رحل قبل أيام الشاعر والمترجم العراقي سعدي يوسف، بعد أن ترك منجزاً شعرياً اتّسم بوفرة واضحة، بالتّجاور مع رؤية شعرية مُتفردة، يصحبها تشكيل فني بدا مُفارقاً للصيغ السّائدة، غير أنّ مواقفه وآراءه واجهت الكثير من الجدل، ولاسيما في السنوات الأخيرة، ومع ذلك، فإن مشروعه الشعري واكبه منجز ثقافي آخر، ونعني ترجماته لبعض أهم الأعمال الأدبية والفكرية، التي عكست عقل الرجل على مستوى الاختيار، في حين أنّها – من ناحية أخرى- بدت مختلفة على مستوى اللغة، من خلال دفع النص المُترجم إلى حدود لغة قريبة من وعي النص الأصلي، وحدوده الفكرية، كما الشعورية، مع تجاوز الاضطراب القائم في بعض الترجمات المُتعثرة أو الحرفية، التي تفتقر لإدراك الأبعاد الثقافية للنص، في حين يشار إلى أن ترجمات سعدي يوسف تراوحت بين الشعر والفكر والرواية.
لعل أهم ما يميّز تلك الترجمات وعيها المبكر، أو تلك الرغبة بالكشف عن قوى لتوجيه القارئ العربي لبعض الأعمال، وهنا أستعيد صدى كتاب الروائي النيجيري نغوغي واثينغو «تصفية استعمار العقل» الذي يعدّ من أهم الكتب
المركزية في نقد المنظومة ما بعد الكولونيالية، إذ يمكن القول بأن وعي سعدي يوسف بهذا الكتاب، وغيره من الكتب، انطلق من ثقافة وإدراك عميقين لبعض المفاصل التي رأى أنها غائبة عن ذهن القارئ العربي، فنظرة إلى ترجمات تلك الكتب يقودنا إلى الاستنتاج بأنه كان انتقائياً جداً في ترجماته، وكأنها كانت تستهدف ملء فراغ في المكتبة العربية، بالتّوازي مع توجيه القارئ نحو مكامن فكرية لا على المستوى الشعري وحسب، إنما يشمل المتخيل والسردي والفكري.
إن إطلالة على طّيف تلك الترجمات تشي بأن تكوينها كما تنوعها واختلافها في بعض الأحيان على مستوى الأجناس الأدبية والجغرافيات، يتقاطع في المقام الأول مع تجربة الشعر، ومخاضة في المنفى، ورحلته بين الطارئ من المكان، وهي أيضاً تستنفر وعيه الجمالي والمتخيل، وقلقه تجاه العالم، ولاسيما على مستوى المجموعات الشعرية، التي نقرأ في اختيار أسماء شعرائها تداخلاً مع تجربة الشّاعر، ومن ذلك قسطنطين كفافيس، وريتسوس، ووالت ويتمان، ولوركا، وغيرهم… في حين أن انتقائيته على مستوى الرواية ترتبط بوعي جمالي وموضوعي؛ فشملت كتاباً من أستراليا واليابان والقارة الافريقية، وبريطانيا وغيرها، وكلها تنهض على صيغ الإحساس بالانتزاع من سياق ما، كما التأمل في معنى ذلك الطارئ، أي القائم بين عوالم متباينة أو متغايرة في تكوينها، ومجرياتها.
إذا ما مضينا في تحليل طيف تلك الترجمات التي اضطلع بها سعدي يوسف، فسنقع على موجهات واضحة تتصل بمنظور الشاعر ورؤيته للإشكاليات التي جعلته يرى في هذه الأعمال جزءاً من المستحقّات التي يرغب في نقلها إلى العربية.
لقد بدا سعدي يوسف مهموماً وثقيلاً على مستوى الوعي بما يمور في داخله من عوالم لم يعد يراها كما هي، لقد تفتت الكثير من القناعات، وانهارت منظومات كاملة على مستوى الأيديولوجيات، لنخلص إلى أن سعدي يوسف بدا معنيّا برصد هذه الهوة، التي يعتقد أنها ينبغي أن تُملأ لا بالشعر فقط، إنما عبر نصوص أخرى؛ ولهذا اختار أن يترجم ضمن طيف واسع، حيث كان يعي أن ثمة توترات عميقة ما زالت كامنة في بنية الثقافة العربية، أو الإنسان العربي، فلا جرم أن يقرأ في الأدب الافريقي، فيرى في كتاب نغوغي واثينغو «استعمار العقل» – على سبيل المثال – عملاً جديراً بالتنبه إليه، كونه يُعنى بقراءة الأثر الثقافي لاستعمار العقل، أو الأنا الداخلية لأمة ما، بالتضافر مع التّهديدات اللغوية التي تطال الوعي أو الأنا من لدن الآخر، وهذا يفسره سعدي يوسف بوصفه مشكلة ثقافية، ولاسيما استخدام لغات المستعمِر في الآداب الوطنية، انطلاقاً من سيطرة التبعية التي عانت منها معظم الدول العربية، أو المستعمرات السابقة، وهكذا ينقل فكر نغوغي واثينغو، الذي يعضده بترجمة لأهم أعماله الإبداعية، ونعني «تويجات الدم» وهذا ما ينسحب على ترجمة بعض أعمال الكاتب الأسترالي ديفيد معلوف، ولا سيما رواية «حياة مُتخيلة» حيث للغة أيضاً دور محوري في تكوين المُعطى الوجودي للإنسان، خاصة في تقاطعه مع العالم النافر، والقدرة على التّوحد مع المنظومة التي تنهض على الاغتراب، وفكرة التكيّف.
