حتى عام 1993، لم أقرأ لسعدي يوسف، قصائد أو مجاميع شعرية جديدة، بعد الأعمال الكاملة التي قرأتها قبل عام 1985، وكانت من إصدار دار الفارابي، وضمت كل المجاميع الشعرية المتميزة لسعدي يوسف آنذاك. لكن وصلتنا قصيدته "حاج عمران" في كتاب منشور، قصائد وقصص لمجموعة من الشعراء والكتاب العراقيين، وكان الكتاب من إصدار اتحاد الكتاب الديمقراطيين العراقيين، إن لم تخني الذاكرة، وأعتقد أن الحزب الشيوعي العراقي كان وراء إصداره وتوزيعه داخل العراق.
منذ أن قرأت سعدي يوسف كنت أردد وأقرأ قصائده مع مجموعة أصدقاء، وكنا نتبارى في قراءة قصائد سعدي والسياب والماغوط التي نحفظها عن ظهر قلب، في كل لقاء، في بيت أو حانة، أو نزهة في شوارع الناصرية، فتضيف إلى اللقاء متعة هائلة.
في أمسية من أماسي عام 1993 عاد الصديق، الكاتب والناقد السينمائي، أحمد ثامر جهاد، من البصرة، طالب كلية الآداب آنذاك، قسم اللغة العربية، عاد إلى الناصرية ومعه مجموعة شعرية لسعدي يوسف، لم نقرأها سابقًا، أعتقد كانت مجموعة "محاولات"، وكانت مكتوبة بخط يد أنيق جدًّا، وهو خط القاص لؤي حمزة عباس. قال لي: أرجع للبصرة بعد يومين، علينا أن نجد وسيلة للاحتفاظ بنسخة من هذه المجموعة. كل الأصدقاء الذين كانوا معنا قلبوا المجموعة وأعجبوا بنصوصها. وعلى الفور ذهبت إلى صاحب السر الدفين، نذير معيوف، الذي كان يدير مع إخوته مكتبًا للطباعة والاستنساخ في ساحة الحبوبي. كان لنذير صولات هائلة وشجاعة في استنساخ كل البيانات الحزبية والمنشورات التي أوصلتها له آنذاك وحتى تشرين الثاني 1995. لم يتردد نذير في أمر استنساخ المجموعة المكتوبة بخط اليد، لكن انقطاع الكهرباء وتأخر الوقت والخشية من السؤال القمعي اللئيم، أعجزه عن إكمال تصوير المجموعة. فطلبت من الصديق علي عدنان، وكان صاحب خط جميل وأنيق، لا يقل جمالًا عن خط لؤي حمزة عباس، أن يقوم باستنساخ النصوص المتبقية.
في مساء ذلك اليوم، كان الكثير من الأدباء والكتاب في الناصرية يتحدثون عن مجموعة شعرية لسعدي يوسف وصلت إلى الناصرية. وكان القليل منهم يعرف أن هذه المجموعة كانت بحوزتي بانتظار إكمال نسخها وتوزيعها بالطريقة المعتادة آنذاك. وفي نادي اتحاد الأدباء أطلعت مجموعة من الأصدقاء الثقاة على مجموعة سعدي، وكان معهم صديق لم أرغب بأن يطلع على المجموعة أو يعرف بأمرها، لكنه قلب صفحاتها وعرف صاحب الخط وحفظ عدة جمل منها، ورددها على الفور!
بعد أيام، وفي بغداد، وفي لقاء ضم مجموعة من الأدباء والكتاب، وكان منهم لؤي حمزة عباس، جاء الأديب الذي أتحدث عنه بالقرب من لؤي، وكان في لحظة سكر، أو لحظة ثقة زائدة جدًّا، وقال بصوت عال: "لؤي خطك كلش حلو!"
وبهدوئه المعروف، رد لؤي: "أشكرك، شلون عرفت؟" "
مجموعة سعدي الي وصلت للناصرية كانت بخطك!"
فجر يوم السبت 12 يونيو/حزيران الجاري، رحل سعدي يوسف عن عالمنا وحمل معه كل مشاكساته وغضبه وذعره من ضياع العراق، لكنه ترك لنا، نحن الذين قرأنا نصوصه الأولى، وكانت محفزة ومستفزة من أجل الاستمرار في تكوين ذواتنا والتشبث بآمالنا، مجمل منجزه الإبداعي، شعرًا وترجمة ومقالات ومحاورات.
لم يغب العراق عن سعدي يوسف ومعاناته وآلامه لحظة واحدة، ولم يغب عنا، نحن الذين عشنا في طاحونة البعث والدكتاتورية وحكم صدام حسين وسنوات الحصار الإجرامي التي لم يعشها سعدي أو غيره. لكننا، مثل سعدي يوسف، نتمسك بالعراق ويتحول في كل لحظة إلى هاجس عصي على الفهم والنكران.
في مجموعة سعدي يوسف التي أتحدث عنها ثمة قصيدة كانت لافتة في حينها، قصيدة مصطفى، كل من قرأها أشار إلى تحول كبير في شعر سعدي يوسف، نهاية التجريب الذي أنجب أهم أعماله الشعرية المرموقة، وانحيازه إلى اليومي في حياة الناس، ناسه وأهله في العراق.
ونسمعُ في العتْـمةِ خطوَ السّـعلاةِ..
وفي الدمع انطفأتْ نارُ سجائرنا الأولى.
يا حلو، يا مصطفى
يا قُـرّةً للعينْ
نومَ الهنا.. مصطفى
يا أشهلَ العينينْ
غَـمِّـضْ على خيلنا
والبصرةِ الصّـوبَـين
تحميك بعد النبي
والسادةِ الألفَـين
يحميكَ يا مهجتي
مختارُ "كوتِ الزين"
...
أيَّ طبولٍ نسمعُ في الليلِ الهامدِ..
أيُّ حكاياتٍ يسمعها حتى النخلُ
فيذوي منكفئ الجذعِ،
وأيُّ خريفٍ سيطولُ إلى آخرةِ الدنيا..
يا حلو، يا مصطفى
يا زينة الشبّـانْ
مرّتْ غيومُ العِـدا
مرتْ على "حمدان"
يا حلو، يا مصطفى
هانَ الذي ما هانْ
بعد الندى والندامى
ضعضعوا البنيانْ
يا حلو، يا مصطفى
يا سدرة البستانْ
يا ليت شمس الضحى
حنّتْ على الولهانْ
عن موقع جدلية 2021