ما حدث في تونس، ولا يزال مستمرا، يكتـسي أهمية كبرى قـُـطـْـرية وقومية، لأنه يجسـّد بالملموس تحولا عميقا في وعي الشعب التونسي وتحولا أيضا في التـعـبـيـر عن مخاض باتجاه التغـيـيـر ووضع حــدّ لمرحــلة استبداد الدولة الوطنية والسـُّـبات الشتوي للجماهيـر المقهورة... ومن دون دخول في الجدال حول التسمية الملائمة للأحداث التي فـجـّـرتــْـها البطالة وغلاء المعيشة وإهانة كرامة المواطن، وهل هي ثورة أم مجرد انتفاضة عـابـرة، فإننا نسـجل أن هذا الحدث يتعدى نطاق الصراع على السلطة والمطالب النقابية المادية ليطرح لـُــبَّ الإشكالية التي أعاقت النهوض والدمقرطة والعدالة الاجتماعية في مجموع الأقطار العربية، أي إشكالية بناء مجتمع ما بـعـْـد الاستقلال على أسس نظام ديمقراطي يؤمن بحرية الفكر والاعتقاد، ويـُـخـضـِـع الدولة لمراقبة المجتمع المدني، ويرتقي بالفرد من وضعية الرعية إلى المواطنة وحقوقها... من هذه الزاوية، تكتسي أحداث تونس صفة الثورة على رغم أنها لا تستــند إلى حزب طلائعي، أو منظمة ذات إيديولوجية مـُؤطـرة. هي ثورة لأنها تـُــنهي مرحلة الاستبداد والحكم المافياوي، وتعــرب عن ضرورة الانتقال إلى نظام قــوامـُـه الصراع الديمقراطي الذي يحتكم إلى الشعب في مجموع مكوناته للخروج من الوصاية الفـوقـية، ووضع حــدّ للنهب والفساد، ومراقبة الحاكمين، وتداول السلطة. أليست هذه الأهداف أهدافا مشتركة على امتداد الرقعة العربية التي تخضع للحكم الفردي والاستبداد الصريح أو المـُــقـنـّـع؟ ألا تستحق انتفاضة الشعب التونسي صفة الثورة بعد أن أظهرت للعالم أن الاستبداد لم يعد مـُـمـكنا، وأن التغـيـيـر حاجة مـُـلحة لحماية الشعب من اليأس والظلم وشطط الحاكمين؟
من هذه الزاوية نجد أن الثقافة والمثقفين العرب معنـِـيــان بثورة شعب تونس، ذلك أن فترة الانحدار العربي التي بدأت منذ هزيمة 1967 دفعت المثقفين والمفكرين المستــنيرين إلى انتهاج طريق النقد والفضح، وعرّضتْ الآلاف منهم إلى السجن والقتل والمنافي، لأنهم جسروا على انتقاد انحراف الدولة عن الأهداف التي ضحتْ الجماهير،عند مقاومة الاستعمار من أجلها، ولأنهم طالبوا بالديمقراطية والعلمانية والتدبير العقلاني للمستقبل. من هنا نسجل أن المثقفين العرب، في تونس وبقية البلدان العربية وعلى امتداد عدة عقود، أسمعوا صوتهم وسعوا إلى صوغ إشكالية التغـيـيـر، لكن الأنظمة العربية اسـتـأســدتْ في خنق الأصوات والأنفاس المعارضة، وتمادت في التسلط والقمع والنهب والاحتماء بالقوى الأجنبية المستفيدة من العـوْلــمـَـة الرّبـحية... صحيح أن مواقف وكتابات المثقفين والمفكرين والمبدعين لم تجد قــوى مجتمعية جديدة تـتـبــنـى أطروحاتها، فلم تعرف طريقها إلى التـجـســُّـد السياسي الملموس بسبب ضعف أحزاب التقدم والمعارضة ومعاناتها من القمع، وهو ما كــرّس نوعا من «الطلاق» بين الثقافي والسياسي، وسـهـّل إطالة عـُــمـر الاستبداد والانحدار نحو الحضيض. لكن هذا الوضع المأسوي العربي الذي نشر اليأس والعدمية عرف نوعا من الانفراج نتيجة لتحولات العالم المتسارعة ونتيجة للمقاومة الرمزية التي استمرت الثقافة العربية في الاضطلاع بها، على رغم الرقابة واضطهاد المبدعين. وهو ما جعل الفكر والإبداع، في ظل الاستبداد العربي، يعرف انطلاقة لافتة للنظـر لأنها تعبـر عن قــيم الحرية وتراهن على القوى العربية الكامنة في أجيال الشباب. وفي هذا السياق، عوضـتْ وسائط الإعلام الرقمية والإلكترونية، إلى حـد مــّـا، غياب التنظيمات السياسية الثورية والحوار الديمقراطي الممنوع من لـدُن ِ السلطات.
