المـرأة بيـن الطرفيـن: السّلبيّـة و الأخـلاق
بقلم نازك الملائكة (بغداد)
لم يزل موضوع المرأة مجالاً عاطفياً تتناوله الأقلام في كثير من الانفعال، على أسلوب يبتعد عن هدوء الموضوعية وحكمة التجرد من الأهواء. فالمعتقدات الفردية والآراء الاجتماعية المتجمدة والعواطف توشك أن تجعل الموضوع شاقاً على الباحث، فلا يأمن حين يتناوله من أن يقع في مزلق اجتماعي، أو أن تلتهمه سورة عاطفية جارفة تتدخل فيها تيارات تجاربه الشعورية الخاصة، وقد توقعه لفتة هنا و التواءة هناك في هاوية سياسية أو دينية. وما هذا إلا لأن موضوع المرأة لم يخرج بعد عن أن يكون موضوعاً أخلاقياً، وكل موضوع أخلاقي لابد أن يمسّ، من جهاته المختلفة، شتى نواحي الحياة السياسية والدينية والاجتماعية في المجتمع الإنساني. ولا شيء أصعب على الباحث من معالجة قضايا الأخلاق، لأن كل فرد في المجتمع يعد نفسه، بمعزل عن ثقافته، مصدر ثقة في هذه القضايا، ومن ثم يتحول الموضوع إلى حقل العواطف وتنتقل قضايا الأخلاق إلى حيز الشعور. ولعل أبرز دليل على هذا التحول الخطر ما نراه من أن القانون الذي يحكم القضايا النسائية يستمد كثيراً من مواده من العرف المحلي دونما نظر إلى المنطق. والعرف، لو دققنا، قانونٌ غفلٌ يتألف من تراكم العادات والعواطف عبر العصور في بيئة ما، وهو بهذه الصفة يخرج بالضرورة عن النطاق المفروض للقانون. على أن المصاعب الأخلاقية ليست هي الوحيدة، فثمة مصاعب أخرى تعترض السبيل، منها أن أغلبية النساء في هذه البلاد لم تصل بعد إلى مرتبة الوعي الثقافي الكامل الذي يتيح لها أن تدرك الواقع المرير الذي تتخبط فيه. والحق أن اللحظة التي يشعر الإنسان فيها بأنه مغبون هي لحظة حاسمة في تاريخ تطوره. على أن المرء لن يشعر بالظلم حتى يذوق بعض الحرية، وفي قضايا الحرية يبقى الوسط نقطة قلقة لا سبيل إلى إثباتها، فالمرء ينزع إلى أن ينال حريته كاملة وكأنه يقول: "لا نصف حرية أبداً ... إما الحرية كلها أو لا ..." وثمة صعوبة أخرى يضعها في سبيل التطور جانب من المتعلمات ذوات الكبرياء والحساسية. فنحن هنا إزاء حالة نستطيع تسميتها "بالتغطية السيكولوجية" وهي حالة شائعة مثالها تلك الفتاة التي يمنعها كبرياؤها من أن تعترف بأنها تسلك وفق خطة أبيها أو أخيها، فتروح توحي لنفسها بأنها تتصرف وفق مبادئ شخصية. وكثيراً ما رأينا الحجاب يصبح مبدأ تدعو إليه فتاة حساسة تتهرب من مواجهة كبريائها المطعونة وكأنها تقول: "...إن كنا لا نستطيع تحقيق ما نرغب فيه، فلنرغب فيما نستطيع تحقيقه. "وهذه في نظرنا أخطر حالة تتعرض لها المرأة، فهي تفقدها قوة الكفاح وتطوي نفسها على جرح غائر. أما العراقيل التي يبثها الرجل المعاصر نفسه فهي فيما يبدو لنا تنبع من اعتقاده أن تحرر المرأة سيسلبه جانباً من حريته هو، ولعله يؤمن أيضاً بأن قضية التحرر تهم النساء وحدهن لأن فوائدها ستقتصر عليهن، ومن ثم فهو، إن لم يعارض، يتخذ موقفاً سلبياً. ولعله واضح أن هذه العقيدة بفرعيها تتضمن فصلاً قاطعاً لعالم الإنسان يشطره إلى شطرين: نساء ورجال، ويجعل للحرية مدلولين، مدلولاً نسائياً وآخر رجالياً. وقلّ فينا من يريد أن يلتفت إلى أن عبودية المرأة لابد أن تقابلها عبودية مساوية في حياة الرجل، مادام الرجل والمرأة يعيشان متعاونين في بيئة واحدة. والحق أنه ليس معقولاً ولا منطقياً أن يعيش هذان الكائنان معاً ثم يكون أحدهما حراً والآخر مستعبداً تمام الاستعباد. وهذا لأن عبودية هذه لابد أن تؤثر في حرية ذاك. ولا مفرّ من هذا. - 2 - وأول ما يهم البحث أن يقرره أن تاريخ المرأة قد كان حتى هذه اللحظة تاريخاً سلبياً. ونحن لا نحتاج إلى أن نذهب بعيدا لإثبات هذا، فالأدلة ترد حولنا وتكاد تختلط بالهواء الذي نتنفسه. وليس من داع إلى أن نلجأ إلى النصوص القانونية، وإنما يكفي أن نلقي نظرة عابرة حولنا لنرى إلى أي مدىً بلغت استهانة الذهن العام بالمرأة. والحق أن تاريخ العبودية الإنسانية لا يشتمل على صفحة أشد سواداً من هذه الصفحة، فنحن هنا إزاء حرمان تام من كل حق من حقوق الحياة. وقد فقدت المرأة تدريجياً كل ما تملك حتى قيمتها الإنسانية. ويبدو هذا في أشياء تمرّ بنا في حياتنا اليومية دون أن نفطن إلى دلالتها البعيدة منها. مثلاً الفرق في المرتبة بين صلة العمومة وصلة الخؤولة، فالمجتمع يجنح إلى اعتبار العم أقرب إلى الإنسان من الخال، وفي هذا دلالة أكيدة على أن الأب يعتبر أهم من الأم على الرغم من أن قيمتها الوراثية متساوية تمام التساوي. ومن هذه المظاهر التي يمكن أن تستخلص منها استهانة المجتمع بالمرأة أن السيدة المتزوجة مازالت تعتبر أهم من الفتاة الآنسة، فهي تتمتع بمزايا كثيرة وتنال احترام الناس. أفلا يدل هذا على أن قيمة المرأة في عرف المجتمع ليست بشخصيتها وثقافتها وسلوكها وإنما تأتيها هبة من زوجها؟ وهذا ينزل بها إلى مستوى السلبية ويقتل طموحها، فإذا كانت الشخصية تُكتسب بمجرد الزواج فلا عجب في أن يصبح العمل الوحيد الذي تسعى إليه هذه المسكينة هو الزواج، والمرأة وفق هذا الرأي العجيب ليست أكثر من مرآة تعكس مجد غيرها. أما من الوجهة الاقتصادية فالرجل المعاصر عندما يشكو من أنه يعول على المرأة، إنما يؤكد ضآلة قيمتها في نظره. لأن هذه الشكوى تتضمن معنى غريباً، لو تأملنا، وهو أن عمل المرأة من ولادة وتربية وخياطة وكنس وغسل وطبخ وكيّ وغير ذلك، يبدو للرجل وكأنه لا يستأهل قيمة اقتصادية تعادل قيمة عمله هو في المعمل والحانوت والبرلمان. وهو يتغافل عن أن هذا التوزيع في العمل لابد أن يستتبع توزيعاً في المال، فإذا كانت المرأة قد أخذت على عاتقها أن تقبع في المنزل وتنجز هذه الأعمال الشاقة بينما يخرج الرجل ليكتسب المال للأسرة، فأن هذا لابد أن يفترض حقاً مساوياً للمرأة في هذا المال الذي يكسبه الرجل، على ألا يستتبع هذا مناً من الرجل من أي نوع، وباعتبار أن المرأة و لو أرادت أن تؤدي هذه الأعمال نفسها خارج منزلها لنالت عليها أجراً. وهذا ما نسيه الرجل تمام النسيان حتى أصبح يحسب أنه يتكرم بالمال على مخلوقات عاجزة لا عمل لها. وما يهمنا في هذا هو أن نستخلص الحقيقة الأخلاقية وهي أن عمل المرأة المعقد يبدو للرجل بلا قيمة. وهذا أعجب العجب. وهناك جهة ثالثة نستطيع أن نستفيد منها في إدراك تفاهة المرأة في مجتمعاتنا. تلك هي جهة اللغة العربية، فإن أبسط دراسة اجتماعية للألفاظ والقواعد تدلنا دلالة موضحة على أن هذه اللغة لغة قوم يستهينون بالمرأة. فالتقديم في النحو هو دائما للمذكر على المؤنث. والتغليب يذهب في هذا مذهباً يحتم تغليب مذكر واحد على أي عدد من الإناث ولو بلغ الملايين، والضمائر المفردة تستعمل في سخاء للتعبير عن جماعة الإناث في بعض النصوص المشهورة. ومما يلفت النظر في اللغة كلمات مثل (الأميّة) ومعناها الجهل بالقراءة والكتابة، وقد نسبت إلى (الأمّ). أما قولهم (شاعر فحل) فهو ينم عن قيمة (الفحولة) ويتضمن أيضاً الاستهانة بالأنوثة، وإلى هذه الاستهانة ترتكز كلمة (فحل) في قوتها. ونظن هذه الأمثلة تكفي ونرجو أن يتاح لنا التفرغ لإفراد بحث حول الموضوع في فرصة أخرى. هذه الاستهانة بقيمة المرأة وعملها قد استتبعت حرمانها من الملكية الخاصة. ولسنا نقصد أن نتحدث الآن في الملكية الاقتصادية، فلعلها قد حرمت من الملكية في جهات أخرى أهم. هناك الوقت مثلاً. فماذا تمتلك المرأة من هذه الثروة التي يبقى المفروض أن أبناء آدم يستوون في نصيبهم منها؟ لا شيء في الواقع. فقد ألقيت على المرأة أعمال فادحة تستغرق العمر كله، بينما انصرف الرجل إلى القراءة والبحث والفن والتأمل العقلي والتخصص في العلوم أو حتى إلى العبادة المسرفة التي هي أيضاً مظهر من مظاهر الشخصية في إنسان مخيّر. والعجيب أن أغلب الناس يعتقدون أن أعمال المنزل أمرٌ قضته الطبيعة على المرأة، وكأنها جهزتها بمؤهلات في هذه الجهة وجعلت في جسمها أعضاء خاصة تهيئها لإحسان الطبخ والخياطة وغسل الملابس ومسح البلاط. ونحن نسمعهم يتحدثون كثيراً عن عمل المرأة الطبيعيّ، ويدهشنا أنهم يقصدون هذه الأعمال التي لا يمكن أن تنكر مواهب الرجال فيها، فكم فيهم من طباخ وخياط وكنّاس. على أن الحرمان من المال والوقت أقلّ غرابة من حرمان آخر يصبّ على المرأة، وذلك هو حرمانها من أن تملك اسماً خاصاً كما يملك الرجل. فالمرأة تتبع أباها في اسمها مادامت آنسة، ثم تفقد هذا الاسم عندما تتزوج وتدعى باسم زوجها. فإذا طلقها هذا الزوج لسبب من الأسباب الكثيرة التي يصح الطلاق من أجلها عادت إلى اسم أبيها. ثم يتاح لها زواج ثان كما يحدث أحياناً فيتغير اسمها للمرة الرابعة. وهذا إن لم يكن محزناً فهو مضحك. وإن من حق هذه المخلوقة أن يكون لها اسم ثابت فتتبع اسم أبيها كما يصنع الرجل. والاسم الثابت يشبه أن يكون اعتزازاً من الإنسان بماضيه وعمله، فلابد أن يكون الأصل في حرمان المرأة من الاسم حرمانها من حق بناء ماض تكسبه بالعمل الشريف. أما الحرمان من الأولاد الذين يحق للأب أن ينتزعهم فور بلوغهم سناً يستطيعون فيها الاستغناء عن حضانة الأم فهو في نظرنا أقسى أنواع الحرمان وأكثرها بعداً عن المنطق. ولا بد لنا، مادمنا نقرر بعض جوانب الغبن في حياة المرأة، أن نشير إلى الإلزامات الأخلاقية التي قيدت بها دون الرجل. فمن دراسة عاداتنا الاجتماعية نستطيع أن نستخلص أن للأخلاق مدلولات نسائية خاصة تختلف مدلولاتها الرجالية. هناك مثلاً صفة (الكرم) التي ينبل الرجل بها ويرتفع، فهي حين تصل إلى المرأة تصبح خلة مذمومة. وإنما المستحسن عندنا أن تكون المرأة (بخيلة) ومن هذا قول الطغرائي في مدح جماعة: الجود والإقدام في فتيانهم والبخلُ في الفتيات والإشفاقُ وقد يكون الأصل في هذا الاعتبار ما أشرنا إليه من أن الرجل يعتبر المال ماله وليس من حق المرأة أن تجود به. وهذا يعيدنا حيث كنا. وهناك حالة ثانية يتضح فيها الفرق في الاعتبارات الأخلاقية بين المرأة والرجل. وهي حالة الحداد. فعندما يموت ميت تلزم ابنتُهُ وأختُه وأمّه بحداد صارم يتضمن ملازمة البيت ملازمة تامة ولبس ثياب سود كاملة، بينما يترك أخو المتوفى وابنه وأبوه أحراراً فما ينتهي مجلس الحداد حتى يخرجوا بحثاً عن السلوان وهم مخيرون حتى في لبس ربطة العنق السوداء. والمعنى الأخلاقي في هذا التفريق واضح. فالمقصود أن تلازم المرأة منزلها أطول مدة ممكنة وأن تقتصد في شراء الملابس حيث يكفي للحداد ثوب واحد لا داعي لتغييره. - 3 - أما الجهة الأخلاقية من حياة المرأة فهي تحتاج منا إلى وقفة أطول، فالحرمان هنا لابد أن يكون الأصل في كل حرمان آخر أنزل بها، وكأن هذه الجهة هي الجهة النظرية في الموضوع وأساس الخطأ في الأمر أن القانون الأخلاقي النافذ في سلوك المرأة يفقد الشرط الأساسي في كل قانون أخلاقي، ذلك الشرط الذي يجعل من الممكن أن نحكم على إنسان بالفضيلة وعلى آخر بالرذيلة. والحقيقة أننا نستطيع أن نجد بعد قليل من التأمل الصافي، أنه لا معنى لأي قانون خلقي لا يقدم للمرء حرية كاملة على مخالفته، وذلك لأن كل قانون أخلاقي إنما يكتسب قوته من افتراض حرية الناس في اتباعه أو مخالفته. ومن هذه الحرية وحدها تنبع أخلاق الناس، وهي التي تجعل الخلق قابلاً لأن نحكم عليه بالثواب أو الإدانة. وهذا يتضمن أن نقول أنه لو احتوى كل قانون أخلاقي على وسائل للتنكيل بمن خالفه لفقدت الأخلاق قيمتها وأصبحت معنى قهرياً لا فضيلة فيه. ولكي نوضح معنى رأينا هذا، نمثل بحالة إنسان يصدّق لأن الكذب يعرضه لموت أكيد. فمثل هذا الإنسان لا يمكن أن يعدّ صدوقاً لأن الصدق كان ضرورة لا محيد عنها. وتلك حالة يفقد فيها الصدق فضيلته. وإنما يمتدح الصدق حين يكون المرء مخيراً بين أن يكذب أو يصدق دون أن تحتم عليه الضرورة حالة معينة. أذكر أنني سمعت رجلاً يتحدث مرة في اشمئزاز عن أولئك الذين يأكلون السمك دون أن يتذكروا كيف تتلوى السمكة وهي تذبح على الشاطئ، قائلاً أن هذه الصورة تجعله يمتنع عن أكل السمك. وقد صدف أن كانت للرجل أخت ساذجة فاندفعت وقالت له: "ولكنك لا تطيق لحم السمك، لقد كنت تكره رائحته منذ صغرك". فما كاد يسمع هذه العبارة البسيطة حتى انزعج وأشهر أخته في محضر الضيوف. وليس السبب لو تأملنا إلا أن هذه العبارة جعلت فضيلته تظهر بمظهر الضرورة، فما كادت تعلن أنه يكره لحم السمك حتى فقد فخره بالامتناع عن أكله ثواب الاختيار، وانتقل إلى مرحلة الإلزام. والواقع أننا نستطيع أن نستخلص قانوناً صغيراً نصه أنه كلما كان الخلق الإنساني إلزامياً قلّ ميل المجتمع إلى اعتباره فضيلة. وكأن الفضيلة تصرخ بنا أنها لا تستحق الامتداح إلا إذا كان صاحبها مخيّراً. فلا أخلاق مع القيود إطلاقاً، ولكي نستطيع أن نفترض وجود الخلق، لا بد لنا أن نفترض أولاً حرية كاملة في السلوك وبالتالي فإن من لم يستطع ارتكاب الشر لم يستطع ادعاء الخير. ولو نظرنا وفق هذا الرأي إلى حالة المرأة لانتهينا حتما إلى أنها لم تصل بعد إلى المرتبة التي نستطيع معها أن نطبق عليها قانوناً أخلاقياً من أي نوع. فهي اليوم مقيدة تقييداً يردها إلى حالة من السلبية تجعلها مجردة من أي نوع من أنواع الخلق. أو أنها ممنوعة بالقوة من أن تكون لها أخلاق معينة نستطيع أن نحكم عليها. إنها ليست خيّرة لأن خيرها إلزامي، وهي ليست شريرة لأن ما ترتكبه من شر ليس إلا نتيجة لما نسميه (استهواء القيد) ونقصد به ذلك الإغراء القوي الذي تملكه الممنوعات، ففي كل قيد استهواء خطر يدعو الإنسان المقيّد إلى أن يكسره ويخرج عليه. وليس لنوع القيد تأثير يذكر في موقف المقيّد فكل قيد يستهوي حتى إذا كان مفيداً. وأغلب الظن أن سبب الاستهواء في حالة التقييد الأخلاقي أن في كل تقييد اتهاماً ضمنياً بسوء الخلق يستدعي الضبط والمراقبة. وكأن كل قيد تهمة بإمكانية الشر. ولعلنا قد لاحظنا جميعاً أن الأبرياء الذين يتهمون بسوء الخلق ينتهون غالباً إلى أن يسوء خلقهم. وتعليل هذا أن البراءة تتألم من الاتهام إلى درجة تولد فيها ميلاً غامضاً إلى تحقيق هذا الاتهام. ولعلنا إذ نتمسك بهذه الأخلاق لأننا نحسّ بعذوبة الشعور بالبراءة والنقاء، فماذا يحدث لنا حين نتهم زوراً بما لم نرتكب؟ الأرجح أننا نتعرض إذ ذاك إلى ما حدث لتلك الفتاة التي اتهمت وهي طفلة بسرقة عقد ذهبي وعوقبت عقاباً قاسياً دون أن تستطيع إثبات براءتها. فلما كبرت وجدت نفسها منساقة إلى السرقة على الرغم من أنها لا تحتاج إلى المسروقات. ولعلها كانت تفلسف موقفها في أعماق نفسها قائلةً: "إنهم يعتبرونني لصّة على كل حال.. فمم أخاف؟ ولم لا أتمتع بالمسروقات على الأقل؟"، وهذا منطق البراءة المظلومة. على أن للتقييد ضرراً ينشأ عن أن الخلق المقيد محكوم عليه بالضرورة أن يفقد ثوابه النفسي ومن ثم غايته. فالتقييد يفقد الإنسان لذة الشعور بالقدرة على الاختيار والسطوة على مصيره الأخلاقي، ينما يصحب الشعور بالحرية إحساس بفيض من القوة يتدفق من أعماق النفس ويدفع الإنسان إلى التخلق. ونحن نستطيع أن نصوغ قانوناً خلقياً مؤداه أنه بمقدار الإحساس بالاختيار، يكون الثواب النفسي على العمل. فهذا الإحساس هو المفتاح السحري للقضية. ومثال هذا أن نقارن بين حالة محسن يتطوع بمائة دينار للمحتاجين مدفوعاً بعطفه عليهم وحبه للخير، وحالة رجل آخر وجد نفسه في حفلة خيرية تطوع فيها أصدقاؤه كل بمائة دينار فاضطر بدافع الخجل إلى أن يشاركهم الإحسان. ففي حالة المحسن الأول ينتهي الأمر إلى السعادة والرضا النفسي، أما المحسن المضطر فيخرج ساخطاً ولعله يقسم ألا يحضر حفلات خيرية في المستقبل. وهذه حالة لم يعد فيها المحسن فاضلاً، وهي حالة المرأة التي يفقد خيرها حريته ويصبح إجباريا. ولهذا يستحيل أن تحسّ المرأة بالمشاعر الكريمة التي يحسّ بها رجل فاضل لا يمنعه مانع من أن يكون شريراً وإنما يجد في الخير ملاذاً عذباً لنفسه الطيبة المتدفقة. وهكذا يصبح على المرأة أن تحتمل الخير دون ثواب نفسي، وهذا أشق ما يمكن. - 4 - هذا كله ينتهي بنا إلى إدراك السبب في أن المرأة قد بقيت طيلة هذه العصور في حالة من السلبية الكاملة التي تجعل كل حكم أخلاقي عليها غير ممكن. فقد انتهى بها القسر والإلزام إلى أن تكون حياتها سلسلة طويلة من الامتناعات عن السلوك فلم تتصف بأية صفة أخلاقية إيجابية. وقد أدى بها احتفاظها بطاقاتها النفسية الخصبة في أعماق نفسها إلى أن تستعيض عن السلوك بقناع خارجي، المقصود منه أن يكون درعاً واقياً يحمي هذه الأعماق المشلولة من أن تلوح كسيرة سلبية لا كيان لها. وعلى هذا القناع انصبت الأحكام الخلقية. والحق أن أغلب الأحكام قد دأبت على تناول النتائج بمعزل عن الأسباب فدرست سلوك المرأة بمعزل عن الإلزامات الفادحة التي تقيدها، وبحثت عن الأخلاق في حياة مخلوقة لا حرية لها من أي نوع، وتطلبت الشخصية حيث لا توجد إرادة، والتمست حاضراً حيث لا يوجد ماض ولا تاريخ. وهذا قد كان موقف طائفة كبيرة من الفلاسفة والأدباء والمفكرين وهو موقف غير علمي تنقصه الرزانة والاتزان. فلا أخلاق من دون حرية كاملة في السلوك، ولا شخصية من دون أخلاق رصينة تدرك ذاتها، ولا إنتاج في أي حقل من دون شخصية كاملة العمق واسعة الجوانب نفاذة تدرك ما تريد. وهذا لأن الحرية هي التي تنتج الأخلاق، والأخلاق هي التي تنتج الشخصية، والشخصية هي التي تنتج الفن والفكر والإنسانية. والحقيقة أن سلوك المرأة في مثل هذه الظروف لا يمكن أن يكون على غير ما نراه اليوم في الطبقات الجاهلة، فهي لا تزيد على أن تكيف نفسها للحياة في مثل هذا المحيط القاسي الذي لا يحميها وإنما يعاملها في قسوة شديدة. وفي ظل هذا الضغط المستهين اضطرت المرأة أن تتخلى عن فضائل الحرية جميعاً، لأنها أدركت بفطرتها أن الخير الذي يهب نفسه ليس إلا ترفاً يلذ للأحرار من الناس. أما المستعبدون فإن التخلق يسلبهم آخر ما يمكن أن يحلموا به من حق في الحياة. وهكذا اضطرت المرأة إلى التخلي عن كثير من الترف الأخلاقي الذي يجمل الحياة ويمنحها الخصوبة والامتداد والعمق. وقد كانت متعة (الصداقة) أول ما فقدت المرأة من هذه المظاهر الأخلاقية المترفة. فالمرأة لا تقدر اليوم على الصداقة، وقد أفقدتها الإلزامات الأخلاقية المتعسفة هذه المتعة الإنسانية العذبة التي يزداد استمتاع الإنسان بها كلما اتسع فهمه وتركزت شخصيته الاجتماعية وثقافته. ذلك أن الصداقة تقتضي قبل كل شيء "الحرية" في منح المودة. إنها فيض في شخصية الإنسان يجعله يطفح حتى يغمر إنساناً آخر. وهي في هذا كالكرم تماماً فكما أن الكريم يبذل ماله إرضاءً لدافعٍ لا يقاوم في أعماق نفسه، كذلك يبذل الإنسان الكامل الشخصية حبه لصديق أو أصدقاء. والمرأة تشعر بأنها لا تملك شيئاً تفيض به على الآخرين لأنها لا تملك الحرية ولا الثقة بالنفس وهي بخيلة بالمودة، شحيحة باللطف لأن رصيدها من الشخصية ضيق محدود تعيش منه عيش الكفاف، فماذا تستطيع أن تمنحه للأصدقاء؟ لا شيء. وهي في حالتها هذه أشبه ببركة ضحلة لا تستطيع أن تطفح. وأن على أية بركة أن تكون نهراً عظيماً لكي تستطيع أن تغمر الوديان. هذا الرأي يجعل الصداقة بذلاً نفسياً يستكمل الإنسان به شخصيته ويتم شعوره بالحرية. والمرأة في ضعفها وقلة ملكيتها تحرص على القليل الذي تملكه حرص البخيل، وهذا أيضاً سبب ما نراه فيها من بخل ملحوظ في كل جهة من جهات حياتها. فهي تخشى الإنفاق وكأن فيه منبع خطرٍ يتهدد مستقبلها. وهذا موقف طبيعي يتخذه المستضعفون المسلوبو الحقوق عادةً. إنه رد فعل دفاعي تلتزمه عند عدم القدرة إزاء القوى المحيطة بها. ولو راجعنا التاريخ الإنساني لوجدنا أمثلة كثير لهذه الأساليب الدفاعية في الطوائف الصغيرة المضطهدة التي عاشت في بيئات قاسية، فقلما انتهى الأمر إلى غير البخل والأنانية والضعف والحقد والحسد وغير ذلك مما يشكو المفكرون وجوده في المرأة. وعلى هذا التحليل نستطيع أن نقول أن كل خلق إنساني رديء، ينشأ عن شعور بالوحدة وفقدان الحماية الاجتماعية. ولعل القدرة على الصداقة ليست أعظم ما فقدت المرأة طيلة عصورها السلبية، فمن بين المزايا التي خسرتها شيء آخر أهم هو الشخصية الأصيلة المنفردة، التي تتميز عن سواها بالفروق الفردية. ولقد بات فقدان المرأة لهذا التميز الفردي أمراً مشهراً يشكو منه المفكرون شكوى متصلة لا تخلو من المرارة. ولعلنا قد سمعنا جميعا بذلك الحكم المشهور: "إني أعرف رجالاً كثيرين ولكني لا أعرف إلا امرأة واحدة". وهو نص على الفكرة الشائعة حول تشابه النساء وكونهن نسخاً متعددة من شخصية واحدة. وهذا قريب من الحقيقة للسبب عينه، فمن من دون حرية بالسلوك لابد أن يصبح الناس متشابهين، لأن الحرية هي التي تطلق المواهب والإمكانيات والقوى من عقالها في أعماق النفس، وليست الشخصية إلا محصلة هذه الأشياء بمجموعها، ولا تتكون الفروق الفردية الخلقية بين الناس إلا إذا انطلقت هذه القوى واتجهت. أما الغرائز والعادات الفطرية فهي عينها في الناس كلهم، ولا شك في أن كل امرأة تشبه كل امرأة أخرى فيها. وقد قلنا أن المرأة لم تبدأ بعد بالسلوك لأننا حكمنا عليها بالسلبية، ومن ثم فما وجه انتظارنا فروقاً خلقية بين النساء؟ ووفق أي قانون نطلب إلى المرأة المستعبدة الجاهلة أن تملك آراء وأصالة وشخصية؟ والحق أننا إذا أطّرحنا السلوك الخلقي من حياتنا الإنسانية لم يبق منا إلا ما هو متشابه فينا جميعاً من غرائز وعوامل طبيعية وصفات فطرية وغير ذلك مما تملكه المرأة كما يملكه الرجل. وقد استتبع فقدان الشخصية مظاهر سلبية أخرى منها ضعف الشعور بالمسؤولية الأدبية خارج الحدود الفردية الضيقة. فما المسؤولية، لو فكرنا، إلا شعور بقوة فائضة تجعلنا نحسّ أن في طاقتنا أن نساعد الآخرين ونسيطر على ظروفهم ونحميهم والمرأة لا تشعر بهذه القوة لأنها قد كانت دائماً محمية يكفيها أخوها وأبوها شر الحيرة ومتاعب العزم والإرادة، فهما يقرران لها كل شيء، وقد مضى أمرها على هذا قروناً حتى لم يعد في وسعها أن تبتّ في شيء وأصبحت تشك في قدرتها. وأغلب الظن أن هذا العجز عن الشعور بالمسؤولية هو العامل الرئيسي في أن النساء يتكلمن في سرعة تفوق سرعة كلام الرجل، حتى دلت إحصائية أمريكية على أن عدد الكلمات التي ينطق بها رجل في دقيقة أقل من نصف عدد الكلمات التي تنطق بها امرأة. فالرجل يتكلم في بطء لأنه يحتاج إلى أن يزن كلماته قبلا أن ينطق بها، وهو يدرك أن العبارات الطائشة قد تؤدي إلى نكبات أحياناً، ولذلك يسوقه إحساسه بالمسؤولية إلى التأني في الكلام. أما المرأة فتكاد الألفاظ تفقد في كلامها معانيها لانعدام شعورها بالمسؤولية. والحق أنه كلما كان المضمون الذي يحاول الإنسان نقله بالألفاظ إلى الآخرين أعمق وأدق، زادت حاجته إلى التأني في صياغة العبارات. ومعنى هذا أن للشخصية تأثيراً مباشراً في سرعة التكلم. وسنكتفي بهذه الأمثلة على الأثر العملي للتقييد في حياة المرأة، ونرجو أن نكون أوضحنا وجهة نظرنا حين نعتبر المرأة لم تبلغ بعد مرتبة يحق لنا فيها أن نصدر عليها أحكاماً أخلاقية فلا أخلاق يملكها من لا حرية له. وعلى هذا أفلم يحن لهذه الملايين من النساء أن تقف وتطلب إلى المجتمع أن يمنحها الحق في تكوين أخلاق؟ - 5 - بعد هذا الاستعراض السريع لمختلف المشاكل في موضوع المرأة يقوم أمامنا سؤال خطير ينصب عليه أشد الاهتمام اليوم. السؤال عما ينبغي للمرأة أن تصنع الآن إزاء الحالة، أتقبع في منزلها وتنتظر حتى تتحول في بطء شديد من مرتبة السلبية إلى مرتبة الأخلاق لتنزل بعد ذلك إلى الحياة العامة؟: أم تبدأ بالعمل حالاً فتنال حقّ التمثيل البرلماني لتطالب بحقوقها بنفسها تمثلها نخبة من المثقفات ذوات الاستقلال الاقتصادي والعاطفي؟ وبذلك تضمن لنفسها انتقالاً أسرع إلى المرتبة الفعّالة؟ إننا نجنح إلى الأخذ بالرأي الثاني لأسباب مختلفة أحدها أن حق التمثيل النيابي أمر لا علاقة له بالثقافة، فإن مليونين ونصفاً من نساء العراق يملكن الحقّ في أن يكون لهن صوت في مجلس يمثل شعبا ديمقراطياًً. هذا فضلاً عن أن النزول إلى ميدان الحياة سيكون دواء فعّالاً في مداواة السلبية التي قسرت عليها المرأة، وهي سلبية تنتقل عدواها بالضرورة إلى الرجل ومن المؤكد أن كل امرأة مستعبدة في العراق يقابلها حتما رجل مستعبد.أما الاعتراضات التي يصيح بها المترددون من الناس، فلعل أقواها حدّة الاحتجاج بأن المرأة لا تملك ملكات عقلية، لأن التفكير يلوح وكأنه خاصة رجالية. ولسنا نريد أن نرد على هذا الاعتراض بتعداد الأسماء النسوية التي ظهرت في مختلف حقول الفكر، لأن قليلاً من المنطق، وشيئاً من العلم بقوانين الوراثة يضع في أيدينا أدلة من نوع أقوى. فليس من المنطقي أن تكون المرأة مصدر الحياة الأول دون أن تملك مواهب وخصائص عقلية تورثها الأجيال التي تخلقها. وأن من المستحيل أن نوفق بين حقائق علم الوراثة وهذا الحكم الجارف الذي لا يستند إلى أساس علمي، فالطبيعة أحكم من أن تقصر القدرة على إيراث المواهب العقلية على الذكور حذراً من أن يجيء نصف المواليد إلى هذه الحياة بلا مواهب عقلية. وهذا لأن الأجنة تكتسب خصائصها العقلية والنفسية من كلا الأبوين على غير تعيين، فماذا يحدث لو أخطأ جنين ذكر فورث خصائص أمه العقلية؟، وكيف تسلك الطبيعة في حالة تصر فيها مولودة أنثى على أن ترث خصائص أبيها؟، هذه حالة غير مقبولة لأنها تترك الوراثة للمصادفات. ومن الاعتراضات الشائعة شيوعاً عظيماً اليوم قولهم أن سعادة المجتمع تقتضي تقسيم العمل فيه، وقد قسّم العمل وخصّت المرأة بأعمال المنزل، بحيث إذا أرادت المرأة أن تخرج إلى الحياة لتنال حقوقها تعرضت الأسرة إلى الانهيار. وهذا الاعتراض الغريب يتغافل عن الغرض الأول الذي بنيت من أجله المجتمعات وينسى ما هو مفروض في المجتمع، الصالح. فما هذا المجتمع؟ ولماذا اختار أفراده أن يضحي كل منهم بجانب من حريته ليعيش فيه؟ الجواب أنه إنما قام لتهيئة الحد الأعلى الممكن الذي يكفل للأفراد أن يعيشوا ملء مجالاتهم النفسية، ويستغل أقصى ما ركبته الطبيعة في أعماقهم من مؤهلات روحية وعقلية. وعلى هذا، فما عذر مجتمع يضحي بنصف أفراده بدعوى المحافظة على راحة النصف الثاني؟ إنها حالة عجيبة لا يتقبلها علم الاجتماع من الوجهة النظرية. لأن المعنى الكامل وراء هذه التضحية يدل على أننا قد خططنا المقاييس قبل وجود الإنسان الذي تستمد منه هذه المقاييس، وسننا الخطط للمجتمع دون أن تستند إلى حاجاتنا وإمكانياتنا. وهكذا وصلت المرأة متأخرة إلى المجتمع، فيما يلوح، فلم يزد الذين سنوا القوانين على الانحناء في أدب جمّ قائلين: "يا سيدتي. يؤسفنا أننا قسمنا العمل قبل حضورك. وقد خصصناك بالكنس والرش والطبخ والخياطة". وهذا مثل أن يقول الاسكافي لزبونه: "يا سيدي لقد صنعت لك الحذاء قبل أن أقيس قدميك، ولا عليك إذا دميت قدماك". ولسنا ندري إن كان قد آن للإنسانية أن توسّع حذائها الضيق. أما الاعتراض بأن الرجل نفسه لم ينجح في الحياة العملية ومن ثم فإن هذا يستتبع الفرض بأن المرأة لن تستطيع هي الأخرى أن تنجح، فهو فرض يتضمن الاعتقاد الشائع بأن طاقة المرأة مشابهة لطاقة الرجل. وهذا ليس ثابتاً. فنحن إذا سلمنا بالفوارق الجنسية بين المرأة والرجل كان لابد لنا أن ننتظر اختلافاً نوعياً بين مواهب الجنسين. ولا شك في أن التفكير النسوي سيكون وجهة نظر جديدة بالنسبة إلى التفكير الإنساني. والحق أننا نستطيع أن نقول أن مجال المرأة أشبه بمناطق في العقل البشري لم تكتشف بعد ولم تستغل. إنها قارة كاملة جديدة لا نظن كشفاً آخر سيعادلها، فلا شيء أروع ولا أوسع ولا أعمق من الطاقة التي ركبتها الطبيعة في الإنسان. فليكن هذا الإنسان قانوننا الأعظم الذي نقيس وفقه عدالة قوانيننا ونظمنا . الآداب، س1، ع 12، بيروت، كانون الأول 1953
لم يزل موضوع المرأة مجالاً عاطفياً تتناوله الأقلام في كثير من الانفعال، على أسلوب يبتعد عن هدوء الموضوعية وحكمة التجرد من الأهواء. فالمعتقدات الفردية والآراء الاجتماعية المتجمدة والعواطف توشك أن تجعل الموضوع شاقاً على الباحث، فلا يأمن حين يتناوله من أن يقع في مزلق اجتماعي، أو أن تلتهمه سورة عاطفية جارفة تتدخل فيها تيارات تجاربه الشعورية الخاصة، وقد توقعه لفتة هنا و التواءة هناك في هاوية سياسية أو دينية. وما هذا إلا لأن موضوع المرأة لم يخرج بعد عن أن يكون موضوعاً أخلاقياً، وكل موضوع أخلاقي لابد أن يمسّ، من جهاته المختلفة، شتى نواحي الحياة السياسية والدينية والاجتماعية في المجتمع الإنساني. ولا شيء أصعب على الباحث من معالجة قضايا الأخلاق، لأن كل فرد في المجتمع يعد نفسه، بمعزل عن ثقافته، مصدر ثقة في هذه القضايا، ومن ثم يتحول الموضوع إلى حقل العواطف وتنتقل قضايا الأخلاق إلى حيز الشعور. ولعل أبرز دليل على هذا التحول الخطر ما نراه من أن القانون الذي يحكم القضايا النسائية يستمد كثيراً من مواده من العرف المحلي دونما نظر إلى المنطق. والعرف، لو دققنا، قانونٌ غفلٌ يتألف من تراكم العادات والعواطف عبر العصور في بيئة ما، وهو بهذه الصفة يخرج بالضرورة عن النطاق المفروض للقانون. على أن المصاعب الأخلاقية ليست هي الوحيدة، فثمة مصاعب أخرى تعترض السبيل، منها أن أغلبية النساء في هذه البلاد لم تصل بعد إلى مرتبة الوعي الثقافي الكامل الذي يتيح لها أن تدرك الواقع المرير الذي تتخبط فيه. والحق أن اللحظة التي يشعر الإنسان فيها بأنه مغبون هي لحظة حاسمة في تاريخ تطوره. على أن المرء لن يشعر بالظلم حتى يذوق بعض الحرية، وفي قضايا الحرية يبقى الوسط نقطة قلقة لا سبيل إلى إثباتها، فالمرء ينزع إلى أن ينال حريته كاملة وكأنه يقول: "لا نصف حرية أبداً ... إما الحرية كلها أو لا ..." وثمة صعوبة أخرى يضعها في سبيل التطور جانب من المتعلمات ذوات الكبرياء والحساسية. فنحن هنا إزاء حالة نستطيع تسميتها "بالتغطية السيكولوجية" وهي حالة شائعة مثالها تلك الفتاة التي يمنعها كبرياؤها من أن تعترف بأنها تسلك وفق خطة أبيها أو أخيها، فتروح توحي لنفسها بأنها تتصرف وفق مبادئ شخصية. وكثيراً ما رأينا الحجاب يصبح مبدأ تدعو إليه فتاة حساسة تتهرب من مواجهة كبريائها المطعونة وكأنها تقول: "...إن كنا لا نستطيع تحقيق ما نرغب فيه، فلنرغب فيما نستطيع تحقيقه. "وهذه في نظرنا أخطر حالة تتعرض لها المرأة، فهي تفقدها قوة الكفاح وتطوي نفسها على جرح غائر. أما العراقيل التي يبثها الرجل المعاصر نفسه فهي فيما يبدو لنا تنبع من اعتقاده أن تحرر المرأة سيسلبه جانباً من حريته هو، ولعله يؤمن أيضاً بأن قضية التحرر تهم النساء وحدهن لأن فوائدها ستقتصر عليهن، ومن ثم فهو، إن لم يعارض، يتخذ موقفاً سلبياً. ولعله واضح أن هذه العقيدة بفرعيها تتضمن فصلاً قاطعاً لعالم الإنسان يشطره إلى شطرين: نساء ورجال، ويجعل للحرية مدلولين، مدلولاً نسائياً وآخر رجالياً. وقلّ فينا من يريد أن يلتفت إلى أن عبودية المرأة لابد أن تقابلها عبودية مساوية في حياة الرجل، مادام الرجل والمرأة يعيشان متعاونين في بيئة واحدة. والحق أنه ليس معقولاً ولا منطقياً أن يعيش هذان الكائنان معاً ثم يكون أحدهما حراً والآخر مستعبداً تمام الاستعباد. وهذا لأن عبودية هذه لابد أن تؤثر في حرية ذاك. ولا مفرّ من هذا. - 2 - وأول ما يهم البحث أن يقرره أن تاريخ المرأة قد كان حتى هذه اللحظة تاريخاً سلبياً. ونحن لا نحتاج إلى أن نذهب بعيدا لإثبات هذا، فالأدلة ترد حولنا وتكاد تختلط بالهواء الذي نتنفسه. وليس من داع إلى أن نلجأ إلى النصوص القانونية، وإنما يكفي أن نلقي نظرة عابرة حولنا لنرى إلى أي مدىً بلغت استهانة الذهن العام بالمرأة. والحق أن تاريخ العبودية الإنسانية لا يشتمل على صفحة أشد سواداً من هذه الصفحة، فنحن هنا إزاء حرمان تام من كل حق من حقوق الحياة. وقد فقدت المرأة تدريجياً كل ما تملك حتى قيمتها الإنسانية. ويبدو هذا في أشياء تمرّ بنا في حياتنا اليومية دون أن نفطن إلى دلالتها البعيدة منها. مثلاً الفرق في المرتبة بين صلة العمومة وصلة الخؤولة، فالمجتمع يجنح إلى اعتبار العم أقرب إلى الإنسان من الخال، وفي هذا دلالة أكيدة على أن الأب يعتبر أهم من الأم على الرغم من أن قيمتها الوراثية متساوية تمام التساوي. ومن هذه المظاهر التي يمكن أن تستخلص منها استهانة المجتمع بالمرأة أن السيدة المتزوجة مازالت تعتبر أهم من الفتاة الآنسة، فهي تتمتع بمزايا كثيرة وتنال احترام الناس. أفلا يدل هذا على أن قيمة المرأة في عرف المجتمع ليست بشخصيتها وثقافتها وسلوكها وإنما تأتيها هبة من زوجها؟ وهذا ينزل بها إلى مستوى السلبية ويقتل طموحها، فإذا كانت الشخصية تُكتسب بمجرد الزواج فلا عجب في أن يصبح العمل الوحيد الذي تسعى إليه هذه المسكينة هو الزواج، والمرأة وفق هذا الرأي العجيب ليست أكثر من مرآة تعكس مجد غيرها. أما من الوجهة الاقتصادية فالرجل المعاصر عندما يشكو من أنه يعول على المرأة، إنما يؤكد ضآلة قيمتها في نظره. لأن هذه الشكوى تتضمن معنى غريباً، لو تأملنا، وهو أن عمل المرأة من ولادة وتربية وخياطة وكنس وغسل وطبخ وكيّ وغير ذلك، يبدو للرجل وكأنه لا يستأهل قيمة اقتصادية تعادل قيمة عمله هو في المعمل والحانوت والبرلمان. وهو يتغافل عن أن هذا التوزيع في العمل لابد أن يستتبع توزيعاً في المال، فإذا كانت المرأة قد أخذت على عاتقها أن تقبع في المنزل وتنجز هذه الأعمال الشاقة بينما يخرج الرجل ليكتسب المال للأسرة، فأن هذا لابد أن يفترض حقاً مساوياً للمرأة في هذا المال الذي يكسبه الرجل، على ألا يستتبع هذا مناً من الرجل من أي نوع، وباعتبار أن المرأة و لو أرادت أن تؤدي هذه الأعمال نفسها خارج منزلها لنالت عليها أجراً. وهذا ما نسيه الرجل تمام النسيان حتى أصبح يحسب أنه يتكرم بالمال على مخلوقات عاجزة لا عمل لها. وما يهمنا في هذا هو أن نستخلص الحقيقة الأخلاقية وهي أن عمل المرأة المعقد يبدو للرجل بلا قيمة. وهذا أعجب العجب. وهناك جهة ثالثة نستطيع أن نستفيد منها في إدراك تفاهة المرأة في مجتمعاتنا. تلك هي جهة اللغة العربية، فإن أبسط دراسة اجتماعية للألفاظ والقواعد تدلنا دلالة موضحة على أن هذه اللغة لغة قوم يستهينون بالمرأة. فالتقديم في النحو هو دائما للمذكر على المؤنث. والتغليب يذهب في هذا مذهباً يحتم تغليب مذكر واحد على أي عدد من الإناث ولو بلغ الملايين، والضمائر المفردة تستعمل في سخاء للتعبير عن جماعة الإناث في بعض النصوص المشهورة. ومما يلفت النظر في اللغة كلمات مثل (الأميّة) ومعناها الجهل بالقراءة والكتابة، وقد نسبت إلى (الأمّ). أما قولهم (شاعر فحل) فهو ينم عن قيمة (الفحولة) ويتضمن أيضاً الاستهانة بالأنوثة، وإلى هذه الاستهانة ترتكز كلمة (فحل) في قوتها. ونظن هذه الأمثلة تكفي ونرجو أن يتاح لنا التفرغ لإفراد بحث حول الموضوع في فرصة أخرى. هذه الاستهانة بقيمة المرأة وعملها قد استتبعت حرمانها من الملكية الخاصة. ولسنا نقصد أن نتحدث الآن في الملكية الاقتصادية، فلعلها قد حرمت من الملكية في جهات أخرى أهم. هناك الوقت مثلاً. فماذا تمتلك المرأة من هذه الثروة التي يبقى المفروض أن أبناء آدم يستوون في نصيبهم منها؟ لا شيء في الواقع. فقد ألقيت على المرأة أعمال فادحة تستغرق العمر كله، بينما انصرف الرجل إلى القراءة والبحث والفن والتأمل العقلي والتخصص في العلوم أو حتى إلى العبادة المسرفة التي هي أيضاً مظهر من مظاهر الشخصية في إنسان مخيّر. والعجيب أن أغلب الناس يعتقدون أن أعمال المنزل أمرٌ قضته الطبيعة على المرأة، وكأنها جهزتها بمؤهلات في هذه الجهة وجعلت في جسمها أعضاء خاصة تهيئها لإحسان الطبخ والخياطة وغسل الملابس ومسح البلاط. ونحن نسمعهم يتحدثون كثيراً عن عمل المرأة الطبيعيّ، ويدهشنا أنهم يقصدون هذه الأعمال التي لا يمكن أن تنكر مواهب الرجال فيها، فكم فيهم من طباخ وخياط وكنّاس. على أن الحرمان من المال والوقت أقلّ غرابة من حرمان آخر يصبّ على المرأة، وذلك هو حرمانها من أن تملك اسماً خاصاً كما يملك الرجل. فالمرأة تتبع أباها في اسمها مادامت آنسة، ثم تفقد هذا الاسم عندما تتزوج وتدعى باسم زوجها. فإذا طلقها هذا الزوج لسبب من الأسباب الكثيرة التي يصح الطلاق من أجلها عادت إلى اسم أبيها. ثم يتاح لها زواج ثان كما يحدث أحياناً فيتغير اسمها للمرة الرابعة. وهذا إن لم يكن محزناً فهو مضحك. وإن من حق هذه المخلوقة أن يكون لها اسم ثابت فتتبع اسم أبيها كما يصنع الرجل. والاسم الثابت يشبه أن يكون اعتزازاً من الإنسان بماضيه وعمله، فلابد أن يكون الأصل في حرمان المرأة من الاسم حرمانها من حق بناء ماض تكسبه بالعمل الشريف. أما الحرمان من الأولاد الذين يحق للأب أن ينتزعهم فور بلوغهم سناً يستطيعون فيها الاستغناء عن حضانة الأم فهو في نظرنا أقسى أنواع الحرمان وأكثرها بعداً عن المنطق. ولا بد لنا، مادمنا نقرر بعض جوانب الغبن في حياة المرأة، أن نشير إلى الإلزامات الأخلاقية التي قيدت بها دون الرجل. فمن دراسة عاداتنا الاجتماعية نستطيع أن نستخلص أن للأخلاق مدلولات نسائية خاصة تختلف مدلولاتها الرجالية. هناك مثلاً صفة (الكرم) التي ينبل الرجل بها ويرتفع، فهي حين تصل إلى المرأة تصبح خلة مذمومة. وإنما المستحسن عندنا أن تكون المرأة (بخيلة) ومن هذا قول الطغرائي في مدح جماعة: الجود والإقدام في فتيانهم والبخلُ في الفتيات والإشفاقُ وقد يكون الأصل في هذا الاعتبار ما أشرنا إليه من أن الرجل يعتبر المال ماله وليس من حق المرأة أن تجود به. وهذا يعيدنا حيث كنا. وهناك حالة ثانية يتضح فيها الفرق في الاعتبارات الأخلاقية بين المرأة والرجل. وهي حالة الحداد. فعندما يموت ميت تلزم ابنتُهُ وأختُه وأمّه بحداد صارم يتضمن ملازمة البيت ملازمة تامة ولبس ثياب سود كاملة، بينما يترك أخو المتوفى وابنه وأبوه أحراراً فما ينتهي مجلس الحداد حتى يخرجوا بحثاً عن السلوان وهم مخيرون حتى في لبس ربطة العنق السوداء. والمعنى الأخلاقي في هذا التفريق واضح. فالمقصود أن تلازم المرأة منزلها أطول مدة ممكنة وأن تقتصد في شراء الملابس حيث يكفي للحداد ثوب واحد لا داعي لتغييره. - 3 - أما الجهة الأخلاقية من حياة المرأة فهي تحتاج منا إلى وقفة أطول، فالحرمان هنا لابد أن يكون الأصل في كل حرمان آخر أنزل بها، وكأن هذه الجهة هي الجهة النظرية في الموضوع وأساس الخطأ في الأمر أن القانون الأخلاقي النافذ في سلوك المرأة يفقد الشرط الأساسي في كل قانون أخلاقي، ذلك الشرط الذي يجعل من الممكن أن نحكم على إنسان بالفضيلة وعلى آخر بالرذيلة. والحقيقة أننا نستطيع أن نجد بعد قليل من التأمل الصافي، أنه لا معنى لأي قانون خلقي لا يقدم للمرء حرية كاملة على مخالفته، وذلك لأن كل قانون أخلاقي إنما يكتسب قوته من افتراض حرية الناس في اتباعه أو مخالفته. ومن هذه الحرية وحدها تنبع أخلاق الناس، وهي التي تجعل الخلق قابلاً لأن نحكم عليه بالثواب أو الإدانة. وهذا يتضمن أن نقول أنه لو احتوى كل قانون أخلاقي على وسائل للتنكيل بمن خالفه لفقدت الأخلاق قيمتها وأصبحت معنى قهرياً لا فضيلة فيه. ولكي نوضح معنى رأينا هذا، نمثل بحالة إنسان يصدّق لأن الكذب يعرضه لموت أكيد. فمثل هذا الإنسان لا يمكن أن يعدّ صدوقاً لأن الصدق كان ضرورة لا محيد عنها. وتلك حالة يفقد فيها الصدق فضيلته. وإنما يمتدح الصدق حين يكون المرء مخيراً بين أن يكذب أو يصدق دون أن تحتم عليه الضرورة حالة معينة. أذكر أنني سمعت رجلاً يتحدث مرة في اشمئزاز عن أولئك الذين يأكلون السمك دون أن يتذكروا كيف تتلوى السمكة وهي تذبح على الشاطئ، قائلاً أن هذه الصورة تجعله يمتنع عن أكل السمك. وقد صدف أن كانت للرجل أخت ساذجة فاندفعت وقالت له: "ولكنك لا تطيق لحم السمك، لقد كنت تكره رائحته منذ صغرك". فما كاد يسمع هذه العبارة البسيطة حتى انزعج وأشهر أخته في محضر الضيوف. وليس السبب لو تأملنا إلا أن هذه العبارة جعلت فضيلته تظهر بمظهر الضرورة، فما كادت تعلن أنه يكره لحم السمك حتى فقد فخره بالامتناع عن أكله ثواب الاختيار، وانتقل إلى مرحلة الإلزام. والواقع أننا نستطيع أن نستخلص قانوناً صغيراً نصه أنه كلما كان الخلق الإنساني إلزامياً قلّ ميل المجتمع إلى اعتباره فضيلة. وكأن الفضيلة تصرخ بنا أنها لا تستحق الامتداح إلا إذا كان صاحبها مخيّراً. فلا أخلاق مع القيود إطلاقاً، ولكي نستطيع أن نفترض وجود الخلق، لا بد لنا أن نفترض أولاً حرية كاملة في السلوك وبالتالي فإن من لم يستطع ارتكاب الشر لم يستطع ادعاء الخير. ولو نظرنا وفق هذا الرأي إلى حالة المرأة لانتهينا حتما إلى أنها لم تصل بعد إلى المرتبة التي نستطيع معها أن نطبق عليها قانوناً أخلاقياً من أي نوع. فهي اليوم مقيدة تقييداً يردها إلى حالة من السلبية تجعلها مجردة من أي نوع من أنواع الخلق. أو أنها ممنوعة بالقوة من أن تكون لها أخلاق معينة نستطيع أن نحكم عليها. إنها ليست خيّرة لأن خيرها إلزامي، وهي ليست شريرة لأن ما ترتكبه من شر ليس إلا نتيجة لما نسميه (استهواء القيد) ونقصد به ذلك الإغراء القوي الذي تملكه الممنوعات، ففي كل قيد استهواء خطر يدعو الإنسان المقيّد إلى أن يكسره ويخرج عليه. وليس لنوع القيد تأثير يذكر في موقف المقيّد فكل قيد يستهوي حتى إذا كان مفيداً. وأغلب الظن أن سبب الاستهواء في حالة التقييد الأخلاقي أن في كل تقييد اتهاماً ضمنياً بسوء الخلق يستدعي الضبط والمراقبة. وكأن كل قيد تهمة بإمكانية الشر. ولعلنا قد لاحظنا جميعاً أن الأبرياء الذين يتهمون بسوء الخلق ينتهون غالباً إلى أن يسوء خلقهم. وتعليل هذا أن البراءة تتألم من الاتهام إلى درجة تولد فيها ميلاً غامضاً إلى تحقيق هذا الاتهام. ولعلنا إذ نتمسك بهذه الأخلاق لأننا نحسّ بعذوبة الشعور بالبراءة والنقاء، فماذا يحدث لنا حين نتهم زوراً بما لم نرتكب؟ الأرجح أننا نتعرض إذ ذاك إلى ما حدث لتلك الفتاة التي اتهمت وهي طفلة بسرقة عقد ذهبي وعوقبت عقاباً قاسياً دون أن تستطيع إثبات براءتها. فلما كبرت وجدت نفسها منساقة إلى السرقة على الرغم من أنها لا تحتاج إلى المسروقات. ولعلها كانت تفلسف موقفها في أعماق نفسها قائلةً: "إنهم يعتبرونني لصّة على كل حال.. فمم أخاف؟ ولم لا أتمتع بالمسروقات على الأقل؟"، وهذا منطق البراءة المظلومة. على أن للتقييد ضرراً ينشأ عن أن الخلق المقيد محكوم عليه بالضرورة أن يفقد ثوابه النفسي ومن ثم غايته. فالتقييد يفقد الإنسان لذة الشعور بالقدرة على الاختيار والسطوة على مصيره الأخلاقي، ينما يصحب الشعور بالحرية إحساس بفيض من القوة يتدفق من أعماق النفس ويدفع الإنسان إلى التخلق. ونحن نستطيع أن نصوغ قانوناً خلقياً مؤداه أنه بمقدار الإحساس بالاختيار، يكون الثواب النفسي على العمل. فهذا الإحساس هو المفتاح السحري للقضية. ومثال هذا أن نقارن بين حالة محسن يتطوع بمائة دينار للمحتاجين مدفوعاً بعطفه عليهم وحبه للخير، وحالة رجل آخر وجد نفسه في حفلة خيرية تطوع فيها أصدقاؤه كل بمائة دينار فاضطر بدافع الخجل إلى أن يشاركهم الإحسان. ففي حالة المحسن الأول ينتهي الأمر إلى السعادة والرضا النفسي، أما المحسن المضطر فيخرج ساخطاً ولعله يقسم ألا يحضر حفلات خيرية في المستقبل. وهذه حالة لم يعد فيها المحسن فاضلاً، وهي حالة المرأة التي يفقد خيرها حريته ويصبح إجباريا. ولهذا يستحيل أن تحسّ المرأة بالمشاعر الكريمة التي يحسّ بها رجل فاضل لا يمنعه مانع من أن يكون شريراً وإنما يجد في الخير ملاذاً عذباً لنفسه الطيبة المتدفقة. وهكذا يصبح على المرأة أن تحتمل الخير دون ثواب نفسي، وهذا أشق ما يمكن. - 4 - هذا كله ينتهي بنا إلى إدراك السبب في أن المرأة قد بقيت طيلة هذه العصور في حالة من السلبية الكاملة التي تجعل كل حكم أخلاقي عليها غير ممكن. فقد انتهى بها القسر والإلزام إلى أن تكون حياتها سلسلة طويلة من الامتناعات عن السلوك فلم تتصف بأية صفة أخلاقية إيجابية. وقد أدى بها احتفاظها بطاقاتها النفسية الخصبة في أعماق نفسها إلى أن تستعيض عن السلوك بقناع خارجي، المقصود منه أن يكون درعاً واقياً يحمي هذه الأعماق المشلولة من أن تلوح كسيرة سلبية لا كيان لها. وعلى هذا القناع انصبت الأحكام الخلقية. والحق أن أغلب الأحكام قد دأبت على تناول النتائج بمعزل عن الأسباب فدرست سلوك المرأة بمعزل عن الإلزامات الفادحة التي تقيدها، وبحثت عن الأخلاق في حياة مخلوقة لا حرية لها من أي نوع، وتطلبت الشخصية حيث لا توجد إرادة، والتمست حاضراً حيث لا يوجد ماض ولا تاريخ. وهذا قد كان موقف طائفة كبيرة من الفلاسفة والأدباء والمفكرين وهو موقف غير علمي تنقصه الرزانة والاتزان. فلا أخلاق من دون حرية كاملة في السلوك، ولا شخصية من دون أخلاق رصينة تدرك ذاتها، ولا إنتاج في أي حقل من دون شخصية كاملة العمق واسعة الجوانب نفاذة تدرك ما تريد. وهذا لأن الحرية هي التي تنتج الأخلاق، والأخلاق هي التي تنتج الشخصية، والشخصية هي التي تنتج الفن والفكر والإنسانية. والحقيقة أن سلوك المرأة في مثل هذه الظروف لا يمكن أن يكون على غير ما نراه اليوم في الطبقات الجاهلة، فهي لا تزيد على أن تكيف نفسها للحياة في مثل هذا المحيط القاسي الذي لا يحميها وإنما يعاملها في قسوة شديدة. وفي ظل هذا الضغط المستهين اضطرت المرأة أن تتخلى عن فضائل الحرية جميعاً، لأنها أدركت بفطرتها أن الخير الذي يهب نفسه ليس إلا ترفاً يلذ للأحرار من الناس. أما المستعبدون فإن التخلق يسلبهم آخر ما يمكن أن يحلموا به من حق في الحياة. وهكذا اضطرت المرأة إلى التخلي عن كثير من الترف الأخلاقي الذي يجمل الحياة ويمنحها الخصوبة والامتداد والعمق. وقد كانت متعة (الصداقة) أول ما فقدت المرأة من هذه المظاهر الأخلاقية المترفة. فالمرأة لا تقدر اليوم على الصداقة، وقد أفقدتها الإلزامات الأخلاقية المتعسفة هذه المتعة الإنسانية العذبة التي يزداد استمتاع الإنسان بها كلما اتسع فهمه وتركزت شخصيته الاجتماعية وثقافته. ذلك أن الصداقة تقتضي قبل كل شيء "الحرية" في منح المودة. إنها فيض في شخصية الإنسان يجعله يطفح حتى يغمر إنساناً آخر. وهي في هذا كالكرم تماماً فكما أن الكريم يبذل ماله إرضاءً لدافعٍ لا يقاوم في أعماق نفسه، كذلك يبذل الإنسان الكامل الشخصية حبه لصديق أو أصدقاء. والمرأة تشعر بأنها لا تملك شيئاً تفيض به على الآخرين لأنها لا تملك الحرية ولا الثقة بالنفس وهي بخيلة بالمودة، شحيحة باللطف لأن رصيدها من الشخصية ضيق محدود تعيش منه عيش الكفاف، فماذا تستطيع أن تمنحه للأصدقاء؟ لا شيء. وهي في حالتها هذه أشبه ببركة ضحلة لا تستطيع أن تطفح. وأن على أية بركة أن تكون نهراً عظيماً لكي تستطيع أن تغمر الوديان. هذا الرأي يجعل الصداقة بذلاً نفسياً يستكمل الإنسان به شخصيته ويتم شعوره بالحرية. والمرأة في ضعفها وقلة ملكيتها تحرص على القليل الذي تملكه حرص البخيل، وهذا أيضاً سبب ما نراه فيها من بخل ملحوظ في كل جهة من جهات حياتها. فهي تخشى الإنفاق وكأن فيه منبع خطرٍ يتهدد مستقبلها. وهذا موقف طبيعي يتخذه المستضعفون المسلوبو الحقوق عادةً. إنه رد فعل دفاعي تلتزمه عند عدم القدرة إزاء القوى المحيطة بها. ولو راجعنا التاريخ الإنساني لوجدنا أمثلة كثير لهذه الأساليب الدفاعية في الطوائف الصغيرة المضطهدة التي عاشت في بيئات قاسية، فقلما انتهى الأمر إلى غير البخل والأنانية والضعف والحقد والحسد وغير ذلك مما يشكو المفكرون وجوده في المرأة. وعلى هذا التحليل نستطيع أن نقول أن كل خلق إنساني رديء، ينشأ عن شعور بالوحدة وفقدان الحماية الاجتماعية. ولعل القدرة على الصداقة ليست أعظم ما فقدت المرأة طيلة عصورها السلبية، فمن بين المزايا التي خسرتها شيء آخر أهم هو الشخصية الأصيلة المنفردة، التي تتميز عن سواها بالفروق الفردية. ولقد بات فقدان المرأة لهذا التميز الفردي أمراً مشهراً يشكو منه المفكرون شكوى متصلة لا تخلو من المرارة. ولعلنا قد سمعنا جميعا بذلك الحكم المشهور: "إني أعرف رجالاً كثيرين ولكني لا أعرف إلا امرأة واحدة". وهو نص على الفكرة الشائعة حول تشابه النساء وكونهن نسخاً متعددة من شخصية واحدة. وهذا قريب من الحقيقة للسبب عينه، فمن من دون حرية بالسلوك لابد أن يصبح الناس متشابهين، لأن الحرية هي التي تطلق المواهب والإمكانيات والقوى من عقالها في أعماق النفس، وليست الشخصية إلا محصلة هذه الأشياء بمجموعها، ولا تتكون الفروق الفردية الخلقية بين الناس إلا إذا انطلقت هذه القوى واتجهت. أما الغرائز والعادات الفطرية فهي عينها في الناس كلهم، ولا شك في أن كل امرأة تشبه كل امرأة أخرى فيها. وقد قلنا أن المرأة لم تبدأ بعد بالسلوك لأننا حكمنا عليها بالسلبية، ومن ثم فما وجه انتظارنا فروقاً خلقية بين النساء؟ ووفق أي قانون نطلب إلى المرأة المستعبدة الجاهلة أن تملك آراء وأصالة وشخصية؟ والحق أننا إذا أطّرحنا السلوك الخلقي من حياتنا الإنسانية لم يبق منا إلا ما هو متشابه فينا جميعاً من غرائز وعوامل طبيعية وصفات فطرية وغير ذلك مما تملكه المرأة كما يملكه الرجل. وقد استتبع فقدان الشخصية مظاهر سلبية أخرى منها ضعف الشعور بالمسؤولية الأدبية خارج الحدود الفردية الضيقة. فما المسؤولية، لو فكرنا، إلا شعور بقوة فائضة تجعلنا نحسّ أن في طاقتنا أن نساعد الآخرين ونسيطر على ظروفهم ونحميهم والمرأة لا تشعر بهذه القوة لأنها قد كانت دائماً محمية يكفيها أخوها وأبوها شر الحيرة ومتاعب العزم والإرادة، فهما يقرران لها كل شيء، وقد مضى أمرها على هذا قروناً حتى لم يعد في وسعها أن تبتّ في شيء وأصبحت تشك في قدرتها. وأغلب الظن أن هذا العجز عن الشعور بالمسؤولية هو العامل الرئيسي في أن النساء يتكلمن في سرعة تفوق سرعة كلام الرجل، حتى دلت إحصائية أمريكية على أن عدد الكلمات التي ينطق بها رجل في دقيقة أقل من نصف عدد الكلمات التي تنطق بها امرأة. فالرجل يتكلم في بطء لأنه يحتاج إلى أن يزن كلماته قبلا أن ينطق بها، وهو يدرك أن العبارات الطائشة قد تؤدي إلى نكبات أحياناً، ولذلك يسوقه إحساسه بالمسؤولية إلى التأني في الكلام. أما المرأة فتكاد الألفاظ تفقد في كلامها معانيها لانعدام شعورها بالمسؤولية. والحق أنه كلما كان المضمون الذي يحاول الإنسان نقله بالألفاظ إلى الآخرين أعمق وأدق، زادت حاجته إلى التأني في صياغة العبارات. ومعنى هذا أن للشخصية تأثيراً مباشراً في سرعة التكلم. وسنكتفي بهذه الأمثلة على الأثر العملي للتقييد في حياة المرأة، ونرجو أن نكون أوضحنا وجهة نظرنا حين نعتبر المرأة لم تبلغ بعد مرتبة يحق لنا فيها أن نصدر عليها أحكاماً أخلاقية فلا أخلاق يملكها من لا حرية له. وعلى هذا أفلم يحن لهذه الملايين من النساء أن تقف وتطلب إلى المجتمع أن يمنحها الحق في تكوين أخلاق؟ - 5 - بعد هذا الاستعراض السريع لمختلف المشاكل في موضوع المرأة يقوم أمامنا سؤال خطير ينصب عليه أشد الاهتمام اليوم. السؤال عما ينبغي للمرأة أن تصنع الآن إزاء الحالة، أتقبع في منزلها وتنتظر حتى تتحول في بطء شديد من مرتبة السلبية إلى مرتبة الأخلاق لتنزل بعد ذلك إلى الحياة العامة؟: أم تبدأ بالعمل حالاً فتنال حقّ التمثيل البرلماني لتطالب بحقوقها بنفسها تمثلها نخبة من المثقفات ذوات الاستقلال الاقتصادي والعاطفي؟ وبذلك تضمن لنفسها انتقالاً أسرع إلى المرتبة الفعّالة؟ إننا نجنح إلى الأخذ بالرأي الثاني لأسباب مختلفة أحدها أن حق التمثيل النيابي أمر لا علاقة له بالثقافة، فإن مليونين ونصفاً من نساء العراق يملكن الحقّ في أن يكون لهن صوت في مجلس يمثل شعبا ديمقراطياًً. هذا فضلاً عن أن النزول إلى ميدان الحياة سيكون دواء فعّالاً في مداواة السلبية التي قسرت عليها المرأة، وهي سلبية تنتقل عدواها بالضرورة إلى الرجل ومن المؤكد أن كل امرأة مستعبدة في العراق يقابلها حتما رجل مستعبد.أما الاعتراضات التي يصيح بها المترددون من الناس، فلعل أقواها حدّة الاحتجاج بأن المرأة لا تملك ملكات عقلية، لأن التفكير يلوح وكأنه خاصة رجالية. ولسنا نريد أن نرد على هذا الاعتراض بتعداد الأسماء النسوية التي ظهرت في مختلف حقول الفكر، لأن قليلاً من المنطق، وشيئاً من العلم بقوانين الوراثة يضع في أيدينا أدلة من نوع أقوى. فليس من المنطقي أن تكون المرأة مصدر الحياة الأول دون أن تملك مواهب وخصائص عقلية تورثها الأجيال التي تخلقها. وأن من المستحيل أن نوفق بين حقائق علم الوراثة وهذا الحكم الجارف الذي لا يستند إلى أساس علمي، فالطبيعة أحكم من أن تقصر القدرة على إيراث المواهب العقلية على الذكور حذراً من أن يجيء نصف المواليد إلى هذه الحياة بلا مواهب عقلية. وهذا لأن الأجنة تكتسب خصائصها العقلية والنفسية من كلا الأبوين على غير تعيين، فماذا يحدث لو أخطأ جنين ذكر فورث خصائص أمه العقلية؟، وكيف تسلك الطبيعة في حالة تصر فيها مولودة أنثى على أن ترث خصائص أبيها؟، هذه حالة غير مقبولة لأنها تترك الوراثة للمصادفات. ومن الاعتراضات الشائعة شيوعاً عظيماً اليوم قولهم أن سعادة المجتمع تقتضي تقسيم العمل فيه، وقد قسّم العمل وخصّت المرأة بأعمال المنزل، بحيث إذا أرادت المرأة أن تخرج إلى الحياة لتنال حقوقها تعرضت الأسرة إلى الانهيار. وهذا الاعتراض الغريب يتغافل عن الغرض الأول الذي بنيت من أجله المجتمعات وينسى ما هو مفروض في المجتمع، الصالح. فما هذا المجتمع؟ ولماذا اختار أفراده أن يضحي كل منهم بجانب من حريته ليعيش فيه؟ الجواب أنه إنما قام لتهيئة الحد الأعلى الممكن الذي يكفل للأفراد أن يعيشوا ملء مجالاتهم النفسية، ويستغل أقصى ما ركبته الطبيعة في أعماقهم من مؤهلات روحية وعقلية. وعلى هذا، فما عذر مجتمع يضحي بنصف أفراده بدعوى المحافظة على راحة النصف الثاني؟ إنها حالة عجيبة لا يتقبلها علم الاجتماع من الوجهة النظرية. لأن المعنى الكامل وراء هذه التضحية يدل على أننا قد خططنا المقاييس قبل وجود الإنسان الذي تستمد منه هذه المقاييس، وسننا الخطط للمجتمع دون أن تستند إلى حاجاتنا وإمكانياتنا. وهكذا وصلت المرأة متأخرة إلى المجتمع، فيما يلوح، فلم يزد الذين سنوا القوانين على الانحناء في أدب جمّ قائلين: "يا سيدتي. يؤسفنا أننا قسمنا العمل قبل حضورك. وقد خصصناك بالكنس والرش والطبخ والخياطة". وهذا مثل أن يقول الاسكافي لزبونه: "يا سيدي لقد صنعت لك الحذاء قبل أن أقيس قدميك، ولا عليك إذا دميت قدماك". ولسنا ندري إن كان قد آن للإنسانية أن توسّع حذائها الضيق. أما الاعتراض بأن الرجل نفسه لم ينجح في الحياة العملية ومن ثم فإن هذا يستتبع الفرض بأن المرأة لن تستطيع هي الأخرى أن تنجح، فهو فرض يتضمن الاعتقاد الشائع بأن طاقة المرأة مشابهة لطاقة الرجل. وهذا ليس ثابتاً. فنحن إذا سلمنا بالفوارق الجنسية بين المرأة والرجل كان لابد لنا أن ننتظر اختلافاً نوعياً بين مواهب الجنسين. ولا شك في أن التفكير النسوي سيكون وجهة نظر جديدة بالنسبة إلى التفكير الإنساني. والحق أننا نستطيع أن نقول أن مجال المرأة أشبه بمناطق في العقل البشري لم تكتشف بعد ولم تستغل. إنها قارة كاملة جديدة لا نظن كشفاً آخر سيعادلها، فلا شيء أروع ولا أوسع ولا أعمق من الطاقة التي ركبتها الطبيعة في الإنسان. فليكن هذا الإنسان قانوننا الأعظم الذي نقيس وفقه عدالة قوانيننا ونظمنا .
الآداب، س1، ع 12، بيروت، كانون الأول 1953