للأستاذ إدريس الخوري دَيْن كبير في أعناق كتّاب المغرب وقرائه.
فقد بدأ الكتابة في وقت مبكر بعد الاستقلال. وكان أغلب المثقفين المغاربة أيامئذ منصرفين إلى السياسة أو التربية.. .. فانصرف هو وقلة قليلة معه إلى مجالين هامين من مجالات الحداثة المغربية هما: الكتابة والإعلام.
وانخرط، مع أفراد معدودين من جيله، في التـأسيس لرؤية جديدة إلى الحياة وعبارة جديدة عنها، تتميز بالصراحة وتسمية الشيء باسمه الحقيقي، ولو كان هذا الاسم بذيئا ( فتذكرنا هذه الصراحة بالجاحظ )، أو سوداويا ( فتذكرنا بالتوحيدي )، أو صادما ( فتذكرنا باليوسي)، أو شعبيا مُتَبَّلا حِرّيفا ( فتذكرنا بالمجذوب وبن ابراهيم ).. .. أو جديدا مدهشا ومفاجئا فلا تذكرنا بشيء ولا بأحد..ولكنها تؤسس لبلاغة جديدة. بلاغة فئات صاعدة إلى مسرح الأدب والثقافة من كواليس التاريخ والأسطورة والأنتربولوجيا.. .. وأسلحتُها النكتةُ والنميمة والسخرية والتسفيه والتتفيه والفضح والتشكيك وقلب السلّم الاجتماعي المقلوب أصلا: عَـقِـباً على رأس، فتجعله يقف لأول مرة على قدميه، فيُمَـجِّـدُ ـــ وياللعجب ـــ الطبقات والفئات الشعبية الدنيا بلغاتها ورؤاها وحيواتها التي تخرج من فنونها الشفوية وتدخل الكتابة مُدهشة لا مندهشة.. وتسخر من نفاق الفئات الاجتماعية العليا وتفاهتها وضحالة فكرها التقليدي التكراري الأحادي الإقصائي، وجمود تعبيرها البلاغي عن النقص بالكمال المصطنع، وعن انهيار القيم في الحياة بأخلاقيات الخطاب.
وفي الوقت الذي كان كتابه يتصورون أن الأدب هو، فقط، حسب المفهوم الأرسطي، الشعر أو الرواية أو المسرح، كتب إدريس الخوري القصة: فن المهمشين والمنبوذين والرافضين.. وأخلصَ لهذا الفن في إبداعه الأدبي فأسسه ورسّخه وأغرى به وحرّض عليه.
وكتب المقالة المتميزة في المجالات الحديثة، فكتب عن السينما والموسيقى والتشكيل.. وكتب عن الظواهر الاجتماعية والثقافية برؤية نقدية ثاقبة وبعبارة ساخرة مرة كالملح على الجرح يُؤلم ويُبلسم.
والأستاذ إدريس الخوري فوق ذلك موقف. فهو لم يتخذ الكتابةَ أو الصحافةَ وسيلةً للصعود الاجتماعي أو التسلق الانتهازي أو مجاملةً للسلطة والثروة.. فلم يقتن فيلّا في المدينة أو مزرعةً في البادية أو شاليهاً على البحر أو سيارةً أو مكتباً.. ولم يتهافت على أموال الخليج أو أوروبا.. وظل يعيش كما كان يعيش منذ البداية ( على صباغته ) الأصلية حُرّاً كالذهب الحر أو العسل الحر أو الكاتب الحر والحارّ معا.
والأستاذ إدريس الخوري بالنسبة لي ــ وبالإضافة إلى أستاذيته وريادته في الكتابة ــ هو بّا ادريس: الصديق العزيز الذي يقف معك حين تحتاج إليه، ويُمتعك حين تجلس معه، ويُفيدك حين يُقيّم الفنون، ويفيدك أكثر حين يُقـيّم الناس، فلم أعرف أحداً أصدقَ رأياً ولا أدقَّ نظرةً منه حين يُقيّم أحداً. وقد تختلف معه في ذلك ثم تعود إلى رأيه بعد التجربة.
رحم الله الكاتب الكبير والصديق العزيز الأستاذ إدريس الخوري وأفاض عليه شآبيبَ الذكر الجميل، وأبقى أدبَه لأمثالنا من كتاب الهامش ومواطني الرصيف ونقادِ السلطة والثروة وليّاً من أوليائنا نتبرك به ونقتدي به ونفاخر به. "ساحر" القصة القصيرة في المغرب