في هكذا مناخ، ملتــبـس، متـوتـّـر، سديــميّ، تـتـفـجـّــر شوارع الأراضي التونسية لتـعلن أن «الســيل بلغ الزبـى» وأن « الشعب يريد الحياة» الكريمة، ويرفض الاستبداد. ووصلت هذه الرسالة إلى العالم عـبـر الصور المؤثـرة لمواطنين يشعلون النار في أجسادهم قـُـربانا للحرية المنقذة، وآخرين يرفعون راية الخـبـز وينددون ب « زيــن الهاربـين « وحاشيته الفاسدة. ثم تلك الصورة الرائعة لشخـص يصيح في الشارع الكبير الفارغ متحديا حالة الطوارئ «.. تونس حــرّة، يحيــا الشعب، نحن اليوم أحرار...»، يـُدوي صوته وهو يدور حول نفسه ويصيح بكل كيانه ليسـجـل بداية تاريخ جديد ! ماذا تعني هذه اللحظات ومشاهد كثيرة تشعل الوجدان، وصلت إلى ملايـين المواطنين العرب في الداخل والخارج؟
تعني بكل بساطة، أن الشعب التونسي جــسـُـر على أن يفتح كــُـوّة مضيئة وسط السديم العربي وجماهيره الفاقدة للبوْصــلة. وهذه الثورة ليست معجزة لأن هناك شروطا مهدتْ لها، وقـُــوّى اجتماعية واعية قـررت أن تواجـه « ضـرورة «التغــيـيـر لتـرتــقـي إلى مستـوى الحرية والتحرر. فضـيلة الشعب التونسي أنه غـادر محطــة الانتظار، وكــفـَـر بالوعود والتصريحات الكاذبة، وقــرر أن يقاوم الطغيان والقمع والنهـب بالتضحية بالنفس وبذل الدماء واحتلال الشارع، وفضح النظام البوليسي ... على هذا النحو، استيقظت الجماهيـر المهانة، المقموعة، غير مبالية بالموت ولا بأسلحة عصابات الحكم الفردي. تحركتْ قــيم الفداء والتحرر فــهـَــزمــَـتْ قوى النهب والاستبداد. من هذا المنظور، يمكن القول بأن دينامية الواقع التونسي ومـلموسيــتـه فاجأت العالم و«تـحــدّتْ» انتظارية المثقفين وأحزاب اليسار، وأخذت تســائــل المثقفين والمفكرين العرب من مـوقع «متـقـدّم»، وتستـدعـيهم إلى إعادة النظر في وسائل بلوغ التـغـيـيـر الديمقراطي وبناء الدولة القطرية والقومية على أسس جديدة، بعد أن تحطمت «خـرافة» قبضة الدولة الحديدية وأجهزتها القمعية، وبعد أن تصدّرت قوى العمال ومختلف الطبقات ثورة التغيير بعيدا من الوصاية الإيديولجية الأصولية ... كيف، إذن، يمكن أن نتصور الخطوط العريضة لمسؤولية المثقفين العرب تجاه مرحلة « ما بعد الاستبداد « التي دشـّـنـتـها انتفاضة الشعب التونســي؟
المثقفون العرب وأسئلة انتفاضة تونـس
