حركــة الشعــر الحــر فـي العــراق
بقلم الآنسة نازك الملائكة
كان شهر كانون الأول من سنة 1947 أول العهد بالشعر الحر في العراق، ففي أوله صدرت مجلة العروبة التي كان يصدرها الأستاذ محمد علي الحوماني في بيروت وفيها قصيدة لي حرة الوزن عنوانها "الكوليرا". وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان "أزهار ذابلة" لبدر شاكر الشياب وفيه قصيدة له حرة الوزن عنوانها "هل كان حباً؟". ولم تنشر الصحف بعد هاتين القصيدتين أي شعر حر حتى صدر ديواني "شظايا ورماد" في أيلول 1949، وفيه مجموعة من القصائد الحرة، قدمت لها بجانب من المقدمة، مشيرة إشارة موجزة إلى الأساس الوزني للشعر الحر الذي اعتبرته لوناً من الحرية يستحسن أن يمنحه الشاعر العربي. وقد أحدثت الحركة والديوان رد فعل عنيف في الأوساط الأدبية في بغداد، ونقدت الدعوة نقداً شديداً، إلا أن الشعراء الشباب استجابوا لها استجابة محمودة، فما انصرم شهران حتى بدأت صحفنا تنشر قصائد حرة بين الحين والحين، وراحت الدعوة تنمو ويتسع نطاقها على صورة مباشرة. وتتالت بعد ذلك الدواوين فصدر "ملائكة وشياطين" لعبد الوهاب البياتي في آذار 1950 و"المساء الأخير" لشاذل طاقة في آب 1950، كما أذكر و"أساطير" لبدر شاكر السياب في أيلول 1950. وراحت الحركة تتسع وتتخذ مظهراً أقوى حتى بات بعض الشعراء يكتبون أكثر شعرهم إن لم أقل كله بهذه الأوزان الحرة، وبات التيار يشتد بحيث يستاهل عناية النقاد والباحثين. وحركة الشعر الحر، كأية حركة جديدة في ميادين الفن والحضارة، قد بدأت لدنة، حيية، مترددة، مدركة أنها لابد أن تحتوي على فجاجة البداية، فلا مفر لها من ذلك، لأنها على كلٍ "تجربة" ولن يعفيها إخلاصها وتحمسها من أن تزل وتتخبط أحياناً. ذلك أن مثل هذه الحركات التي تنبع فجأة بمقتضى ظروف بيئية وزمنية، لابد أن تمر بسنين طويلة، قبل أن تستكمل أسباب النضج، وتملك جذوراً مستقرة، وتلين لها أداتها، وليس من المعقول أن تولد ناضجة وإنما تبدو عيوبها كلما ابتعدنا عنها، وأوغلنا في الزمن باختياراتنا الجديدة ونضج ثقافتنا واتساع آفاقنا. وإلى جانب هذا المحذور المشترك في الحركات الجديدة عامة، كانت لحركة الشعر الحر ظروف خاصة بها، تضيف إلى عقباتها. ذلك أنها، على الرغم من كل ما يمكن أن يقال في إرجاعها إلى أصول قديمة تجد جذورها في الموشحات الأندلسية، تبقى بنت هذا القرن وحده فالموشحات لم تتلاعب بعدد التفاعيل خلال القصيدة الواحدة، ولم تحرر القافية نصف هذا التحرير، وإنما نوعتها وفق خطة معينة يلتزمها الشاعر ولعل أبرز الأدلة على أن الحركة وليدة عصرنا هذا، أن أغلبية قرائنا مازالوا يستنكرون القصائد الحرة، وبينهم كثرة لا يستهان بها، تعتقد اعتقاداً راسخاً أن الشعر الحر ليس شعراً، وإنما هو نثر، أو شعر منثور. والحركة التي تنبت فجأة على هذه الصورة تفقد ميزة هامة، وتتضمن في ذاتها حاجزاً كبيراً دون أي نضج سريع تطمح إليه، فهي حركة لا تملك قواعد تسندها، ولا أسساً تجري وفقها لتأمين الخطأ والزلل، وإنما لابد لأتباعها وهم ينصرونها ويرفعون صوتها، من مجازفة وتضحية. ونتيجة لهذين السببين، يسهل جداً أن يسقط المبتدئون من الشعراء في التشابه والتكرار، فينهج الواحد منهم نهج زملائه الآخرين دونما ابتكار، لا عن تقليد داع، وإنما على صورة طبيعية، لأن السنن الوحيدة الموجودة هي قصائد الآخرين وهي مازالت قليلة نسبياً وهذا وجه من أوجه الخطر التي تتضمنها الحركة، وقد بدأت مظاهره تلوح في بعض الشعر الحر الذي ينتشر، فلم يعد من النادر أن تتشابه قصائد الشعراء في موضوعاتها وألفاظها وأجوائها وأخيلتها. وإن الخطأ في شعر الواحد ليسري سرياناً مدهشاً في شعر الآخرين وكأنه بات سنة تحتذى لا خطأ ينبغي تجنبه. ولا تقل الأسباب الناجمة عن طبيعة