إنها أعمال مسكونة بقلق سعدي يوسف، الذي اختبر هذا في رحلته الطويلة التي تنقل خلالها بين أمكنة متعددة، تبعاً لسياقات محددة، وفي كل مكان ثمة حراك ما بالتّوازي مع رؤيته للعالمين: الشرقي والغربي، وهنا نستعيد صدى ترجمته لرواية أخرى للروائي الياباني، كينزا بورو أوي، التي تتأسس على نزعة تتقاطع مع متون سعدي يوسف باختلاف مستوياتها؛ سواء أكان على مستوى الشعر، أم الإبداع عامة، إذ كان يرى العالم تبعاً لحساسيته الخاصة، فلا جرم أن يترجم أيضاً أهم أعمال الشاعر الأمريكي والت ويتمان، من منطلق توفر ظلال مشتركة تنهض على التخفف من النماذج البلاغية في الشعر، كما المواقف الجدلية المثيرة، في حين أن ترجمة الشاعر قسطنطين كفافيس، تتصل بوعي أو حساسية أخرى، ونعني نقد المتعاليات المركزية في كتابة تكاد تنتهك الكثير من المستقرات، أو المتعاليات المجتمعية والثقافية، وهنا نتبصر شيئاً من التّجاذب بين المترجِم والمترجَم عبر نقد النماذج، مع محاولة الثورة عليها، كما نلحظ أيضاً انعكاس الروح التي تسعى لتجاوز فكرة قوامها الفصل بين الشرق والغرب.
على الرغم من ثقافة سعدي يوسف الشرقية، لكنه أيضاً بدا قريباً من ثقافة الغرب، أو الآخر عامة، مع رغبة واضحة في اكتناه أعماقها: ثقافياً وإبداعياً، فلا جرم أن نلمح في قصائده هذا الوعي اليساري، والأممي من حيث قيم تمجيد الثورة على الأنظمة الرجعية، إذ بدا قريب الصلة بعوالم الشاعر الإسباني لوركا واليوناني يانيس ريتسوس، وبوجه خاص نضالهم ضد الديكتاتوريات، وتضحياتهم في سبيل نقد النماذج السلطوية، وهنا تبرز حساسية سعدي يوسف في التوجه لهذه النماذج الشعرية الكونية، التي تكمل رؤية الشاعر، وتوجهاته ضمن نطاق لا يمكن أن نعدّه أيديولوجياً خالصاً، فثمة وعي أو تقدير واضح للسمات الجمالية التي تميز كل شاعر.
وفي سياق متصل نستعيد أيضاً ترجمة سعدي يوسف لبعض أعمال الشاعر السويدي غونار أكلف، وما تميز به الأخير من نزعة سيريالية، بالتجاور مع تأثره بالعوالم الصوفية، أو الشرقية التي يرى فيها مساحات للالتقاء، وهذا ينسحب على ترجمة بعض أعمال الشّاعر الروماني فاسكو بوبا في انزياحاته الشعرية مع نزعة تقارب تصورات للشعر قائمة على التخفف من الصيغ البلاغية.
ختاماً، إذا ما مضينا في تحليل طيف تلك الترجمات التي اضطلع بها سعدي يوسف، فسنقع على موجهات واضحة تتصل بمنظور الشاعر ورؤيته للإشكاليات التي جعلته يرى في هذه الأعمال جزءاً من المستحقّات التي يرغب في نقلها إلى العربية، كونها تعبر عن رؤى خاصة تعكس رؤيته الفكرية والجمالية، كما يمكن القول مخاضاته الأيديولوجية، بالتّوازي مع تقاطعات ذاتية وسمت منظور الشاعر الراحل في مجمل إسهاماته الأدبية والفكرية.
كاتب أردني فلسطيني
القدس العربي