النظم الديمقراطية هي النظم التي تشكلت مؤسساتها وصدرت قوانينها من نواب منتخبين انتخابا مباشرا، تحرص السلطة فيها على توعية الناخب ومساعدته على اختيار افضل المرشحين الذين يستحق النائب منهم ان يكون نائبا عن الأمة كلها و ليس اسيرا لابتزاز ناخبه في دائرته. يترتب على ذلك أن الشعب وهو مصدر السلطة و صاحب السيادة يعتبر النائب ممثلا له يفقد مقدمات النيابة أن اخل بعقد الانابة في النظام الديمقراطي وأهم بنوده أن يقوم سلوك الحكومة التي انتخبها الشعب أيضا. ومن حق الشعب بالطبع أن يحتج علي سلوك الحكومة ومواقفها، ومن حقه على سلطات الأمن أن تمكنه من ذلك بشكل سلمي فلا قيد على الاحتجاج مادام في حدود القانون. وقد تعددت صور الاحتجاج بما في ذلك التظاهر والاعتصام واستخدام وسائل التعبير المختلفة للاعلان من عمل لايرضى عنه الشعب، فالاحتجاج بكل صوره مباح وميسر فمن حق الشعب ومن واجب الحكومة أن تلحظ وتستمع وتهتم وتعمل على تصحيح الأوضاع محل الشكوى.
في مثل هذه النظم لامحل لقمع الفكر أو الرأي او الحركة أو التصدي بالقوة الا بالقدر الذي يحول بين المتظاهرين وتجاوز القانون فلا يفترض أن المحتجين يستولون على السلطة ويحلون محل صاحب القرار في تنفيذ ما يطلبون وانما يستدل صاحب القرار على ما يجب عمله من حجم الاحتجاج وشدته ومطالبه المحددة ومعقوليتها وامكانية تنفيذها في اظهار السياسة العامة للدولة. فعندما واجهت الحكومة البريطانية آثار الازمة المالية العالمية ورفعت رسوم الدراسة الجامعية وتظاهر الطلبة وأولياء الأمور ولم تجد الحكومة حلولا أخرى صمد كل في موقعه لعدة اسابيع فالحكومة المنتخبة ترى حلولا علمية لا شعبية لها والشعب يرى أن الحكومة الصالحة هي التي تتجاوب مع مطالبه، فأظن ان الحكومات الديمقراطية تتعرض في الكثير من الحالات لمثل هذه الاختيارات وبالفعل تحرص هذه الحكومات على أن تكون قراراتها علمية نافعة وفي نفس الوقت تحظى بالشعبية فلاتجلب غضب الشعب بقرارات صحيحة علميا لكنها مستنفرة شعبيا ولا تضحي بمصالح الأمة إذا واجه القرار غضب فئات معينة، هي أن موازنات دقيقة رائدها الكفاءة والاخلاص والشفافية وانعدام الفساد والوعي الذي يتسلح به المجتمع وتحرص عليه الحكومات.
اما في النظم المستبدة مثل مصر وغيرها في العالم العربي فإن النظم قد نشأت على أساس تزوير ارادة الناخب واستخدم في التزوير جميع الصور والادوات مادية ومعنوية وما دامت نظما غير ديمقراطية وغير منتخبة وانما نصبت نفسها وادعت الشرعية لنفسها فلا رقابة عليها فيفسد البرلمان ويتواطأ مع الحكومة ويفسد القضاء ويروج الفساد والمظالم ولا تستمع الحكومات إلى أنّات الشعب وصراخه بل تعتبر هذه الصرخات تصرفات غير لائقه، وتداوم هذه الحكومات على تصوير الحال في ابدع صوره وهو كذلك بديع لمن في السلطة أو حلفائها وهم نسبة ضئيلة تواطأت على الاغلبية الساحقة التي تئن بعد أن استنزف الفساد الثروات وصارت القلة المغرقة في الغنى مقابل الغالبية التي تعاني من الفقر والحرمان.