الأوزان الحرة نفسها خطورة عن السبب السابق، بل قد تكون أحفل بالمثبطات، وأدعى إلى إنذارنا. وسيدهشنا أن نلاحظ أن ما يبدو لنا أول وهلة مزايا في الأوزان الحرة، ينقلب حين نفحصه مزالق خطرة، هي في واقع الأمر مسؤولة إلى حد بعيد عن عظم إمكانيات الابتذال والرخاوة في الشعر الحر، حتى ليكفي أقل تهاون من جانب الشاعر لدفع القصيدة إلى هاوية الابتذال وعامّية اللين. وأول هذه المزايا الخادعة في الشعر الحر، تلك الحرية البراقة التي يمنحها للشاعر دونما قيد ولا شرط فيما يلوح. والحق أنها حرية خطرة، فالشاعر يلوح معها غير ملزم باتباع طول معين لأبياته، وهو كذلك غير ملزم بأن يحافظ على خطة ثابتة في القافية. فما يكاد يبدأ قصيدته حتى تخلب لبه السهولة التي يتقدم بها، فلا قافية تضايقه، ولا عدو معين للتفاعيل يقف في سبيله، وإنما هو حر، حر ... سكران بالحرية. وهو في نشوة الحرية ينسى حتى ما ينبغي ألا ينساه من قواعد، وكأنه يصرح بآلهة الشعر: "لا نصف حرية... إما الحرية كلها أو لا!" وهكذا نجد الشاعر ينطلق حتى من قيود الاتزان ووحدة القصيدة وأحكام هيكلها وربط معانيها، فتتحول الحرية إلى فوضى كاملة. وثاني المزايا في الأوزان الحرة، تلك الموسيقية التي تمتلكها، فهي تساهم مساهمة كبيرة في تضليل الشاعر عن مهمته. إنها سعلاة الشعر الخفية وفي ظلها يكتب الشاعر أحياناً كلاماً غثاً مفككاً، دون أن ينتبه، لأن موسيقية الوزن وانسيابه يخدعانه ويخفيان العيوب. ويفوت الشاعر أن هذه الموسيقى المضللة ليست موسيقى شعره، وإنما هي موسيقى فطرية في الوزن نفسه، يزيد تأثيرها أن الأوزان الحرة جديدة في أدبنا ولكل جديد لذة...وعلى هذه الصورة تنقلب موسيقية الأوزان الحرة وبالاً على الشاعر، بدلاً من أن يستخدمها، ويسخرها في رفع مستوى القصيدة وتلوينها. وأكثر تعقيداً من هاتين المزيتين الخادعتين، المزية الثالثة وهي "التدفق". وهذا التدفق ينشأ عن أن كل وزن حر (باستثناء وزن يندر استعماله) يعتمد على تفعيلة واحدة، ينمو بتكرارها مرات يختلف عددها من بيت إلى بيت. وهذه الحقيقة تجعل الوزن متدفقاً تدفقاً مستمراً، كما يتدفق جدول في أرض منحدرة، وهي مسؤولة عن خلوه من الوقفات. والوقفات، كما يعلم الشعراء، شديدة الأهمية في كل وزن، ولا يدرك الشاعر مدى ضرورتها إلا حين يفقدها في الوزن الحر، فهو إذ ذاك مضطر إلى مضاعفة جهده وحشد قواه لتجنب "الانحدار" من تفعيلة إلى تفعيلة دونما تنفس. ولنلاحظ أسلوب الوقوف في أوزان الخليل ونقارنه بما يقدمه الشعر الحر من إمكانيات وسيبدو لنا أن البحور الستة عشر ذات الشطرين، تقف عند نهاية الشطر الثاني وقفة صارمة لا مهرب منها، بينما لا يمتلك الوزن الحر أية وقفات ثابتة، وإنما يترك الشاعر حراً ليقف حيث يشاء، فهو يلقي المهمة على الشاعر وهنا المشكل. ولست أشك في أن الشاعر الناضج الذي يستعمل الوزن الحر يلاحظ أن المهمة عسيرة، معقدة، فهذا الوزن لا يقدم أية مساعدة طبيعية، والعبء كله يقع على سياق المعنى وارتباطات الألفاظ في القصيدة، وليس هذا بالأمر الهين. وإلام تودي هذه "التدفقية" في الوزن الحر؟ أول ظاهرة نلاحظها أن العبارة في الأوزان الحرة، تجنح إلى أن تكون طويلة طولاً فادحاً، وهذا نموذج من قصيدة "حفار القبور" لبدر شاكر السياب: وكأنَّ بعض الساحراتْ مدَّت أصابعها العجاف الشاحباتِ إلى السماءِ: تُومي إلى سرابٍ من الغربان تلويه الرياحْ في آخر الأفقِ المضاءِ حتى تعالى ثم فاض على مراقيه السفـاحْ هذه الأبيات كلها عبارة واحدة، وليست فيها وقفة من أي نوع. وهذا مثال ثان من قصيدة "الظلال الهائمة" التي نشرتها الأديب لعبد الوهاب البياتي: أترى الظلال الهائمات وراءه وعت الغناء فاسترسلت في شبه حلم واستفاقت للمساء تروي أحاديث الصبيات اللواتي كن يصطدن الرجال بغنائهن وراء أسوار الليال؟ العبارة هنا سؤال، وبترها خلال القراءة أعسر، لأن نبرة التساؤل التي تبدأ بقوله "أترى الظلال..." ينبغي أن تنتهي عند لفظ "الليال". وهذا الطول في العبارة عيب تساعد عليه طبيعة الوزن الحر، ولابد للشاعر من الوعي المتصل لتحاشيه. والحقيقة أننا لو تأملنا قيود الأوزان الحرة لوجدناها لا تقل عن قيود أوزاننا القديمة إن لم تزد، فالوقفة اضطرارية في الحالتين وإن اختلفت أسبابها، وهو أمر يحتم على الشاعر ذي النون الحر أن يتبع نظاماً صارماً في صياغة عباراته بحيث يعوض عن القيود الجبرية في نظام الشطرين. وثمة نتيجة ثانية لمزية التدفق هذه، هي أن القصائد الحرة تبدو دائماً لفرط تدفقها وكأنها لا تريد أن تنتهي، وليس أصعب من اختتام هذه القصائد، وهذه ظاهرة يسببها انعدام الوقفات ففي نظام الشطرين تقدم الوقفة القسرية للشاعر مساعدة كبيرة، لأنها هي في ذاتها وقفة، فلا يبقى على الشاعر إلا أن يختم المعنى، وهنا تستطيع أي عبارة جهورية قاطعة أن تؤدي المهمة، خاصة في قصائد الوصف والمناجاة ونحوها. أما في الوزن الحر فالوقفات الطبيعية معدومة، والشاعر حتى إذا استعمل أشد العبارات جهورية وقطعاً يحسّ أن القصيدة لم تقف، وإنما مازالت تتدفق، وعليه هو أن يمضي في تغذيتها رغم انتهائه مما أراد أن يقول. وتشتد المتاعب في قصائد الوصف والمناجاة على الأخص، لأسباب ترجع إلى طبيعة هذه القصائد، ولذلك تصلح الأوزان الحرة للشعر القصصي والدرامي أكثر من صلاحيتها لغيره. ونستطيع أن نلمح هذه الظاهرة المتعلقة باختتام القصائد حين نلقي نظرة سريعة على طائفة من القصائد الحرة، فسينجلي لنا أن عدداً كبيراً منها يختتم بتكرار المطلع، ونموذج هذا قصيدة "يا صديقي" لبلند الحيدري من مجموعته "أغاني المدينة الميتة" وقد نشرتها الأديب كما أذكر فالمقطع التالي قد بدأ القصيدة واختتمها معاً بالتكرار: يا صديقي لم لا تحمل ماضيك وتمضي عن طريقي قد فرغنا وانتهينا وتذكرنا كثيراً ونسينا وليست هذه محض صدفة، قالشاعر قد استعمل أسلوب الاختتام بتكرار المطلع في قصائد كثيرة منها "أعماق" و"لن أراها" و"حب قديم" و"غداً نعود". ثم أن الظاهرة لا تقتصر على بلند الحيدري، فهي تطل علينا في شعر عبد الوهاب البياتي (قصيدتي: "تمت اللعبة" و"التينة الحمقاء"، مجلة الأديب 1952) ونحن نلمحها عند بدر شاكر السياب في "في القرية الظلماء" من ديوانه "أساطير" وعند شاذل طاقة في "حصاد النار" من ديوانه "المساء الأخير". والذي نراه أن هذا الأسلوب في إنهاء القصائد هرَب من الشاعر لايغتفر، وهو إنما يقع فيه تحت ضغط هذا الوزن الحر، فالتكرار نوع من التنويم لحواس القارئ وفيه إيحاء بالانتهاء يساعد الشاعر المضطر. ولشعراء الأوزان الحرة أساليب أخرى تفصح عن صعوبة الاختتام الطبيعي. هذه مثلاً خاتمة "حفار القبور" لبدر السياب: وتظل أنوار المدينة وهي تلمع من بعيد ويظل حفار القبور ينأى عن القبر الجديد متعثر الخطوات يحلم باللقاء وبالخمور وهذه خاتمة قصيدة "اللقاء الأخير" للشاعر نفسه: ويلوح ظلك من بعيد وهو يومئ بالوداع وأظل وحدي في صراع وليس هذا الأسلوب مقصوراً على بدر السياب، كما قد يلوح للقارئ، فهذه مثلاً خاتمة قصيدة اسمها "محاولة" لبلند الحيدري مما نشرت "الأديب": ويدور فيها العقربان تك. تك. يا للجبان ياللجبان متى سيومئ بالوداع؟ وأظل أزحف في صراع هذه القصائد تختتم كلها بأسلوب "ويظلّ..." وهو أسلوب تنويمي كالسابق، لأنه يسلم المعنى إلى استمرارية مريحة وكأن الشاعر يقول للقارئ: "وقد استمر الأمر على هذا..." وبهذا ينتهي دوره، وتنتهي القصيدة. والمسؤول عن هذا كله هو الطبيعة المتدفقة للشعر الحر، على أنها ينبغي ألا تعفي شعراء ممتازين كهؤلاء من إنهاء قصائدهم إنهاء مقبولاً من الوجهة الفنية فليس أكثر إجحافاً بمواهبهم الفطرية من هذه الأساليب المتهربة. وإذا كانت مزايا الوزن الحر الثلاث "الحرية والموسيقية والتدفقية" قد استحالت شراكاً للشاعر، فما بالنا بالعيوب التي يتضمنها هذا الوزن، وهي عيوب تنجم عن طبيعته نفسها؟ وأبرز هذه العيوب اثنان يرتكزان إلى تركيب التفاعيل في الأوزان الحرة، ولكي نفهم هذا لابد لنا من وقفة قصيرة نستذكر بها أسلوب البناء في أوزاننا القديمة ولنلتفت أولاً إلى أن وحدات الأوزان العربية لا تزيد عن الستّ وهي: (فعولن فاعلاتن، مستفعلن، متفاعلن، فعلن، مفاعيلن) ومن تكرار كل من هذه التفعيلات ست مرات تنشأ ستة أوزان هي المتقارب والرمل والرجز والكامل والخبب والهزج وسنسميها هنا (الأوزان الصافية). أما سائر الأوزان الستة عشر فهي تتألف من المزج بين اثنين من التفعيلات أو أكثر أحياناً، وسنسميها (الأوزان الممزوجة). فإذا تذكرنا أن الأوزان الصافية هي الوحيدة التي يمكن استعمالها في الشعر الحر، وجدنا أن هذا الشعر يقتصر بالضرورة على ستة أوزان من الستة عشرالقديمة، وفي هذا غبن كبير للشاعر وتضييق لمجال إبداعه، خاصة وأن هذه الأوزان الستة لا تستعمل كلها في الغالب وإنما يكثر شعراؤنا من استخدام ثلاثة منها هي الكامل والرمل والمتقارب، كما في النماذج التي مرت. والشاعر العربي قد اعتاد أن يجد أمامه ستة عشر بحراً شعرياً مع مشطوراتها ومجزوءاتها، ولهذا قيمة كبيرة تجعلنا نميل إلى أن نحكم بأن اقتصار أي شاعر على الأوزان الحرة في شعره لا يمكن أن ينتهي به إلى الخير، إطلاقاً... وفوق هذا، نجد ظاهرة أخرى تنبع من وحدة التفعيلة في الأوزان الحرة، وهي "الرتابة"، فهذه الأوزان تستطيع أن تكون مملة جداً، خاصة إن اقتصر عليها الشاعر، وعندي أنها لا تصلح للملاحم على الإطلاق، فمثل تلك القصائد الطويلة ينبغي أن ترتكز إلى تنويع دائم، لا في طول الأبيات العددي فحسب، وإنما في التفعيلات نفسها، وإلا سئمها القارئ. ومما يلاحظ أن هذه الرتابة في الأوزان، تحتم على الشاعر أن يبذل جهداً متعباً في تنويع اللغة وتوزيع مراكز الثقل فيها، وترتيب الأفكار، فهذه كلها عناصر تعويض عن النغم الممل. ومؤدى القول في الشعر الحر أنه ينبغي ألا يطغى على شعرنا المعاصر كل الطغيان، لأن أوزانه لا تصمد للموضوعات كلها، بطبيعة القيود التي تفرضها عليها وحدة التفعيلة وانعدام الوقفات وقابلية التدفق والموسيقية. ولسنا بهذا ندعو إلى نكس الحركة، وإنما نحب أن نحذر من الاستسلام المطلق لها، فقد أثبتت التجربة أن خطر الابتذال والعامية يكمن دائماً خلف استهواء هذه الأوزان الظاهري. ويظهر أن الحركة بدأت تبتعد عن غاياتها المفروضة، ولا نظن هذا غريباً، ولا داعياً للتشاؤم، فلو درسنا الحركة من وجهتها التاريخية لوجدناها لا تختلف عن أية حركة للتحرر الوطني كانت أو اجتماعية أو أدبية. وفي التواريخ مئات الشواهد على ثورة الجماعات ومبالغتها في تطبيق مبادئ الثورة وسقوطها في الفوضى والابتذال قبل استقرارها الأخير. ولهذا نحس بالاطمئنان إلى سلامة الحركة، رغم مظاهر الرخاوة التي تلوح بوادرها اليوم. ومع أن التنبؤ بما ستنتهي إليه الحركة لا يمكن أن يكون قاطعاً، إلا أننا نحس أنها ستتقدم في السنين القادمة حتى تبلغ نهايتها المبتذلة، فهي اليوم في اتساع سريع صاعق، ولا أحد مسؤول عن أن شعراء نزري المواهب ضحلي الثقافة سيكتبون شعراً غثاً بهذه الأوزان الحرة، فليس على الشعر العربي خوف من هذا، ولابد أن ينتهي التطرف إلى اتزان رصين بعد اصرام سنوات التجربة. أما الشعراء الذين سيذهبون ضحايا ولابد لكل حركة ناجحة من ضحايا فحسبنا أنهم هم الذين سينقذون الشعر من الهاوية، حين يكونون نماذج للرداءة والتخبط وفقدان الهوية، إنهم خلاص الشعر الحديث دون أن يعلمون، وهذه هي طبيعة الانقلابات الهامة في التاريخ. الأديب، س13، ج1، بيروت، يناير 1954
