لقد قدم الشعب التونسي في الأيام الأخيرة الماضية كل ما يمكنه في حركته ضد القهر والاستبداد والحيف الاجتماعي، واستبسل في ذلك وقدم تضحيات جسام من دماء أبنائه وأرواحهم،رغم كل الظروف، ولئن كانت حركة الشعب غير مؤطرة منذ بدايتها الى حدود لحظات تسارع الأحداث بانهيار السلطة وفرار " بن علي" رغم محاولات النقابيين والسياسيين للقيام بذلك عبر التصريحات والبيانات والالتحاق بحركة الشارع في عديد المناسبات .فان الانهيار الشامل والمفاجئ لسلطة الدولة وأغلب أجهزتها الامنية أحدث حالة من الارتباك والفوضى في صفوف المواطنين وحتى الناشطين السياسيين والحقوقيين .لقد شهدت الحركة الاحتجاجية تناميا سريعا، صاحبه ميلاد مليشيات وعصابات نهب وتخريب يمكن تصنيفها الى قسمين حسب رويات شهود العيان والأخبار الواردة من كل الجهات، تشكلت الاولى في خضم الاحداث من شباب يائس ومفقر وجد طريقه الى التخريب والنهب كوسيلة للاسترزاق خاصة امام انهيار هيبة الدولة وحدوث الانفلات الأمنية، وهذه المجموعة يمكن تطويقها وايقافها بتظافر جهود المواطنين واللجان الاهلية لحماية الاحياء.
أما الثانية فانها منظمة بقيادة بقايا أتباع النظام السابق بهدف احداث الفوضى والخراب وترويع المواطنين قي عملية انتقامية تسعى الى ادخال تونس وشعبها في دوامة من العنف، وهذه مجموعات مسلحة يجب ان تتكاتف كل الجهود الوطنية من اجل وضع حد جذري لها وبأقسى سرعة خشية ان تتراجع قليلا وتتحول الى خلاية للارهاب المنظم، يجب اقتلاعها من جذورها وتتبع أصولها وتفرعاتها بشكل كامل .ان التغيير الحاصل اليوم في مؤسسات الحكم وان كان دستوريا (بالعودة الى الفصل 57 من الدستور) بعد رئيس مجلس النواب من الرئاسة المؤقتة بعد فشل محاولة المرور بالفصل 56 بشكل لا دستوري وما تبعه من رفض جماهيري وحقوقي، لم يكن في مجمله نتيجة مباشرة للخيار الشعبي ( وان كان على صلة به) الذي لم يكن في حسبانه وفي اعتباره طيلة شهر كامل مسألة البديل او التغيير الديمقراطي، فسنوات التصحر السياسي والإجماع الرتيب حول السلطة القائمة واستقالة المواطن الاجبارية عن ممارسة مواطنه منعته من التاهل سياسيا لتطارح هذه القضايا والتعامل مع مؤسسات الجمهورية بوصفها مؤسسات لادارة الارادة الشعبية والسيادة الوطنية، كما ان هذه المؤسسات واهمها مجلس النواب " السلطة التشريعية " لا تمثل التعدد والاختلاف الحقيقي بتونس كما أنها لا تعكس الارادة الشعبية، حتى تتمكن من استلام السلطة للإعداد الى التغيير الديمقراطي الشامل، مما يجعلنا أمام مهمة عسيرة ورهانات تاريخية صعبة من اجل تأصيل النظام الجمهوري وإعادة السيادة إلى الشعب وتمكينه من الادلاء بدلوه في عملية التغيير الديمقراطي المنشودة .
ان أحد الاخطار المحدقة بتونس اليوم تتمثل في امكانية تحويل وجهة عملية التغيير واستغلال حالة الاحتقان والغليان الاجتماعي ووجود الناس في الشوارع أصلا لفرض خيارات لا ديمقراطية على الشعب من ناحية أو فرض أطروحات معادية لقيم الجمهورية ( من قبيل الدعوة لدولة الخلافة) وهو في الحالتين نتيجة اساسية للعنصر الذاتي للحركة وهو عدم وعيها بعملية التغيير الشامل ومآلاته لذا فاني اعتقد ان خطوتين أساسيتين على الحركة الديمقراطية والتقدمية في تونس انجازهما بكل سرعة تتمثل الاولى في المطالبة بالغاء حالة الطوارئ العسكرية بأسرع وقت بوصفها حالة مؤقتة واستثنائية لاعادة الاستقرار الأمني تمثل معيقا للعملية الديمقراطية في جوهرها، وثانيها أن تتشكل في جبهة واسعة على قاعدة برنامج للتغيير الديمقراطي تكون تحالفا يصون مبادئ النظام الجمهوري ويؤصل الدولة العلمانية الديمقراطية،يقود الشعب في عملية التغيير الديمقراطي الشامل ويلتحم بالجماهير ليسلحها بأدواة الوعي اللازمة لادراك متطلبات استعادة السيادة الشعبية في ظل الجمهورية الديمقراطية لكي تتحصن ضد كل أشكال تطويع حركتها خدمة لمشاريع لا وطنية أو معادية للانيان وللحرية والعدالة الاجتماعية .
