قبل عقود خلت، طرح الشاعر أبو القاسم الشابي برنامجه الوطني والقومي على شعبه وأمته... طرحه ورحل مسرعاً عن دار الدنيا إلى دار البقاء، غادر وهو لم يزل بعد في ريعان شبابه الذي لم يطل. كان قد أوجز كافة بنود هذا البرنامج، المبادئ والمنطلقات، المهام والأهداف، ومن ثم محتوم النتائج الموعودة... طرحها كلها في بيت شعر واحد:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
وهذا الشعب... في هذه الأيام التونسية الخالدة، في انتفاضته المفاجئة للجميع، الأعداءً والأصدقاءً وحتى منتفضيه، والتي هي ثورة شعبية حقيقية، يعود امتياز حق احتكار ملكيتها كاملاً لمنتفضيها وحدهم، والتي لها خصوصيتها وجغرافيتها وتداعياتها وفرادتها التي انفرد وحده بها... هذا الشعب يستعيد شاعره أبو القاسم مرة أخرى، ويستقدمه إلى دار الدنيا ليتوجه قائداً أوحداً وملهماً خالداً، بعد أن طبق برنامجه كاملاً بامتياز، بنداً بنداً وخطوة خطوة وقطرة دم تلو الأخرى... سار خلفه من سيدي أبو زيد وحتى قضبان وزارة الداخلية في تونس العاصمة... سار خلفه وحده حيث لا من قائد لثورته الشعبية هذه حتى استجاب له القدر، تماماً كما كان قد وعده شاعره ذات يوم قبل رحيله...
إذن، ليتوقف المحللون والمفسرون والمجادلون... وليكف المزيفون والانتهازيون وصانعو الاشاعات، ولتختف عصابات الثورة المضادة وتتوارى فلول النظام الزائل، وتذهب رموزه الباقية المغيرة الآن جلدها لا جوهوها، وليرعو الملتفون السارقون للوهج التونسي داخلاً والمتآمرون عليه المخادعون خارجاً. كان بيت أبو القاسم البرنامج هو وحده ما سواه ما قد اختصر كافة الأسباب الكامنة وراء هذا البركان التونسي الكانس للديكتاتورية، وضمانة استمرار زخمه، وحتى انجاز آخر بند في بنوده والتي لاعودة عن تحقيقها... لم يكن الرغيف وحده، كما يحاول البعض الاقتصار عليه مفسراً، ولا للانفكاك من قبضة قهر الاستبداد الشنيع الذي طال لعقود حالكة السواد، كما يحاول البعض محللاً والبعض معترفاً مكرهاً... وإنما كان أولاً وأخيراً إعلان حاسم عن إرادة حياة... عن حياة، هي الرغيف والانعتاق والكرامة والتقدم والمستقبل، ولتضف من عندك ما شئت...
وعليه، فليتوقف المحللون والمفسرون... أبو قاسم الشابي هو وحده من قاد هذه الثورة الشعبية الظافرة، لأن النخب قد غابت عنها أو غيّبت، لأن الاستبداد إما بددها في المنافي أو غيّبها في السجون، أو دجّنها وطوّعها واستخدم المُدجّن والمطواع ومؤثر السلامة منها أتراساً بائسة في آلة قمعه واستبداده الشرهة، أو أبواقاً مأجورة نابحةً، أو متكيفة تسبح بحمد شمائله الرهيبة... لم يكن هناك أحزاب فاعلة تلتقط اللحظة وتتقدم المسيرة الجارفة لأنها قد جرى لها ما جرى للنخبة. إما حُذرت أو حُذر الفاعل ذو القواعد الشعبية منها، أو حجّمت لتبقى مجرد عناوين معزولة عن شارعها ولا حول أو تأثير لها، أو هي دجّنت لتصنع منها الديكورات المطلوبة لتزيين الاستبداد وتزويقه وشرعنته. وما لم يحجم أو يدجّن منها، فعليه أن يختار، إما المنافي أو السجون وما بينهما المقابر... لذا، ولأول مرة، وهنا تأتي الفرادة التونسية، قاد الشعب نفسه بنفسه وثار مضحياً وانتصر بدون قيادة أو طليعة فوجد أبو القاسم مكانه في غرفة العمليات الثورية، إذ ناب عنه بيته الخالد... أما النخب والأحزاب والكفاءات المغيبة لأمد فلحقت لاهثة بالركب... قاد الشعب التونسي نخبه وأحزابه وكفاءاته، وقال للدنيا: كذب المنظّرون ولو صدقوا...