بعيدا من التفاؤلية المغرية، والمقارنة السهــلة نقول بأن تجربة تونس غير المسبوقة محفوفة بالمخاطــر، تـتــرصّــدُها فلول الرجعية المتحالفة مع الاستبداد ومصالح القوى الأجنبية المتواطئة، ولا يمكن أن نحولها إلى«حالــة» قابلة للتصديـــر إلى بقية الأقطار العربية، وكأنها وصفة سحرية قادرة على معالجة المجتمعات العربية من مصائبــها وأدوائــها! هي بالأحرى، حدث تاريخي بعيد الغــوْر يـنــبــهـنا إلى أن التاريخ يمكن أن يـُـغـيــر مجراه متى استطاعت القوى الحية أن تدرك مسالكه والشروط المسعفة على إنجاز التحولات الملائمة لمصالح المجتمع. وتحليل خصوصية السياق التونسي الذي قاد إلى التمــرد والانتفاض هو الذي يساعد على فــهـْـم خصوصية كل سياق عربي وربطه جدلــيــا ً بأفق الثورة التغــيــيــرية التي حان أوانها بالنسبة لمجموع البلدان العربية. فعلا، هناك سمات مشتركة في أزمـة المجتمعات العربية التي برزت ملامحها منذ ستينات القرن الماضي على الأقل. وهي سمات تعــود بالأساس إلى النظام السياسي وإشكالية بناء الدولة الوطنية باتجاه منطق العصـر، وإرساء قواعد الصراع الديمقراطي، وتنظيم تداوُل السلطة، وضمان العدالة وحقوق المواطنة؛ وإخــفــاق أنظمة الحكم بعد الاستقلالات في الالتحاق بالتاريخ هو ما أدى إلى السلطوية والاستبداد، ونشر القمع والزبونية، وقوّى الطائفية والتعصب، ومــهـّـد لصعود الأصولية، وطارد قوى الإبداع والتحــرر ... قد تختــلف التفاصيل من بلد عربي إلى آخـــر، ولكن سمات الأزمة السياسية الاجتماعية تظل متشابهة في الأساس، متناظــرة من حيث الأسئلة الجوهرية التي تطرحها مـُـجاوزة ُ هذه الأزمة. من هذه الزاوية، نعــتـبــر الهــبـَّـة َ التونسية جوابا عمــلـيا ملموسا على هذه الأزمة يستدعي التأمل والتحليل، كما يقتضي أن نعتــبـره حــلا ً من بين حلول أخرى ممكنة تستجيــب لخصوصية سياق كل بــلد على حــِــدَة. وإذا كنا لا نستطيع أن نتــنــبـأ بما ستؤول إليه انتفاضة تونس الشعبية البطولية، فإننا نستطيع أن نتوقف عند الأسئلة «المشتركـة» التي تطرحها هذه الانتفاضة على مجموع المثقفين العرب بوصفها أسئــلـة حيوية تلامس كل محاولة للتغــيــيـر والإطلال على المستقبل :
(1) أول سؤال يواجهنا، يـتصـل بشرعــية الأنظمة والحاكمين في البلدان العربية. هل الشرعية التي قامت على نوع من التوافق المتصل بفترة الكفاح من أجل الاستقلال، أو نتيجة انقلابات عسكرية تـدّعي الإصلاح وتلبية مطامح الجماهير، ما زالت سارية المفعول؟ أم أن أخطاء وقصور هذه الأنظمة ومسؤولياتها في الهزائم والنهب والفساد تــنــزع عنها هذه الشرعية وتـُـبـرر الدعوة إلى إرساء شرعية جديدة تـُـراعي ضرورات التغيير، ومطالب الجماهير الواسعة؟ في الواقع، سبق لعدد من المحللين والمفكرين أن شككوا في هذه الشرعية، وأوضحوا سقوطها نتيجة تحول سلطة الدولة إلى تــسلـط، ونتيجة انفصام المجتمع المدني عن المجتمع السياسي، واستـبـدال الشورى والديمقراطية بالاستبداد والقمع. وهذا ما يفــسـر التجاوب الكبير الذي لقيته الثورة التونسية في مجموع البلاد العربية، لأن نظام «زيــن الهاربين» فـقــَـد شرعيته منذ أمد طويل وظل يتكئ على العنف والقمع ومساندة الدول الغربية ذات المصالح الآنية والمـُـغرضة. إلا أن المطلوب من المثقفين العرب اليوم، هو الجهــر بسقوط شرعية الأنظمة، والحرص على ترجمة ذلك إلى مواقف ملموسة من شأنها أن تزيد من عزلة هذه الأنظمة، وأن تفضح خطـطـها الالتفافية التي تسعى إلى استمالة المثقفين والمبدعين عن طريق الجوائز المغرية، والمناصب التشريفية، والأوسمة التكريمية، ومشاريع «الإصلاح» الجوفاء (جائزة بن عليّ التي قبلها مثقفون مستنيرون، وكذلك جائزة القذافي المدافع عن رئيسٍ أطاحَــهُ شعبه...).
(2) غياب شرعية الأنظمة يقود إلى سؤال: كيف نعيد بناء شرعية جديدة تستجيب لمطالب الأغلبية وتقطع الطريق على الاستبداد، وتؤمـّنُ الصراع الديمقراطي السلمي والضامن للتغيير؟ هل يتم ذلك من خلال فرض الإصلاحات عبر الواجهة البرلمانية التي تتحكم فيها أغلبية أحزاب موالية للأنظمة؟ أم من خلال الدعوة إلى تنظيم أحزاب مستـنـيـرة تقدمية تستوعب تطلعات الشعب؟ أم بالنزول إلى الشارع وتغيــيـر الحاكمين الذين لم يستجيبوا لمطالب الجماهيـر؟ وهذا الحل هو ما اختاره الشعب التونسي باعتباره المقدمة الضرورية للوصول إلى نظام ديمقراطي.
(3) ما رأي المثقفين العرب في مشكلة الانتقال من الحكم الفردي إلى النظام الديمقراطي في سياق يتهــدده العنف وتدخـُّـل الجيش، وضغوط القوى الأجنبية؟ بعبارة ثانية، ما الذي يقتـرحه المثقفون العرب لحماية الانتفاضات والثورات الشعبية من أن «تـُــسـرَق» في غــمـرة الانتقال وتجديد القوى الرجعية لـجـِــلـْـدها؟ هل لــغـة الاعتدال والتصالح تحقق الغرض؟ أم أن الوقت حـــانَ لتجــذيــر التحليل والمواقف السياسية، باتجاه تحقيق العدالة والحكم الديمقراطي والتدبير المجتمعي العقلاني، وحماية الدولة من الذين يستغلـُّون الدين لأغراض سياسية، ومن الذين يمارسون السياسة لــنــهـْـب أموال الشعب والمتاجرة بالشعارات؟
أسئلة كثيـرة تخالج المثقفين والمفكرين العرب، من دون شك، وهم يتابعون ملحمة الشعب التونسي الذي استطاع أن يقنعنا بأن التاريخ العربي الحديث قادر على معــاودة الـسـيـْـر والانتماء إلى العصر، وأن الاستبداد عقبة أمام التطور والعدالة والكرامة. وهي أسئلة تـُـدشـن مرحلة جديدة في السياسة والثقافة، وتستدعي مراجعة العلائق بالماضي والحاضــر، والحرص على إنقاذ المستقبل من المخاطـر التي تـتهـدده. وكل ذلك يقتضي من المثقفين أن يعانقوا الصراحة والجرأة لأن ما حققه الشارع التونسي يؤكد أن الاستبداد يقوم على أرجـُــلٍ من طين، وأن النقد العميق، الجذري والشجاع هو ما يضمن الحرية والكرامة.