كان شهر كانون الأول من سنة 1947 أول العهد بالشعر الحر في العراق، ففي أوله صدرت مجلة العروبة التي كان يصدرها الأستاذ محمد علي الحوماني في بيروت وفيها قصيدة لي حرة الوزن عنوانها "الكوليرا". وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان "أزهار ذابلة" لبدر شاكر الشياب وفيه قصيدة له حرة الوزن عنوانها "هل كان حباً؟". ولم تنشر الصحف بعد هاتين القصيدتين أي شعر حر حتى صدر ديواني "شظايا ورماد" في أيلول 1949، وفيه مجموعة من القصائد الحرة، قدمت لها بجانب من المقدمة، مشيرة إشارة موجزة إلى الأساس الوزني للشعر الحر الذي اعتبرته لوناً من الحرية يستحسن أن يمنحه الشاعر العربي. وقد أحدثت الحركة والديوان رد فعل عنيف في الأوساط الأدبية في بغداد، ونقدت الدعوة نقداً شديداً، إلا أن الشعراء الشباب استجابوا لها استجابة محمودة، فما انصرم شهران حتى بدأت صحفنا تنشر قصائد حرة بين الحين والحين، وراحت الدعوة تنمو ويتسع نطاقها على صورة مباشرة. وتتالت بعد ذلك الدواوين فصدر "ملائكة وشياطين" لعبد الوهاب البياتي في آذار 1950 و"المساء الأخير" لشاذل طاقة في آب 1950، كما أذكر و"أساطير" لبدر شاكر السياب في أيلول 1950. وراحت الحركة تتسع وتتخذ مظهراً أقوى حتى بات بعض الشعراء يكتبون أكثر شعرهم إن لم أقل كله بهذه الأوزان الحرة، وبات التيار يشتد بحيث يستاهل عناية النقاد والباحثين. وحركة الشعر الحر، كأية حركة جديدة في ميادين الفن والحضارة، قد بدأت لدنة، حيية، مترددة، مدركة أنها لابد أن تحتوي على فجاجة البداية، فلا مفر لها من ذلك، لأنها على كلٍ "تجربة" ولن يعفيها إخلاصها وتحمسها من أن تزل وتتخبط أحياناً. ذلك أن مثل هذه الحركات التي تنبع فجأة بمقتضى ظروف بيئية وزمنية، لابد أن تمر بسنين طويلة، قبل أن تستكمل أسباب النضج، وتملك جذوراً مستقرة، وتلين لها أداتها، وليس من المعقول أن تولد ناضجة وإنما تبدو عيوبها كلما ابتعدنا عنها، وأوغلنا في الزمن باختياراتنا الجديدة ونضج ثقافتنا واتساع آفاقنا. وإلى جانب هذا المحذور المشترك في الحركات الجديدة عامة، كانت لحركة الشعر الحر ظروف خاصة بها، تضيف إلى عقباتها. ذلك أنها، على الرغم من كل ما يمكن أن يقال في إرجاعها إلى أصول قديمة تجد جذورها في الموشحات الأندلسية، تبقى بنت هذا القرن وحده فالموشحات لم تتلاعب بعدد التفاعيل خلال القصيدة الواحدة، ولم تحرر القافية نصف هذا التحرير، وإنما نوعتها وفق خطة معينة يلتزمها الشاعر ولعل أبرز الأدلة على أن الحركة وليدة عصرنا هذا، أن أغلبية قرائنا مازالوا يستنكرون القصائد الحرة، وبينهم كثرة لا يستهان بها، تعتقد اعتقاداً راسخاً أن الشعر الحر ليس شعراً، وإنما هو نثر، أو شعر منثور. والحركة التي تنبت فجأة على هذه الصورة تفقد ميزة هامة، وتتضمن في ذاتها حاجزاً كبيراً دون أي نضج سريع تطمح إليه، فهي حركة لا تملك قواعد تسندها، ولا أسساً تجري وفقها لتأمين الخطأ والزلل، وإنما لابد لأتباعها وهم ينصرونها ويرفعون صوتها، من مجازفة وتضحية. ونتيجة لهذين السببين، يسهل جداً أن يسقط المبتدئون من الشعراء في التشابه والتكرار، فينهج الواحد منهم نهج زملائه الآخرين دونما ابتكار، لا عن تقليد داع، وإنما على صورة طبيعية، لأن السنن الوحيدة الموجودة هي قصائد الآخرين وهي مازالت قليلة نسبياً وهذا وجه من أوجه الخطر التي تتضمنها الحركة، وقد بدأت مظاهره تلوح في بعض الشعر الحر الذي ينتشر، فلم يعد من النادر أن تتشابه قصائد الشعراء في موضوعاتها وألفاظها وأجوائها وأخيلتها. وإن الخطأ في شعر الواحد ليسري سرياناً مدهشاً في شعر الآخرين وكأنه بات سنة تحتذى لا خطأ ينبغي تجنبه. ولا تقل الأسباب الناجمة عن طبيعة الأوزان الحرة نفسها خطورة عن