ومن سمات هذه الحكومات إنها تضع القانون ولاتطبقه وترغم معارضيها عليه بأحكام جائرة بإيعاز منها فيؤدي ذلك إلى عدم احترام المواطن للقانون وإشاعة الفوضى وعدم الثقة في العدالة فتتحول الحقوق الي هبات للمدافعين عنها وتنكرها على المعارضين لها بل تصبح المعارضة لسفاهة الحكم وانحرافاته كفرا وطعنا في وطنية المعارض الخائن لوطنه مادام معارضا لحاكمه الذي يفتقر إلى كل شرعية.
في مثل هذه النظم تنقطع الصلة بين الشعوب والحكّام فينفرد الحاكم بالعبث بمصير الشعب ويصبح الأمن هو الملجم لكل صوت يحتج فاذا نظم المحتجون وقفة أو مظاهرة أو أي مظهر من مظاهر الضيق والاحتجاج لعل الحاكم يشعر بما فعله من ضرر لهذا الشعب قمعه الأمن دون أن يفتح الحاكم كوة للحوار والفهم والمناقشة على اساس أن الحاكم يحتكر الحقيقة وأن هولاء المحتجين هم كما ردد كل المستبدين في كل العصور وآخرهم حتى الآن بن علي قلة مأجورة مقدسة يحركها الخارج الحاقد على حالة الاستقرار والازدهار أو كما يقول المصريون مصر الأمن والأمان والاستقرار حتى دون ازدهار المهم الحاكم العاقل الرحيم الذي حول مصر إلى مقبرة للموتى، ومن الصعب ان يفزع الامن من حديث الموتى وحركاتهم لأن المعلوم هو أن الموتى لا يتحدثون ولا حتى يرقبون ما آلت إليه أوضاع الاحياء.
أمام هذا الاستعلاء واستعلاء الحاكم وشماتته في عجز الشعب عن مقاومته وهو الذي يستخدم أموال الشعب وأدواته وابنائه لاستدامة فساده ومواجهة المحتجين على مظالمه واحتكار السلطة والثروة جميعا والاستعانة بأبواق فاسدة تثير الشعب ضده اكثر مما تقنعه فلا يكون أمام الشعب الا أن يضع بيده بأي طريقة نهاية لهذا النظام الذي ينتهي عادة اما بثورة شعبية تسقط النظام ورموزه أو تخلخل اركانه وانقلابه بعض على بعض الآخر أو تخل الأمن اسنان الحاكم عن نظام هم أول ضحايا ظلمه وعنته والحاكم في مثل هذه الاحوال لايهمه أن تحترق البلاد مادامت نجاته هي الهدف، فلتسقط الدنيا كلها ويحيا هو بكل مايمثله.
والحق أن ذلك هو قانون الثورات فلا الحاكم مهما كان بطشه قادرا على الاستمرار بالقهر أو الخديعة مادام فاسدا على البقاء ولا الشعب قادرا على المزيد من التحمل والصبر وتكون النتيجة هي أن يلفظ الحاكم أو يقتل، والسؤال الكبير رغم تلك حكمة الامام فلماذا لايتعلم هؤلاء الحكام ولماذا يبدأ الواحد منهم حكمه ذليلا منكسرا يرجو توفيق ربه ثم يلتصق بالكرسي فتشيخ الأمة معه وتصاب بكل أمراض الشيخوخة ويأبى أن ينصرف الا قتيلا أو فارا ذليلا كما حدث مع بن علي. إن كل هذه المراهنات على أن النموذج التونسي غير قابل للتكرار في مصر رغم توافر دواعي تكراره خاطئة ولا تريد أن تلتفت إلى القانون الذي أدى إلى ثورة تونس وغيرها من الثورات ، فالمبدأ ثابت وصور تطبيقه تتغير، تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلا.