعدي معلمنا في الشعر وهو نفسه كان أيقونتنا في الحياة. كنا صغارا ولكن بسببه عشنا ما يكفي لكي نكون مواطنين مؤجلين، سجناء سابقين، مشردي المستقبل وعشاقا مجانين. كان صوتَنا الخفيض وصمتنا الجارح. كان سفيرنا إلى الزمن الذي لم نعشه وإلى القارات التي عبرتها شيخوختنا على عجل. وهو مرآتنا التي نرى فيها أعمارنا الهاربة.
ألأننا كنا نلتقط مفردات معاجمنا من المسافة التي تقف بين كلمة وأخرى من كلماته صار لنا صوته فصرنا نحبه لأننا نسمعه حين نتكلم ونشم أثر خطوته حين نتنفس؟
كان سعدي يقيم فينا ومن حولنا ويرافقنا مثل شبهة فيما الحراس يفتشون جيوبنا بحثا عنه. ونحن نضحك. فهو المنديل الأبيض المطرز بشفاه حبيباتنا المتخيلات وقلم الحبر المغلق على كلمة لم تُكتب بعد والرسالة التي قبل أن نفتحها كنا نعرف أنها كانت بيضاء. كنا نضحك لأنهم لن يجدوا شيئا فسعدي لا يترك أثرا لخطوة حين يمشي فهو يحلق كما أن صوته الذي يصل إلى القلب لا تصلح كل إذن لالتقاط ذبذباته. فقط الآذان التي هي عبارة عن نوافذ تطل منها القلوب على العالم.
كان سعدي هناك دائما ولم يكن يوما هنا. كم مشينا لكي نصل إليه. لم نصل لأن قواربنا لم تكن من النوع الذي يقاوم العواصف التي تحيط بجزيرته. اكتفينا بوصاياه لكي نعيد النظر دائما بعلاقتنا بالوطن من خلال لغته. كل جملة كان يقترحها على العربية كانت في حقيقتها بابا لسماء جديدة، كنا نؤثث حياتنا بغيومها.
كان سعدي هو الأب والخصم، الملك والضحية، المسافر والقبطان والكاتب والكتاب. كنا نقرأه لنضيع ونحن على يقين من أنه يقودنا إلى عالم جميل تعود فيه الأشجار إلى أصلها في الجنة. تلك الشجرة التي اختلفت العقائد في وصفها ولم تهتد إلى التقاط ورقة واحدة منها. كان شعر سعدي يأتينا مكتوبا على أوراق تلك الشجرة.
كان سعدي يقاوم الوصف. يقلقه أن يقع ضحية نفسه. وهو بالرغم من تواضعه كان عنيدا، صلبا لا يخشى أن يخسر كل شيء إذا ما قال الحقيقة. لذلك أضفت مواقفه الوطنية المتشددة طابعا جوهريا مضافا على شعره. الشاعر الذي علق خارطة العراق ذهبا في رقبته كان شديد التمسك بعراق غير منقوص. عراق حقيقي بأنبيائه وشعرائه ومجانينه وعشاقه وبُناته وعباسييه وجميلاته وليس دولة ورقية حسب الطلب.
كان عراقه يشبهه. رقيقا مثل وردة قويا مثل حجر.
سعدي الذي كتب شعرا، بل أكثر مما نتوقع من شاعر واحد في حياة واحدة وأكثر من أن يفعلها شاعر عربي في هذا الزمن السيئ عاش كثيرا وكان بطلا بالمعنى الاغريقي. لقد قاوم المصائب الشخصية والكوارث الوطنية بقلب شجاع وعين لا يعميها الدمع عن رؤية الحقيقة.
من الخارج تبدو مسيرته وكأنها خاصة برجل منعم، مترف لم يكن لديه ما يفعل سوى الكتابة. ولكنها ليست الحقيقة. كان سعدي رجلا معذبا ضربته المصائب التي قاومها بايمانه بالشعر. فكان يكتب كل فجر. يكتب قصيدة كلما التفت وكأنه يلتقط خفقة هواء تركتها حسناء وغابت. مئة كتاب معظمها شعر. ستة مجلدات كلها شعر. وجمل تذبح قالها من أجل أن يسمي الأشياء بأسمائها ويضع كل شيء في مكانه ولا يختلط الحق بالباطل ويضيع حلم الوطن بعد أن ضاع واقعه.
ترك سعدي شعرا كثيرا، لعب من خلاله بأرواحنا قبل أن يلعب بتقنيات الكتابة. الشاعر الأكثر تأثيرا في تقنيات الكتابة الشعرية في تاريخ الشعر العربي كله لم يعثر على متر من الأرض العربية يأوي جسده فمشى وحيدا، من غير مشيعيين إلى غيابه في مقبرة إنكليزية.
عن ميدل أوست