السبب السابق، بل قد تكون أحفل بالمثبطات، وأدعى إلى إنذارنا. وسيدهشنا أن نلاحظ أن ما يبدو لنا أول وهلة مزايا في الأوزان الحرة، ينقلب حين نفحصه مزالق خطرة، هي في واقع الأمر مسؤولة إلى حد بعيد عن عظم إمكانيات الابتذال والرخاوة في الشعر الحر، حتى ليكفي أقل تهاون من جانب الشاعر لدفع القصيدة إلى هاوية الابتذال وعامّية اللين. وأول هذه المزايا الخادعة في الشعر الحر، تلك الحرية البراقة التي يمنحها للشاعر دونما قيد ولا شرط فيما يلوح. والحق أنها حرية خطرة، فالشاعر يلوح معها غير ملزم باتباع طول معين لأبياته، وهو كذلك غير ملزم بأن يحافظ على خطة ثابتة في القافية. فما يكاد يبدأ قصيدته حتى تخلب لبه السهولة التي يتقدم بها، فلا قافية تضايقه، ولا عدو معين للتفاعيل يقف في سبيله، وإنما هو حر، حر ... سكران بالحرية. وهو في نشوة الحرية ينسى حتى ما ينبغي ألا ينساه من قواعد، وكأنه يصرح بآلهة الشعر: "لا نصف حرية... إما الحرية كلها أو لا!" وهكذا نجد الشاعر ينطلق حتى من قيود الاتزان ووحدة القصيدة وأحكام هيكلها وربط معانيها، فتتحول الحرية إلى فوضى كاملة. وثاني المزايا في الأوزان الحرة، تلك الموسيقية التي تمتلكها، فهي تساهم مساهمة كبيرة في تضليل الشاعر عن مهمته. إنها سعلاة الشعر الخفية وفي ظلها يكتب الشاعر أحياناً كلاماً غثاً مفككاً، دون أن ينتبه، لأن موسيقية الوزن وانسيابه يخدعانه ويخفيان العيوب. ويفوت الشاعر أن هذه الموسيقى المضللة ليست موسيقى شعره، وإنما هي موسيقى فطرية في الوزن نفسه، يزيد تأثيرها أن الأوزان الحرة جديدة في أدبنا ولكل جديد لذة...وعلى هذه الصورة تنقلب موسيقية الأوزان الحرة وبالاً على الشاعر، بدلاً من أن يستخدمها، ويسخرها في رفع مستوى القصيدة وتلوينها. وأكثر تعقيداً من هاتين المزيتين الخادعتين، المزية الثالثة وهي "التدفق". وهذا التدفق ينشأ عن أن كل وزن حر (باستثناء وزن يندر استعماله) يعتمد على تفعيلة واحدة، ينمو بتكرارها مرات يختلف عددها من بيت إلى بيت. وهذه الحقيقة تجعل الوزن متدفقاً تدفقاً مستمراً، كما يتدفق جدول في أرض منحدرة، وهي مسؤولة عن خلوه من الوقفات. والوقفات، كما يعلم الشعراء، شديدة الأهمية في كل وزن، ولا يدرك الشاعر مدى ضرورتها إلا حين يفقدها في الوزن الحر، فهو إذ ذاك مضطر إلى مضاعفة جهده وحشد قواه لتجنب "الانحدار" من تفعيلة إلى تفعيلة دونما تنفس. ولنلاحظ أسلوب الوقوف في أوزان الخليل ونقارنه بما يقدمه الشعر الحر من إمكانيات وسيبدو لنا أن البحور الستة عشر ذات الشطرين، تقف عند نهاية الشطر الثاني وقفة صارمة لا مهرب منها، بينما لا يمتلك الوزن الحر أية وقفات ثابتة، وإنما يترك الشاعر حراً ليقف حيث يشاء، فهو يلقي المهمة على الشاعر وهنا المشكل. ولست أشك في أن الشاعر الناضج الذي يستعمل الوزن الحر يلاحظ أن المهمة عسيرة، معقدة، فهذا الوزن لا يقدم أية مساعدة طبيعية، والعبء كله يقع على سياق المعنى وارتباطات الألفاظ في القصيدة، وليس هذا بالأمر الهين. وإلام تودي هذه "التدفقية" في الوزن الحر؟ أول ظاهرة نلاحظها أن العبارة في الأوزان الحرة، تجنح إلى أن تكون طويلة طولاً فادحاً، وهذا نموذج من قصيدة "حفار القبور" لبدر شاكر السياب: وكأنَّ بعض الساحراتْ مدَّت أصابعها العجاف الشاحباتِ إلى السماءِ: تُومي إلى سرابٍ من الغربان تلويه الرياحْ في آخر الأفقِ المضاءِ حتى تعالى ثم فاض على مراقيه السفـاحْ هذه الأبيات كلها عبارة واحدة، وليست فيها وقفة من أي نوع. وهذا مثال ثان من قصيدة "الظلال الهائمة" التي نشرتها الأديب لعبد الوهاب البياتي: أترى الظلال الهائمات وراءه وعت الغناء فاسترسلت في شبه حلم واستفاقت للمساء تروي أحاديث الصبيات اللواتي كن يصطدن الرجال بغنائهن وراء أسوار الليال؟ العبارة هنا سؤال، وبترها خلال القراءة أعسر، لأن نبرة التساؤل التي تبدأ بقوله "أترى الظلال..." ينبغي أن تنتهي عند لفظ "الليال". وهذا الطول في العبارة عيب تساعد عليه طبيعة الوزن الحر، ولابد للشاعر من الوعي المتصل لتحاشيه. والحقيقة أننا لو تأملنا قيود الأوزان الحرة لوجدناها لا تقل عن قيود أوزاننا القديمة إن لم تزد، فالوقفة اضطرارية في الحالتين وإن اختلفت أسبابها، وهو أمر يحتم على الشاعر ذي النون الحر أن يتبع نظاماً صارماً في صياغة عباراته بحيث يعوض عن القيود الجبرية في نظام الشطرين. وثمة نتيجة ثانية لمزية التدفق هذه، هي أن القصائد الحرة تبدو دائماً لفرط تدفقها وكأنها لا تريد أن تنتهي، وليس أصعب من اختتام هذه القصائد، وهذه ظاهرة يسببها انعدام الوقفات ففي نظام الشطرين تقدم الوقفة القسرية للشاعر مساعدة كبيرة، لأنها هي في ذاتها وقفة، فلا يبقى على الشاعر إلا أن يختم المعنى، وهنا تستطيع أي عبارة جهورية قاطعة أن تؤدي المهمة، خاصة في قصائد الوصف والمناجاة ونحوها. أما في الوزن الحر فالوقفات الطبيعية معدومة، والشاعر حتى إذا استعمل أشد العبارات جهورية وقطعاً يحسّ أن القصيدة لم تقف، وإنما مازالت تتدفق، وعليه هو أن يمضي في تغذيتها رغم انتهائه مما أراد أن يقول. وتشتد المتاعب في قصائد الوصف والمناجاة على الأخص، لأسباب ترجع إلى طبيعة هذه القصائد، ولذلك تصلح الأوزان الحرة للشعر القصصي والدرامي أكثر من صلاحيتها لغيره. ونستطيع أن نلمح هذه الظاهرة المتعلقة باختتام القصائد حين نلقي نظرة سريعة على طائفة من القصائد الحرة، فسينجلي لنا أن عدداً كبيراً منها يختتم بتكرار المطلع، ونموذج هذا قصيدة "يا صديقي" لبلند الحيدري من مجموعته "أغاني المدينة الميتة" وقد نشرتها الأديب كما أذكر فالمقطع التالي قد بدأ القصيدة واختتمها معاً بالتكرار: يا صديقي لم لا تحمل ماضيك وتمضي عن طريقي قد فرغنا وانتهينا وتذكرنا كثيراً ونسينا وليست هذه محض صدفة، قالشاعر قد استعمل أسلوب الاختتام بتكرار المطلع في قصائد كثيرة منها "أعماق" و"لن أراها" و"حب قديم" و"غداً نعود". ثم أن الظاهرة لا تقتصر على بلند الحيدري، فهي تطل علينا في شعر عبد الوهاب البياتي (قصيدتي: "تمت اللعبة" و"التينة الحمقاء"، مجلة الأديب 1952) ونحن نلمحها عند بدر شاكر السياب في "في القرية الظلماء" من ديوانه "أساطير" وعند شاذل طاقة في "حصاد النار" من ديوانه "المساء الأخير". والذي نراه أن هذا الأسلوب في إنهاء القصائد هرَب من الشاعر لايغتفر، وهو إنما يقع فيه تحت ضغط هذا الوزن الحر، فالتكرار نوع من التنويم لحواس القارئ وفيه إيحاء بالانتهاء يساعد الشاعر المضطر. ولشعراء الأوزان الحرة أساليب أخرى تفصح عن صعوبة الاختتام الطبيعي. هذه مثلاً خاتمة "حفار القبور" لبدر السياب: وتظل أنوار المدينة وهي تلمع من بعيد ويظل حفار القبور ينأى عن القبر الجديد متعثر الخطوات يحلم باللقاء وبالخمور وهذه خاتمة قصيدة "اللقاء الأخير" للشاعر نفسه: ويلوح ظلك من بعيد وهو يومئ بالوداع وأظل وحدي في صراع وليس هذا الأسلوب مقصوراً على بدر السياب، كما قد يلوح للقارئ، فهذه مثلاً خاتمة قصيدة اسمها "محاولة" لبلند الحيدري مما نشرت "الأديب": ويدور فيها العقربان تك. تك. يا للجبان ياللجبان متى سيومئ بالوداع؟ وأظل أزحف في صراع هذه القصائد تختتم كلها بأسلوب "ويظلّ..." وهو أسلوب تنويمي كالسابق، لأنه يسلم المعنى إلى استمرارية مريحة وكأن الشاعر يقول للقارئ: "وقد استمر الأمر على هذا..." وبهذا ينتهي دوره، وتنتهي القصيدة. والمسؤول عن هذا كله هو الطبيعة المتدفقة للشعر الحر، على أنها ينبغي ألا تعفي شعراء ممتازين كهؤلاء من إنهاء قصائدهم إنهاء مقبولاً من الوجهة الفنية فليس أكثر إجحافاً بمواهبهم الفطرية من هذه الأساليب المتهربة. وإذا كانت مزايا الوزن الحر الثلاث "الحرية والموسيقية والتدفقية" قد استحالت شراكاً للشاعر، فما بالنا بالعيوب التي يتضمنها هذا الوزن، وهي عيوب تنجم عن طبيعته نفسها؟ وأبرز هذه العيوب اثنان يرتكزان إلى تركيب التفاعيل في الأوزان الحرة، ولكي نفهم هذا لابد لنا من وقفة قصيرة نستذكر بها أسلوب البناء في أوزاننا القديمة ولنلتفت أولاً إلى أن وحدات الأوزان العربية لا تزيد عن الستّ وهي: (فعولن فاعلاتن، مستفعلن، متفاعلن، فعلن، مفاعيلن) ومن تكرار كل من هذه التفعيلات ست مرات تنشأ ستة أوزان هي المتقارب والرمل والرجز والكامل والخبب والهزج وسنسميها هنا (الأوزان الصافية). أما سائر الأوزان الستة عشر فهي تتألف من المزج بين اثنين من التفعيلات أو أكثر أحياناً، وسنسميها (الأوزان الممزوجة). فإذا تذكرنا أن الأوزان الصافية هي الوحيدة التي يمكن استعمالها في الشعر الحر، وجدنا أن هذا الشعر يقتصر بالضرورة على ستة أوزان من الستة عشرالقديمة، وفي هذا غبن كبير للشاعر وتضييق لمجال إبداعه، خاصة وأن هذه الأوزان الستة لا تستعمل كلها في الغالب وإنما يكثر شعراؤنا من استخدام ثلاثة منها هي الكامل والرمل والمتقارب، كما في النماذج التي مرت. والشاعر العربي قد اعتاد أن يجد أمامه ستة عشر بحراً شعرياً مع مشطوراتها ومجزوءاتها، ولهذا قيمة كبيرة تجعلنا نميل إلى أن نحكم بأن اقتصار أي شاعر على الأوزان الحرة في شعره لا يمكن أن ينتهي به إلى الخير، إطلاقاً... وفوق هذا، نجد ظاهرة أخرى تنبع من وحدة التفعيلة في الأوزان الحرة، وهي "الرتابة"، فهذه الأوزان تستطيع أن تكون مملة جداً، خاصة إن اقتصر عليها الشاعر، وعندي أنها لا تصلح للملاحم على الإطلاق، فمثل تلك القصائد الطويلة ينبغي أن ترتكز إلى تنويع دائم، لا في طول الأبيات العددي فحسب، وإنما في التفعيلات نفسها، وإلا سئمها القارئ. ومما يلاحظ أن هذه الرتابة في الأوزان، تحتم على الشاعر أن يبذل جهداً متعباً في تنويع اللغة وتوزيع مراكز الثقل فيها، وترتيب الأفكار، فهذه كلها عناصر تعويض عن النغم الممل. ومؤدى القول في الشعر الحر أنه ينبغي ألا يطغى على شعرنا المعاصر كل الطغيان، لأن أوزانه لا تصمد للموضوعات كلها، بطبيعة القيود التي تفرضها عليها وحدة التفعيلة وانعدام الوقفات وقابلية التدفق والموسيقية. ولسنا بهذا ندعو إلى نكس الحركة، وإنما نحب أن نحذر من الاستسلام المطلق لها، فقد أثبتت التجربة أن خطر الابتذال والعامية يكمن دائماً خلف استهواء هذه الأوزان الظاهري. ويظهر أن الحركة بدأت تبتعد عن غاياتها المفروضة، ولا نظن هذا غريباً، ولا داعياً للتشاؤم، فلو درسنا الحركة من وجهتها التاريخية لوجدناها لا تختلف عن أية حركة للتحرر الوطني كانت أو اجتماعية أو أدبية. وفي التواريخ مئات الشواهد على ثورة الجماعات ومبالغتها في تطبيق مبادئ الثورة وسقوطها في الفوضى والابتذال قبل استقرارها الأخير. ولهذا نحس بالاطمئنان إلى سلامة الحركة، رغم مظاهر الرخاوة التي تلوح بوادرها اليوم. ومع أن التنبؤ بما ستنتهي إليه الحركة لا يمكن أن يكون قاطعاً، إلا أننا نحس أنها ستتقدم في السنين القادمة حتى تبلغ نهايتها المبتذلة، فهي اليوم في اتساع سريع صاعق، ولا أحد مسؤول عن أن شعراء نزري المواهب ضحلي الثقافة سيكتبون شعراً غثاً بهذه الأوزان الحرة، فليس على الشعر العربي خوف من هذا، ولابد أن ينتهي التطرف إلى اتزان رصين بعد اصرام سنوات التجربة. أما الشعراء الذين سيذهبون ضحايا ولابد لكل حركة ناجحة من ضحايا فحسبنا أنهم هم الذين سينقذون الشعر من الهاوية، حين يكونون نماذج للرداءة والتخبط وفقدان الهوية، إنهم خلاص الشعر الحديث دون أن يعلمون، وهذه هي طبيعة الانقلابات الهامة في التاريخ.
الأديب، س13، ج1، بيروت، يناير 1954