ان اللجان الأهلية لحماية الأحياء تتشكل بسرعة في كل مكان، انها في رأيي أهم درس يمكن استخلاصه من الأيام الأخيرة لأنها تمثل الاستعداد الطبيعي لأبناء شعبنا للتنظم في مؤسسات للادارة الشعبية، انهم النواتاة الأولى لمواطنة حقيقية و لديمقراطية حقيقية، علينا ادراك هذا الواقع والوعي به، وتحويله الى عمل ثوري لنشر نواتاة الرقابة والتسيير الديموقراطي، يجب أن تنتظم أكثر وتتوسع من مستوى حماية الحي الى تسيير ورقابة منطقة بلدية لتكون هيئات جهوية ووطنية واسعة تعوض القديمة البائدة والمتهرئة وتصفي بقايا مؤسسات الفساد و الديكتاتورية، انها أسس سيادة الشعب والضامن الوحيد لعدم انهيار عملية التغيير الديمقراطي الشامل،وهي تقطع الطريق بشكل نهائي عن كل امكانية للعودة الى الخلف .ان واجبات الجبهة الديمقراطية الوطنية تتمثل في المشاركة الفعالة ومن مواقع متقدمة في أشغال الحكومة الوطنية المزمع تشكيلها في نفس الوقت الذي تكون فيه جنبا الى جنب مع أبناء الشعب في لجان الاهالي للحماية والرقابة والتسسير، وان تتوجه ببرنامجها الى عموم الشعب هذا البرنامج الذي تكون اسسه أو توجهاته العامة كالتالي
- إنشاء مجلس دستوري يتألف من قضاة ورجال قانون وشخصيات مشهود لهم باستقلاليتهم عن الحزب الحاكم، يتظلم لديه المواطنون والشخصيات المعنوية، ويشرف على صياغة القوانين الخاصة بهذه المرحلة الإنتقالية
- أن يكون، الإقتراع العام الحر والمباشر، الوسيلة التي يعبر بها الشعب عن إرادته ويختار من يحكمه ومن يمثله، والمصدر الشرعي الوحيد للسلطة، وذلك بإخضاع كل هيئات التسيير والمسؤوليات للإنتخاب وسحب الثقة، وجعل السلطة التنفيذية تحت مراقبة السلطة التشريعية، وأن تكون المؤسسات التمثيلية مؤلفة على قاعدة التمثيلية النسبية حتى تساعد على إشراك كل القوى والفئات في الحوار والتسيير والقرار.
- منع الترشّح، للمسؤولية أو التمثيل البلدي أو الولائي أو النيّابي، لأكثر من دورتين متتاليتين، بما في ذلك رئاسة الجمهورية.
- ضمان الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان واعتبارها غير قابلة للنقض.
- الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء.
- التنصيص على علوية الدستور وتمكين القضاة من حقّ إزاحة القوانين التي لا تتماشى مع روحه.
- إلغاء القوانين غير الديمقراطية وتعويضها بأخرى تحمي الحريات وتضمن ممارستها.
- احترام حرية المعتقد، على أن تكون الدولة محايدة تجاه المعتقد، وأن يحجر توظيف الدين والمساجد والجوامع وبيوت الصلاة في السياسة من قبل أي كان في السلطة والمعارضة
- بناء اقتصاد وطني تضامني عبر مراجعة الإختيارات الإقتصادية والإجتماعية في اتجاه بناء اقتصاد وطني يلبي حاجيات السوق الداخلية في إطار من التكامل المغاربي والعربي والتعاون الإقليمي والعالمي على أساس التكافؤ، ويحمي الشغالين والكادحين من الإهتراء المادي والمعنوي ويفتح أفاق التشغيل أمام الشباب.
- الدفاع عن المكاسب الحضارية والإجتماعية والثقافية للمجتمع التونسي وعلى الجانب النير والعقلاني من التراث العربي والعمل على تطويره والإرتقاء به إلى المستوى الذي بلغته الإنسانية من تطور وتقدم وفتح المجال للثقافة الشعبية والتقدمية كي تنتعش وتأخذ مكان الصدارة في مخططات السلطة والتخلّي الواضح على دعم الثقافة ذات المضامين الهابطة والرجعية، والتفاعل الإيجابي مع الثقافة التقدمية العالمية. ان عملية التغيير الديمقراطي الشامل عملية طويلة حتما تستوجب عملا حثيثا واستعدادات جبارة من انصار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية واحساس عالى بالمسؤولية والطوع ووحدة متينة في صفوفهم، لتقدم جماهير الشعب التي تعلمت الخروج الى الشوارع ( بشكل قاسي ومؤلم ) في هبة تاريخية للرفض و الربط معها حتى لا تعود الى سباتها .
معا من اجل الجمهورية الديمقراطية