إنما هي كانت انتفاضة ثورية فريدة ولها خصوصيتها... ثورة شعبية كاملة الأوصاف... هبة حضارية فريدة لها دلالاتها التي لم ولن تطفئ نورها المنبلج الأفواه الطوفانية الضجيج لإعلام غربي وامتداداته أو أصدائه العربية، ينضح خبثاً ويجتر تشكيكاً ويوالي تشويهاً وتضليلاً. وكانت كل هذا ولها ما بعدها ولها معانيها الخطيرة بالنسبة لاعدائها، والتي سوف يلهث وراء ما عنته المحللون والمتآمرون... أولها، أن هذه الأمة، بالعربية الفصحى والتونسية الدارجة، ليست عاقراً ولاهي استمرأت استكانةً أو قبلت خضوعاً أو ارنضت خنوعاً، وإن بدى بعض هذا منها لغير مدقق متعمق فهو إلى حين. وهي كما لم تسلم بسلام أعدائها فهي لم تسلم بتأبيد وكلائهم المستبدين المُطبقين على أنفاسها والعابثين بكرامتها... التونسيون أعلنوا نيابة عن العرب جميعاً بأن الأمة بدأت تفيق من غيبوبة فرضوها عليها... تبنّت، ابتداءاً من تونس، برنامج أبو القاسم الشابي ولا عودة عن تحقيق كامل بنوده... إذن، لا مناص من أن يستجيب لها القدر...
هي كانت فعلاً حضارياً مميزاً وغير مسبوق قبلها... ما يقارب المائة شهيد ومئات الجرحى، ولم يُخدش شرطي واحد... والنتائج كانت لدى الجميع أعداءً وأصدقاءً ومنتفضين غير متوقعة... لكنما علينا أن لا نغفل ما لا يُغفل، وننتبه إلى المتوقع، وهو أن الغرب المنافق المعادي، الذي يهب لنجدة حوت جانح على شواطئ ألاسكا أو أستراليا، ولا يكف عن رفع سوط إنسانيته الإنتقائية، وقميص ضحايا أحداث ساحة تيان آن مين في وجه صعود التنين الصيني، والذي استفاض في هجاء الدب الروسي في أوسيتيا أو تأديبه للثعلب الجورجي، هو ذاته الذي دمر العراق وطحن أفغانستان، ويذبح الفلسطينيين على مدار قرن، ويرعى منذ أن عرفناه كافة سوءات النظام العربي الرسمي... هذا الغرب الصامت ثم المنافق، هو كان الداعم بلا حدود للعهد التونسي البائد، وهو اليوم المعادي للعظم للأنموذج التونسي المذهل، وهو لن يسلم بخسارته في تونس وماقد يتبع فيما قد يستهدي بالانموذج التونسي من مواقع أخرى مرشحة في بلاد العرب، كما لن يتخلى عن الملتفين على إرادة الحياة التونسية أو ما قد يأتي من ارادات مثيلة تلحق... فهو إن تخلى عن أدواته كعادته، وكان منه للديكتاتور التونسي تماماً ما كان منه للطاووس الإيراني، فهو انما تخلى عنها لأنه من طبيعته أنه لا يتخلى عن مصالحه، ولا يضحي بها لحماية الساقطين من حماتها البائدين ويحاول صناعة من يخلفهم... وعليه حذار، حذار، فهم سيواجهون احتمالاتنا الثورية بمكائد ثوراتهم المضادة، فهم لا يريدون في تونس أو سواها حجراً أولاً يؤذن ببدء متواليه تتبعه في التهاوي في سلسلة أحجار الدومينو العربية الحبلى باحتمالاتها...
العرب التونسيون... العرب... يواصلون خيار البرهنة على إرادة الحياة، كتلة الأمة تفيق من غيبوبتها وليس من قوة قادرة بعد اليوم على أن تعيد المارد المنفلت من آساره القهرية إلى بائد القمقم الذي هشمه فقراء سيدي أبو زيد.
عن كنعان