الرَّجل المغربي: كاتب من هذا الزمان

محمد الهـرادي

 

اسمه الحقيقي إدريس الكص، وإدريس المشتقة من الدراسة والدرس تنطبق على هذا الكائن الخارق، ليس في ماهيته، ولكن في أفعاله وعلاماته وتعدد مواهبه، لدرجة يزعم فيها الأمين الخمليشي أن إدريس الخوري شبيه بجوبيتر، كبير آلهة الإغريق، دون أن يعني ذلك أن أحدهما له اعتقادات وثنية صريحة. كان درب غلف، وليست الدارالبيضاء كما يفترض، هو الفخ الذي صاغه القدر لإنتاج هذا الكائن العجيب الذي يتحدى الزمن ويحقق لقرائه عواطفهم وميولهم، وعكسها تماما، ثم مانحا ما حوله متعة وأنسا فريدا، ومن درب غلف التي تمتزج فيها أهواء القبائل بذلك البحث المستمر عن ملاذ آمن، تتشكل لغة إدريس الخلاقة فيما هو يبحث عن لحظة انتصار على وضعه الخاص· وهي اللحظة التي يتهيب منها إدريس الخوري ، وتمتنع عليه إذا ما حاول تسجيل تفاصيلها في نص أدبي.

يعبر إدريس الخوري الأمكنة والأزمنة والوجوه ويبقى هو راسخا، مثل حقيقة مطلقة، غير قابلة للنسيان، ولذلك يتصور المرء أن إدريس إذا ما حادث شخصا، أو صافحه، بل حتى إذا ما عبر قدامه، فإن بصمته تبقى راسخة موشومة لا يمكن الفكاك منها إلا بإعادة استعادة نفس اللحظة· وهكذا دواليك، وهذا يعني أن إدريس – الشخص يعرفه كل الناس، ليس بسبب مشيته التيمورلنكية، ولا بسبب لحيته أو أنفه القاني المقتبس من شخصيه فالستاف التي أبدعها شكسبير، ولا بسبب ضحكته أو قهقهاته غيره الماجنة أو لهجته الدكالية الساخرة الساحرة، بل أيضا بما يكتب وبما «يراه» هو وحده ويسجله ويندمج فيه ثم يصير ملكا لنا جميعا، قراء وغير قراء.

لا أدري كم مرة جالست فيها إدريس، سواء بمفردي أو مع غيري، أهي مئات أم آلاف المرات، ومع ذلك فإن كل مرة لاتشبه الأخرى، لأن لكل جلسة جمالا ونقاء لا يشبه الجلسة السابقة ولا تكررها، ومصدر ذلك هو أن إدريس المتعدد، المنقلب دوما على آفة التكرار فيه، والذي يمنح سحره لمن حوله لايخضع لنظام أو حتمية، بل يمكن أن يغامر المرء بالقول إن إدريس لايخضع حتى لقوانين البيولوجيا، مادام هو يعيش شبابه الأزلي، بينما نحن نتفسخ من يوم لآخر، معرضين لضرب البرد وتساقط الأسنان وارتعاشات المرض.

أدرك جيدا أنني لست أنا الذي خلق العلاقة كما وصفت مع إدريس، ثمة سبب وطد هذه العلاقة له اتصال بالسياق الثقافي العام، كما عرفه مغرب ما بعد الاستقلال، وإدريس كان حاضرا في هذا السياق بقوة، لأنه انبثق مثل طفرة خلقت من «عدم» أي دون آباء معنويين، وأتى إلينا مسلحا فقط بعشقه الحقيقي للأدب وللحياة، واحتل منذ البداية موقع هذا الأب المعنوي المفتقد، إنه خلق هكذا منذ البداية وطرح حوله السؤال عمن يكون هذا الرجل الحامل لإسم مسيحي، وكان طرح السؤال هو الجواب· وتطلب منه هذا الانبثاق أن يستجيب لنداء الكتابة، فقدم إلينا بداياته في (آفاق) بداية الستينات وفي مجلة (الأديب) وفي (التحرير) و (العلم) وغيرها..

ابتدأ إدريس إذن من عدم لأنه كان «يجهل» الأسماء التي سبقته عن قصد ونشرت في (الأنيس) و(الأنوار) و (رسالة المغرب) وتصور منذ البداية أن خلق العالم ينطلق منه، ولذلك أغرى نفسه بتأسيس نظامه الخاص، وهي فكرة طالما كررها إدريس الخوري منفذا بواسطتها سياسة الأرض المحروقة في الأدب، ومبتكرا في نفس الوقت تلك الأرض التي ستصير أرضا بكرا بجغرافية وسكان مختلفين قد نجد من بينهم أسماء أخرى تنافسه على حق التأسيس أو على مشروعيته.

ومنذ تلك البدايات البعيدة «احترف» إدريس الكتابة لوحدها ولوجه الله، فيما اتجه الآخرون إلى «الكتابة» بالياجور و «البغلي» وحصد الشهادات المفبركة والنفخ في الأرصدة· لكن حين تضيق تلك الدائرة التي تنكشف بسببها الأوهام، يتحلق أولئك القوم حول إدريس، مستجيبين لنداء قممه المشمسة حيث يركن هناك وحيدا ليجالسوه ويتذكروا الزمن الجميل، حيث الدارالبيضاء تختلط فيها الأجناس، وحيث أطفال درب غلف الذين اكتشفوا شساعة المدينة يغرفون من متع الطفولة المسروقة، وحيث با إدريس يمسك الطعريجة ناقرا بأصابع كفه الهائلة على حواشيها، وهو يسحر من حوله بتلك الضحكة التي حين يفتح فمه وهو يلقيها وينثرها مثل هدية ثمينة مقدمة لهذا العالم السخيف يغني بصوته المشروخ: «سوق (الهوى) سوق المطيار، يا الداخل ليه رد بالك، يوريك من الربح قنطار، ويخسرك في راس مالك".

 

-------------

كاتب من المغرب