استفتاءات شاركت فيها نازك الملائكة
النزعة الإنسانية في الأدب العربي الحديث
الآداب تستفتي: "هل صحيح أن النزعة الإنسانية ضعيفة في الأدب العربي الحديث؟ إذا كنتم تعتقدون ذلك فما هي أسباب هذا الضعف، وما السبيل إلى معالجته؟" (شارك في الاستفتاء كل من: سلامة موسى، رئيف الخوري، نازك الملائكة، جورج حنا، نهاد التكريتي، ابراهيم الوائلي) جواب الآنسة نازك الملائكة: يفترض هذا السؤال أن ثمة شيئاً منفصلاً يمكن أن نسميه بالنزعة الإنسانية في الأدب، ثم يشغل نفسه بالبحث عن هذه النزعة في آدابنا الحديثة أقوية هي أم ضعيفة. وهو يجنح أيضاً إلى تقرير جواب من لون معين عندما يفترض أن الجواب سينتهي إلى أن النزعة ضعيفة، ولذلك يحتاط ويلقي سؤالين حول أسباب هذا الضعف والسبيل إلى "معالجته". وهذا الأسلوب في صياغة السؤال إن لم يخط طريق الجواب خطاً صارماً فهو ولاشك يتطلب جواباً مقصوداً. وعلى ذلك فلابد للجواب أن يكون حذراً فلا يستسلم للفرض الذي بني عليه السؤال. فما المقصود بالنزعة الإنسانية قبل كل شيء؟ أوليس الأدب كله محصولاً إنسانياً يعالج أحاسيس الإنسان وأفكاره وانفعالاته وأحداث حياته؟ وهل كان محض صدفة أن الأوربيين يطلقون لفظ إنسانيات (Humanities) على الآداب إجمالاً تمييزاً لها عن الدراسات العلمية؟ هذه أسئلة يتغافل السؤال عنها حين يتضمن معناها العام أن الإنسانية نزعة صغيرة تقوى وتضعف ونستطيع نحن التدخل في تقويتها وإضعافها. وإننا لنرجو ألا يكون المقصود بالنزعة الإنسانية هنا التعبير عن المشاكل والأحزان والمتاعب التي يعانيها أفراد الجنس الإنساني. فليس الشقاء بمجموعه إلا جانباً صغيراً من المعاني الواسعة التي تتضمنها لفظة "الإنسانية" ومن الغبن لهذه الكلمة العظيمة أن تتقلص وتتآكل حتى يقتصر محتواها على معنى (الألم). ولو كان المقصود بالنزعة هذا المعنى الصغير لما كان للاستفتاء داع، فالأدب العربي اليوم مصاب بحمى من صور الشقاء والتعاسة والأحزان، وكأن حياتنا الإنسانية الفذة بكل ما فيها من انطلاق وخصب وجمال قد انهارت وفقد روحها وهي دعوة أريد بها شيء فانتهت إلى أشياء وأشياء أخرى. ولو سلمنا جدلاً بوجود نزعة إنسانية، وبأن هذه النزعة ضعيفة في آدابنا الحديثة، لما كان في وسعنا، على كل، أن نصنع شيئاً في معالجة الإشكال، وذلك لأن ضعف نزعة ما في الأدب قضية معقدة تنشأ غالباً عن عوامل تاريخية وبيئية تجعل اقتراحاتنا لاتزيد الأمر إلا إشكالاً. والآداب لا تغير نزعاتها وفقاً لآراء النقاد والصحف الأدبية وإنما تستجيب إلى قوى خفية تتغلغل جذورها حتى تتصل بالذهنية العامة للأمة، والقوى المجهولة التي تكون نفسيتها وتاريخها الطويل. ألا ينتهي بنا هذا إلى التسليم بأن ضعف الاتجاه الإنساني إن وجد إنما ينبع مباشرة من حياتنا الإنسانية؟ فإذا أردنا علاجاً فلنبحث في حياتنا نفسها عن السبب، فليس الأدب إلا مرآة تعكس الحياة، وضعف النزعة الإنسانية لابد أن يكون نتيجة لضعف مقابل في إنسانية الناس، هذا فضلاً عن أن الحديث عن "معالجة الضعف" الذي يفترضه السؤال، "توجيه الأدب"، ولاشيء يقتل الأدب مثل أن يجد طريقه محفوفاً بالموجهين والناصحين ومقترحي الحلول. يضاف إلى هذا ما نشهده في التاريخ الأدبي من أن الأدباء الحقيقين لا يتقبلون التوجيه الخارجي الذي لاتبرره عوامل داخلية تنبع من حياتهم نفسها. الآداب، س1، ع9، بيروت، أيلول 1953.